منهجية التعامل مع السنة النبوية دون إفراط ولا تفريط
بقلم إدريس أحمد
إن مما يتعجب منه المسلم اليوم جنوح بعض أفراد الأمة إلى التشدد في الأحكام الشرعية وتضييق أمور تتسع للخلاف، وزعم أن كل محدثة في الدين بدعة مع عدم التفرقة بين ما كان أصله الاجتهاد ، وبين ما ورد فيه النص، وفي الأحكام التي جاء فيها النص لا يدركون إن كانت دلالته على الواقع واضحة صريحة أم كانت ضمنية ظنية، بل لا يلتفتون إن كانت بعض هذه الأحكام الشرعية توافق الكليات الأساسية للشريعة الإسلامية أو تخالفها، وهذه القواعد إن كان أهل البصيرة في شؤون المسلمين يلجؤون فيها إلى الاجتهاد وإعمال النظر، نرى عددا من الشباب يقتحمونها دون روية ولا عدة، ويحسبونها أمرا هينا وهو عند الله عظيم، وأدى فعلهم هذا إلى التسرع في إصدار الفتوى والتعنت فيها، وإلقاء الشدائد على الناس، ورمي شهود العلم بالفسق والزندقة، والشتائم التي لا تنتهي مداها، ولا تعرف عراها.
نرى بعضهم يفتي بقوله إن احتفال الشخص بيوم ميلاده بدعة، وتجهيز العقيقة بالطبخ ودعوة الناس إليها بدعة، وختم القرآن الكريم بمقولة “صدق الله العظيم”، أو افتتاح المحافل بقراءة بعض آي الذكر بدعة، والمصافحة بعد صلاة الجماعة أو قولك : تقبل الله منا بدعة، والتصوير الفوتوغرافي حرام .. وغير ذلك بحجة أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفعله، وحق له أن يفعله ولِمَ تركه ؟!
وهذه الفئة من الناس بهذا الموقف خالفت منهاج الشريعة الغراء في عدة مواقف:
– دعوى العلم : هذه الجموع من الناس في الغالب متعالمون، لا يجيدون إلا مقدمات العلوم، واستعجلوا التصدر قبل النضج، والشرع الحنيف حذر بشدة من هذه الصنيعة لأن خطرها في المجتمع غير محتمل، يقول المولى سبحانه: (وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا) .
– هجر العلم وأهله : التعالم والتسرع في إطلاق الأحكام على قضايا غير منصوصة عليها، يولد الجهل وضبابية الفهم في المجتمع، لأن طبيعة هذه القضايا غالبا تحتاج إلى علماء يضعون لها حلولا وفتاوى مناسبة، وتستدعي أحيانا الاجتهاد وبعد الفهم بما يحتف بالواقع من الملابسات، ويحصل ذلك بالأناة والرفق، وهذا ما لا يقدر عليه قليل البضاعة في العلم ، فيتهور بفتاواه ويحمل الناس على الجهل والصعاب، خصوصا إذا وجد وسيلة إعلام تروج عنه سلعته، فيكثر الجهل وينتشر، ويقل العلم، وكلما صعدت وتيرة التعالم في المجتمع هجر العلم وأهله، وهذا ينافي خطاب الدين الحنيف يقول المولى سبحانه: (فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ. بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ)، وأغرب من ذلك أن المتعالم يكسب شهرة على حساب العلماء الربانيين، ربما لسلامة لسانه، وحسن هيئته، أو جهالة من حوله، وأتمثل هنا قول الإمام مالك: ترى الرجل ولا يلحن حرفا وعمله لحن كله.
– معاملة المخالفين بالسلبية والانتقاص : يتصف المتشدد عادة بانتقاص العلماء وبسط عيوبهم بين الأنام، والمجاهرة بمعاداتهم لأمور تعد من الفروع لكنه يضخمها، ويعطيها أكثر مما يستحق، بل يذهب بعضهم إلى تهمة المخالفين في الدين والعرض ! ويرميهم بالتساهل والتمييع، وممالأة أهل الأهواء، وسبب ذلك كله قلة العلم وضيق الأفق، وقديما قيل: الإنسان عدو ما يجهله!
بلغ الأمر ببعضهم يفسق عالما كونه رأى رأيا يخالف سنة نبوية محتملة، ولعله رجحه بتأويل سائغ، اختفى عن المتعالم، ولم ير لائقا أن يستفيد منه، ومن عَلِم حجة على من لا يعلم! لماذا يلجأ إلى تلفيق التهم ضد أخيه المسلم والتعرض لعورته ؟ هل لكونه خالف تشدده ؟ أم لأنه لا ينتمي إلى فريقه أو حزبه! أين إذاً الإنصاف الذي أمرنا به قولا وفعلا واعتقادا، مع العدو قبل الصديق ؟! ألم يقل المولى سبحانه : (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى) ؟
إن من يطلع على منهاج الشريعة الغراء يدرك بلمسة بسيطة أنه يتميز بالتيسير والتخفيف ورفع الحرج والمشقة عن الناس، حتى أصبحت هذه الميزة قاعدة أصلية، وكلية أساسية بنى الشرع عليها وأناط بها التدين، والأدلة عليها من الشرع – وإن تعددت سياقاتها وتنوعت عباراتها- كثيرة، وإذا أتى أمر من الشرع يخالف هذا المسار – وهو مستحيل- كانت العادة أن يصاحبه التخلفيف، كما تقع في بعض الحوادث الطارئة يتعذر فيها على الناس القيام بأمر من التكاليف الشرعية، وتأتي الرخصة الشرعية للتخفيف عنهم كحال المسافر والمريض والشيخ.
إذا تقرر أن التخفيف والتيسير قضية كلية تشريعية كبرى راعاها الشارع سبحانه وتعالى، وهو أرحم بعباده، ولماذا يفضل بعض الناس التشدد ويزعمونه من التدين؟ لا أعرف أي شيء يربط بين التدين والتشدد! يظن البعض أن التمسك بالسنة النبوية يكمن في التشدد وهجر المخالفين، وهو بذلك من حيث لا يدري يفرق أكثر مما يجمع، وينفّر أكثر مما يقرب، والمؤمن يألف ويؤلف، والبعض الآخر يتعبد الله سبحانه بتصنيف العلماء، بين الثقاة والمجروحين، لا يذر أحدا من أهل العلم البارزين من سفاهته، فكأن ميزان العدل معه وحده!
نشير هنا ونحن في صدد الكلام عن التمسك بالسنة النبوية إلى الحديث النبوي على صاحبه أفضل الصلاة والتسليم، وهو يرشد أصحابه إلى منهجية التعامل مع سنته صلى الله عليه وسلم حين قال: (فَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ، وَإِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ أَمْرٍ فَاجْتَنِبُوهُ)، وهذا الحديث كما قال النووي من قواعد الإسلام المهمة ومما أوتيه صلى الله عليه وسلم من جوامع الكلم ويدخل فيه ما لا يحصى من الأحكام.
وينطبق على المندوبات والمستحبات من العمل لأن الواجبات يتحتم فعلها فلا يتصور أن تدخل في هذا الحديث، ثم لا يمكن أن يكلفنا المولى سبحانه بما لا يستطاع، لكن حين القيام بهذه السنن يجب أن نراعي التوسط بين الإفراط والتفريط، كما ثبت في الحديث قوله صلى الله عليه وسلم : (إِنَّ الدِّينَ يُسْرٌ، وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلَّا غَلَبَهُ، فَسَدِّدُوا وَقَارِبُوا، وَأَبْشِرُوا..) والتسديد هنا موافقة ما أمر به الشرع، والمقاربة هي الاعتدال دون إفراط ولا تفريط.
وما ذكرنا من هذه المناهج يمكن أن نستخلص منه أن التشدد ليست له علاقة بالتدين، ويخالف منهاج التشريع الإسلامي، لأن الشارع يريد بالناس اليسر ولا يقصد الضيق والتعجيز، وكان من آثار التيسير أن يأتي أحدنا بما يستطيعه من المسنونات مع مراعاة الاعتدال وعدم الميل إلى التعقيد والتشديد.
أما ما يقوم به بعض الجماعات أو الأفراد المسلمة اليوم من التشدد والتعقيد وزعمهم أنه عبادة يتقرب بها إلى الله، وهو المنهاج الأمثل في التمسك بالسنة، فإنه ينم عن الجهل وضيق الأفق وسوء الخبيئة، ويجب على المسلم أن يحذر منه لأنه يخالف الشريعة ومنهاجها، ويخلق مجتمعا مليئا بالشحناء والبغضاء والتفرقة.
المصدر: الاسلام أون لاين.