عرض لكتاب نادر يفضح مدى تواطؤ الانتداب البريطاني مع اليهود
عرض د. إيهاب عويص
مـــرت عـــلينا قـــبل أيـــام ذكـــرى “الـــنكبة” الـــتي اخـــتار لـــها الـــسياســـيون يـــوم 1948/5/15م كـــتاريـــخ “لـــبدايـــة” قـــيام الـــعصابـــات الـــصهيونـــية بـــالمـــجازر والـــفظائـــع وأعـــمال النهـــب الـــتي أدت إلـــى طـــرد مـــا يـــربـــو عـــلى 750 ألـــفا مـــن الفلســـطينيين مـــن بـــيوتـــهم وأراضـــيهم، وهـــدم أكــثر مــن 500 قــريــة وتــدمــير المــدن الفلســطينية الــرئــيسية وتــحويــلها إلــى مــدن يــهوديــة بــعد تـــغير أســـمائـــها إلـــى الـــلغة الـــعبريـــة. ولـــكن انتشـــر فـــي الآونـــة الأخـــيرة نـــسخة مـــصورة مـــن كـتاب نـادر يـوضـح أن المـأسـاة الـحقيقية قـد بـدأت قـبل ذلـك بـثلاث عـقود مـن الـزمـن بـتواطـؤ فاق كافة التوقعات من الانتداب البريطاني.
الــكتاب طــبع فــي شهــر نــوفــمبر مــن ســنة 1938م، أي قــبل حــوالــي عشــر ســنوات مــن قــيام الـــكيان الـــصهيونـــي الـــغاصـــب. ويـــبدو أن أحـــد الـــعائـــلات الـــتي تـــوارثـــه قـــد قـــامـــت مـــشكورةً بـتصويـره ونشـره عـبر وسـائـل الـتواصـل. ولشـد مـا أعـجبني، فـقد حـاولـت الـبحث عـن طـبعة جـــديـــدة مـــنه قـــد تـــتوفـــر فـــي المـــكتبات، إلا أنـــني لـــم أوفـــق إلا بـــالـــعثور فـــي أحـــد المـــتاجـــر الإلــكترونــية عــلى نــسخة واحــدة مــن طــبعتها الــيتيمة، بــسعر عــال نســبيا، رغــم أنــها بــحالــة سيئة وبدون غلاف. وتـــكمن أهـــمية هـــذا الـــكتاب فـــي كـــون صـــاحـــبه كـــان شـــاهـــد عـــيان عـــلى تـــلك الـــفترة، وفـــي الــصور الــتي وثــقت الأحــداث المــذكــورة، خــاصــة وأن الــتصويــر والتحــميض وقــتها لــم يــكن بـالأمـر السهـل كـما هـو الـحال الـيوم، وبـالـذات بـالنسـبة للفلسـطينيين، وبـالأخـص بـالنسـبة لـتصويـر الجـرحـى فـي المسـتشفيات، أو الـعقوبـات بـحق المـواطـنين (مـنها ربـط أذن أحـدهـم بـحبل طـويـل وشـده)، والـتي أُخـذت خـلسة حسـب تـوضـيحه جـزاه الله عـنا كـل خـير. وحـتى تـــصويـــر المـــظاهـــرات كـــان مـــن مـــسافـــة بـــعيدة أو مـــن عـــلى الشـــرفـــات أو اســـطح الـــبنايـــات، وتصوير القرى والمدن المنكوبة كان بعد التفجير والاحراق. كـما تـكمن أهـمية ذلـك الـكتاب الـنادر أيـضاً فـي الـصور الأخـرى الـتي اسـتطاع صـاحـبه الـــوصـــول إلـــيها عـــن تســـليح وتـــدريـــب الـــقوات الإنجـــليزيـــة لـــليهود، ومـــقارنـــة ذلـــك بـــتصويـــر فلسـطينيين بـعد حـكم الاعـدام عـليهم بـتهمة الـحيازة لمجـرد مسـدس، أحـدهـم عـمره خـمسة وســــبعين ســــنة. بالإضافة إلــــى تــــوثــــيق أمــــثلة مــــن تــــدمــــير المــــساجــــد وأضــــرحــــة الــــصحابــــة رضـوان الله عـليهم وتـمزيـق الـقرآن الـكريـم. كـما تـضمن الـكتاب صـور تـدمـير مـنازل الـثوار بـعد سـلبها، وأخـرى لـسجن قـرى بـأكـملها عـن طـريـق بـناء سـياج مـن الأسـلاك الـشائـكة لا تـفتح إلا 3 مـرات بـالـيوم، ولمـدة نـصف سـاعـة لـكل مـرة. وحـتى صـور لـتدمـير واحـراق قـرى واحــياء بــل ومــدن بــأكــملها عــندمــا تــتكرر بــها الــثورة رغــم كــل ذلــك. والأدهــى أن المــدة الــتي كـان يـعطيها الإنجـليز لـلسكان لـنقل مـمتلكاتـهم قـبل الـنسف بـالـديـنامـيت كـانـت 24 سـاعـة، لا يســتطيعون اســتخدام إلا ســت ســاعــات فــعلية مــنها نــتيجة لــفرض حــظر الــتجول طــوال الــليل وبــقية الاجــراءات الــتي تــفرضــها قــوات الانــتداب عــليهم. و ُيظهــر صــاحــب الــكتاب أن ســــبب تــــلك الــــسياســــة الإنجــــليزيــــة الــــظالمــــة هــــو: “إجــــلاء الــــشعب الــــعربــــي عــــن بــــلاد آبــــائــــه وأجداده، وإحلال شعب غريب ُيجلب من آفاق الأرض محله”. وقـــــد عـــــدد فـــــي كـــــتابـــــه حـــــالات الـــــعصيان المـــــدنـــــي والمـــــظاهـــــرات، والـــــثورات الـــــتي قـــــام بـــــها الــسكان ضــد هــذا المخــطط الــظالــم، حــتى انــتهى إلــى الاضــراب الــعام الــدائــم الــذي بــدأ يـوم الأحـد 1936/4/19م، ثـم تـطور إلـى الـثورة الـكبرى “الـتي امـتدت حـتى يـومـنا هـذا – تشرين الأول 1938م – ولاتزال في منتهى شدتها” (أي وقت طباعة الكتاب). ورغـــم أن الاحـــتلال الانجـــليزي لفلســـطين كـــان فـــي ســـنة 1917م، إلا أن صـــاحـــب الـــكتاب اعــتذر عــن عــدم تــوفــر صــور لــديــه قــبل ســنة 1921م (وهــي الــسنة الــسابــقة لإقــرار “عــصبة الأمــم الانــتداب الانجــليزي عــلى فلســطين بــشكل رســمي عــلى أســاس وعــد بــلفور). ولــكن السـبعة عشـر عـامـاً الـتي وثـقها فـي كـتابـه (1921-1938م) كـانـت كـافـية لـتكشف لـنا مـدى وحـشية الـعصابـات الـيهوديـة، وتـغولـها عـلى الفلسـطينيين تـحت حـمايـة الإنجـليز، سـواء فـي المـدن بـإلـقاء قـنابـل فـي الأسـواق المـكتظة وعـلى المـصلين فـور خـروجـهم مـن صـلاة الجـمعة. أو فـــي الـــقرى بـــالإغـــارة عـــليها ونهـــب المـــمتلكات وتـــدنـــيس المـــقدســـات وتـــرويـــع الآمـــنين عـــن طـــريـــق الاعـــتداء عـــلى الـــنساء والأطـــفال، وقـــذف “مـــاء الـــفضة” عـــلى اجـــسادهـــم لحـــرقـــها وتشويهها، واتلاف عيونهم بواسطة الرش. والـعجيب أن هـذا لـم يحـدث فـقط تـحت نـظر وحـمايـة الإنجـليز، بـل يـروي لـنا قـصة حـدثـت خـــلال الـــثورة الـــثانـــية فـــي 1921/5/1م تـــثبت تـــورطـــهم المـــباشـــر بـــحقد تـــقشعر لـــه الأبـــدان: “وكـان مـن وقـائـعها أن الإنجـليز أسـروا مـرة أربـعين جـريـحاً عـربـياً بـعد مـوقـعة جـرت بـينهم وبــين الــعرب بــجوار مســتعمرة مــلبس الــيهوديــة، فــجاءوا بــهم إلــى هــذه المســتعمرة، وعهــدوا بهم إلى اليهود، وهناك أجهز عليهم اليهود وقتلوهم شر قتلة”. ولـــم يـــملك غـــالـــبية الـــسكان غـــير المســـلحين مـــا يـــدفـــعون عـــنهم هـــذا الـــبلاء إلا بـــالمـــظاهـــرات، ورغـم ذلـك كـانـت انـتقام الإنجـليز قـاسـيا جـدا، فـداسـوهـم بـأقـدام جـيادهـم، وعـلقوا قـادتـهم عـــــلى أعـــــواد المـــــشانـــــق، بـــــل وأحـــــد الـــــصور كـــــانـــــت لـــــشهيد بـــــقر الـــــجنود الانجـــــليز صـــــدره بحـرابـهم. وحـتى المـساجـد لـم تحـميهم، فـأحـدهـم أُطـلق الـنار عـلى وجـهه مـن مـسافـة قـريـبة فــور خــروجــه مــن المسجــد، أدت إلــى قــتله وتــشويــه وجــهه تــمامــا. بــل وكــان الــجنود الإنجــليز يتحـرشـون بـالمـتظاهـريـن السـلميين عـن عـمد ليسـتفزوهـم، فـلا يجـدون مـا يـدافـعون بـه عـن أنفسهم إلا برمي أحذيتهم والحجارة، ليبدأ القتل والتنكيل بهم من كل جانب.
ثــم وصــف صــاحــب الــكتاب أحــد الأســالــيب الــدنــيئة الــتي مــارســها الإنــكليز ضــد المــدنــيين، وأطـلقوا عـليها أسـم “الـتفتيش” ومـا هـي بـالـتفتيش كـما أوضـح، بـل كـانـت “عـملية تخـريـب وتـــفظيع، وتـــعذيـــب وتـــقتيل، وســـلب ونهـــب”؛ حـــيث يـــدخـــلون كـــل يـــو م تـــقريـــباً عـــلى قـــريـــة أو مـديـنة صـغيرة فـيتصيدون بـعض رجـالـها بـالـرصـاص ويـضربـون آخـريـن، ويـقتلون المـاشـية. ثــم يــدخــلون الــبيوت والــحوانــيت بــدعــوى تــفتيشها فيخــربــونــها ويكســرون الابــواب والــنوافــذ ويحــطمون الأثــاث والأوانــي، ويــمزقــون الــقرآن، ويــتلفون الــثياب والمــؤن بخــلطهم عــن عــمد حــتى لا يــنتفع بــأي مــنهما، ثــم يــصبون فــوقــها مــا يجــدونــه مــن الــسمن والــزيــت والــبترول. وبــــعد أن ينهــــبون مــــا تــــصل إلــــيه أيــــديــــهم مــــن الــــنقود الحــــلي والأشــــياء الــــثمينة يجــــمعون الأهـالـي لـيسوقـونـهم إلـى مـكان خـارج الـقريـة، حـيث يـفتشونـهم مـنفرديـن، ثـم يـتركـوهـم مـدة طــويــلة تــحت أشــعة الــشمس. وكــل هــذا مــوثــق بــالــصور، بــعضها حــصل عــليه مــعد الــكتاب مـن كـراسـة أصـدرتـها سـيدة إنجـليزيـة نـبيلة كـانـت تـقيم فـي حـيفا، هـالـها مـا ارتـكبه قـومـها مــن فــظائــع فــي قــريــة “إجــزم” بــجوار حــيفا، فسجــلت مــا أمــكنها تــصويــره، مــع تــوضــيحه باللغة الإنجليزية.
وكـــان مـــن نـــتائـــج الـــتفتيش وتـــفجير الـــقرى بـــالـــديـــنامـــيت وحـــرقـــها أن هـــاجـــر ســـكان الـــقرى والــبلدات إلــى المــدن الــكبيرة، حــتى لــم تــعد تــتسع المــساكــن فــأقــامــوا بــالمــساجــد والــكنائــس والــحوانــيت والــشوارع. وتــوســع الــيهود فــي مســتعمراتــهم. بــينما انــشغل الإنجــليز بــاعــتقال الأهالي من الشوارع وتحميلهم بالسيارات بالقوة ليقوموا ببناء الطرق وأعمال السخرة. الـكتاب يـعتبر بـمثابـة وثـيقة تـاريـخية عـن جـرائـم تـلك الـفترة الـتي لـم تـأخـذ حـقها مـن الـبحث بـــــعد أن غـــــطت عـــــليها جـــــرائـــــم أفـــــظع تـــــم ارتـــــكابـــــها بـــــعد عـــــام 1948م. ولـــــكن بـــــعد قـــــرائــته والاطــــلاع عــــلى الــــصور المــــوثــــقة فــــيه، نــــصل إلــــى نــــتيجة مــــفادهــــا أن جــــرائــــم الــــيهود بــــعد 1948م لـم تـكن إلا اسـتفحالاً لمـا بـدأتـه قـبل ذلـك بـثلاثـة عـقود، وأن تـلك الجـرائـم بـرمـتها لـم يـكن ليجـرؤ الـيهود عـلى الـقيام بـها لـولا حـمايـة ومـساعـدة الانـتداب الـبريـطانـي، الـذي وإن كـان يـدرك أي قـارئ لـلتاريـخ أنـه لـم يـكن يـقف عـلى الـحياد كـما ادعـى، إلا أنـني شـخصياً رغــم كــثرة قــرائــتي فــي ذلــك صــعقت فــعلاً مــن مــدى انــحيازهــم وتــواطــئهم ومــشاركــتهم، بــل ومدى دناءة أساليبهم في ذلك.
(المصدر: مجلة البيان)