مقالاتمقالات مختارة

علاج مشكلة انحراف توزيع الثروة في الإسلام

علاج مشكلة انحراف توزيع الثروة في الإسلام

بقلم مجدي محمد مدني

إن شريعة الإسلام هي الصالحة للحياة، كما أن عقائد المسلمين ومبادئهم هي ميزان التعديل، ومنهج الحكم، وعناصر الشهادة فيها تطابق المصلحة. وإيمان المسلمين بذلك واجب عيني على كل فرد في الأمة الإسلامية بحكم القرآن. وموضوع الانحراف في توزيع الثروات من الموضوعات التي تحتل مكاناً بارزاً على مستوى العالم؛ من حيث الجدل المثار حول تأثير تركز الثروات على التنمية الاقتصادية والاجتماعية الشاملة.

إن الإسلام دين المساواة والعدالة. والعلاقة بين المساواة والعدالة علاقة تراتبية، بمعنى أن التساوي بين البشر هو المقدمة الضرورية لبلوغ مقصد أعلى وهو العدالة. والانحراف في توزيع الثروة يعني عدم العدالة في توزيع الناتج القومي.

إن المنهج الفقهي في دراسة المعاملات الحديثة يقوم على دعامات ثلاثة، أولها: حق المجتمع الإسلامي أن يبتكر ما شاء من ألوان المعاملات، وأن يجاري النشاط الاقتصادي العالمي بالمساهمة فيه، والثانية: أن الأصل في المعاملات الإباحة، طالما لا يوجد نص بالتحريم، والثالثة: أن اشتمال المعاملة على ناحية من نواحي التحريم لا يكفي القول بتحريمها، بل لابد من دراسة هذه الناحية، ودراسة حال الناس في شأنها وهل يمكن التغاضي عنها تيسيراً على الناس ويسلك بها مسلك الترخيص، أو أنها معاملة تحتاج إلى تهذيب وتقويم العوج فيها. بهذا المنهج يمكن أن نعيد الشريعة إلى مجال الاقتصاد والمعاملات. ومن هذه المجالات محاربة الفقر، ويعتبر الانحراف في توزيع الثروة من أهم مؤشرات الفقر.

أشار القرآن الكريم إلى مشكلة الفقر وأسبابها، كما اهتم رسول الله ﷺ بهذه المشكلة، ووضع أسس العلاج، وحث على العمل والكسب الطيب والقصد في الإنفاق وزيادة الادخار والاستثمار في الطيبات، وقد استعاذ رسول الله ﷺ من الفقر والكفر وقرن بينهما، فقال ﷺ “اللهم إني أعوذ بك من الكفر والفقر، اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر، لا إله إلا أنت” (رواه أبو داود).

إن الإسلام يختلف عن النظام الرأسمالي في النظر إلى مشكلة انحراف توزيع الثروات وفي كيفية الحفاظ على عدالة التوزيع، ويعرف الفقر بأنه مرتبط بمستوى الكفاية، ومدى تلبية احتياجات الإنسان الأساسية. ويحث الإسلام الدولة على توفير حد الكفاية للفرد؛ ويُطلَق عليه أيضاً حد الغنى، وبالتالي رفع مستوى المعيشة. والانخفاض في مستوى المعيشة له بعدين، هما الفقر والبطالة، ولا يمكن تناول مشكلة الفقر دون تناول مشكلة البطالة. والبطالة نوعان؛ الأولى: بطالة إجبارية وتكون لأسباب خارجة عن إرادة الإنسان، ويستحق العاطل عن العمل في هذه الحالة الزكاة، والثانية: بطالة اختيارية؛ ولا يجوز في هذه الحالة أن يأخذ العاطل من الزكاة.

أما النظام الرأسمالي يعتمد على نظام الضرائب لعلاج مشكلة الفقر، ولم يحقق النجاح في ذلك، وأصبحت مشكلة التهرب الضريبي مشكلة رئيسة لأن هذا النظام يقوم على أسس مادية بحتة. وفي ذلك يقول اللورد كينز صاحب النظريات الرأسمالية الشهيرة أن هذا النظام فشل في بلاده (إنجلترا)، ولابد من علاج آخر.

ويوجد سؤالان:

السؤال الأول: لماذا لا يؤدي زيادة معدل النمو الاقتصادي وحده إلى تقليل الفجوة بين الغني والفقير؟

الإجابة: رغم أن الناتج العالمي قد زاد في القرنين الماضيين زيادة لم تحدث من قبل عبر التاريخ، فقد اتسعت الفجوة بين الأغنياء والفقراء، وتركزت الثروات على مستوى دول العالم، وداخل الدولة الواحدة؛ خاصة في الدول المتخلفة اقتصادياً، مما زاد من الفقر. والإجراءات الاقتصادية التي تهدف إلى تحسين المؤشرات الاقتصادية الكلية، وأهمها معدل النمو الاقتصادي وزيادة الاحتياطي لدى البنك المركزي واستقرار العملة؛ يصاحبها عادة ارتفاع شديد في الأسعار، وارتفاع الدين العام الداخلي والخارجي، وارتفاع تكلفة التمويل. مما يؤدي إلى زيادة الإحساس بالفقر ومزيد من الانحراف في توزيع الناتج القومي. وبالتالي فإن ما تعتبره الحكومات برنامج للإصلاح الاقتصادي من خلال الإعلام وعلى لسان المسؤولين، يعتبر من وجهة نظر المواطن انخفاض في مستوى معيشته؛ طالما استمر معدل البطالة مرتفعا والخدمات العامة المقدمة للجمهور متدهورة.

والنمو الاقتصادي لا يؤدي إلى تحقيق تنمية اقتصادية واجتماعية تعمل على تحسين مستوى المعيشة للمواطنين، إلا إذا اقترن ذلك بسياسات وبرامج تستهدف تحقيق عدالة وتوازن للاقتصاد القومي. والتوازن السليم بين تحقيق النمو الاقتصادي السريع وتوفير الحد الأدنى من الأمان أو العيش الكريم. والتشغيل هو الركن الأهم في البرنامج الاقتصادي لأن العمل هو الضمان الاجتماعي الفاعل، وهو حق للمواطن، ولا يمكن أن يترك ذلك للنظرية الاقتصادية بفرض أن معدل النمو سيحقق التشغيل.

السؤال الثاني: ما هو طبيعة الجدل القائم في العالم حول مشكلة توزيع الثروة؟

الإجابة:  ما زال الخلاف قائماُ في مسألة آثار تفاقم عدم العدالة في توزيع الناتج القومي في الكثير أو معظم دول العالم. خاصة أن شرائح الأثرياء تستفيد كلما ازدادت المسافات بينها وبين باقي المجتمع. واتضحت هذه المسألة بشكل كبير عندما قدم 400 ملياردير ومليونير أمريكي رسالة إلى الكونجرس لمناشدته عدم تخفيض الضرائب على أمثالهم، وذلك في ديسمبر عام 2017م. وانطلقت رسالة رافضي تخفيض الضرائب من أن ذلك يزيد من عدم المساواة الاجتماعية، لأن اللامساواة وصلت إلى وضع كارثي أكثر مما كان الوضع عليه في الكساد العظيم أي قبل اتباع سياسة “نيو ديل” لمواجهة هذا الكساد. وأكثر من ذلك فقد دعى أصحاب هذه الرسالة إلى زيادة الضرائب على الأثرياء، ونبهوا إلى أن تخفيض الضرائب يخفض من الانفاق على الصحة والتعليم والخدمات الأساسية.

وفي المقابل؛ يرى أنصار مبدأ تخفيض الضرائب أن ذلك يؤدي إلى زيادة الاستثمار على أساس أن الأموال التي ستتوفر للشركات نتيجة تخفيض الضرائب ستوجه للاستثمار. أي أن تخفيض الضرائب من وجهة نظرهم يعود بالخير على الاقتصاد وعلى المجتمع، وليس العكس.

ويوضح المثال السابق الجدل القائم في عدد كبير من دول العالم حول آثار زيادة ثروات الأثرياء في العالم على الاقتصاد وعلى المجتمع، وهل هي نعمة أم نقمة؟

ولمقارنة الوضع بين النظم الوضعية من ناحية وبين الإسلام من ناحية أخرى في النظر إلى الانحراف في توزيع الثروة، فإن عناصر علاج هذه المشكلة تختلف من الأساس، ويتضح ذلك من الآتي:

1. نظرة الإسلام إلى المال تختلف من الأساس فالمال مال الله، والإنسان مستخلف فيه، يقول الله تعالى:﴿وَأَنفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيه﴾ (الحديد: 7)، ويقول الله تعالى: ﴿لهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى﴾  (طه: 6). ويقول سبحانه وتعالى: ﴿وَآتُوهُم مِّن مَّالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ﴾ (النور: 33).

2. نظرة الإسلام إلى الرزق هي الإيمان بأن الله تعالى يملك خزائن الرزق، يقول الله عز وجل:﴿ وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ، فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُون﴾ (الذاريات: 22-23). ويقول سبحانه وتعالى: ﴿وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا ۚ كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ﴾ (هود: 6). ويقول الله عز وجل: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ﴾ (البقرة: 172).

ويقول رسول الله ﷺ: “لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها وأجلها، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب، خذوا ما حل، ودعوا ما حرم” (رواه البيهقي وابن ماجة).

3. الدعاء والاستغفار من موجبات الرزق: يقول الله عز وجل: ﴿َقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا، يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَارًا، وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَارًا﴾ (نوح: 10-12). ويقول سبحانه وتعالى: ﴿وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُم مَّتَاعًا حَسَنًا إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى،  وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ ۖ ﴾ (هود: 2-3). وقد استعاذ رسول الله ﷺ من الفقر، فقال صلى الله عليه وسلم: “اللهم إني أعوذ بك من الكفر والفقر، اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر، لا إله إلا أنت” (رواه أبو داود). ويقول الله تعالى: ﴿َوَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَىٰ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَٰكِن كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَۖ ﴾  (الأعراف: 96)

4. أهمية العمل والضرب في الأرض: يقول رسول الله ﷺ: (إن أطيب ما أكلتم من كسبكم” (رواه أحمد والترمذي)، والهجرة من مكان إلى مكان طلباً للرزق الطيب، والاستخدام الرشيد للموارد الطبيعية التي سخرها الله تعالى للإنسان، والاقتصاد في النفقات وتجنب الإسراف، يقول رسول الله ﷺ: “من فقه الرجل قصده في المعيشة” (رواه أحمد)، والادخار والاستثمار, ويقول رسول الله ﷺ: “اتجروا في أموال اليتامى حتى لا تأكلها الصدقة” (رواه الطبراني في الأوسط – صحيح)، وقال الحسن البصري: “رحم الله امرأ اكتسب طيباً، وأنفق قصداً، وقدم فضلاً ليوم فقره وحاجته”

5. إن للإسلام في إعادة توزيع الثروة سياسة حكيمة عادلة؛ تتفوق على الأنظمة الغربية المالية في عصرنا الحالي. فكما أن الإسلام يعد العمل هو الأساس والسبب الوحيد للكسب والملكية، سواء عمل الجسم أو الفكر، فإنه يحرم الربا، لأن النقود في ذاتها ليست سبباً من أسباب الكسب الصحيحة. كما يحدد الإسلام طرق تنمية المال، ولا يقر أي وسائل غير مشروعة مثل الغش، والقمار، والاحتكار، والاستقطاع من أجور العمال لكي يزيد الربح.

6. الزكاة ودورها في خفض البطالة ومحاربة الفقر وتقليل الانحراف في توزيع الثروة: إن أهم مشكلة يمكن من خلال الزكاة حلها؛ هي مشكلة التفاوت الاقتصادي الفاحش؛ حيث يعمل الإسلام على عدالة التوزيع، وتقارب الملكيات في المجتمع. والزكاة أول تشريع منظم في سبيل الضمان الاجتماعي وإعادة توزيع الثروة لصالح الفقراء، والدولة هي التي تجمع هذه الضريبة وتتولى انفاقها بنظام معين، وفي يد الدولة أيضاً أن تفرض ضرائب لكل وجه آخر (مثل ضريبة للتعليم أو الصحة أو الضمان الاجتماعي..) تعجز الموازنة العامة على الإنفاق عليه. قال رسول الله ﷺ لمعاذ بن جبل حين أرسله إلى اليمن: “..أعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم” (رواه البخاري ومسلم).

7. الحث على الصدقات التطوعية بصفة عامة، يقول رسول الله ﷺ: “على كل مسلم صدقة، قالوا: أرأيت إن لم يجد؟ قال ﷺ: يعمل بيده فينفع نفسه ويتصدق، قالوا أرأيت إن لم يفعل؟ قال ﷺ: يعين ذا الحاجة الملهوف، قالوا أرأيت إن لم يفعل؟ قال ﷺ: يأمر بالخير أو العدل، قالوا أفرأيت إن لم يستطع أن يفعل؟ قال ﷺ: يمسك عن الشر فإنه له صدقة” (رواه البخاري ومسلم).

8.  كما أن للعمل الخيري المتمثل في الصدقة الجارية دور هام في علاج الانحراف في توزيع الثروة، وتجلى ذلك بوضوح في نظام الوقف الإسلامي عبر أغلب المراحل التاريخية. قال رسول الله ﷺ: “إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: “صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له” (رواه البخاري ومسلم). وهذا المفهوم يحقق التكافل الاقتصادي بين أفراد الأمة وينمي الروابط والعلاقات الاجتماعية.

(المصدر: إسلام أونلاين)

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى