مقالات

شيخنا العلامة محمد عبد القادر أبو فارس في ذمة الله

بقلم الشيخ ونيس المبروك

فقدت الأمة الإسلامية عصر الثلاثاء الثالث من نوفمبر 2015 م . علما من أعلامها ، وقامة سامقة من قامات العلم والعمل ، الفقيه الورع ، والداعية الموفق ، والمجاهد الرباني ، شيخنا الجليل الدكتور العلامة محمد عبد القادر أبو فارس ” أبو ساجدة ” رحمه الله.

ولد شيخنا في بلدة الفالوجة عام 1938 م ، التي احتلها العدو الصهيوني عام 1949، وكان والده رحمه الله معروفا بالشجاعة والكرم ، وكان جنديا في صفوف المجاهدين آنذاك ، وقد نشأ شيخنا يتيما بعد وفاة والده وهو ابن اثنتا عشرة سنة ، فهاجر إلى إلى مدينة الخليل التي أكمل فيها دراسته الابتدائية عام 1950 م ، بعد كفالة عمه أحمد يوسف أبو فارس له . ثم أنهى دراسته الثانوية في مدرسة الحسين بن علي في الخليل، وتخرج منها عام 1957. وبعد بعام واحد تم تعيينه مدرسا في أحدى مدارس أبو نصير وفي عام 1964 انتسب الشيخ إلى جامعة دمشق، لدراسة الشريعة الإسلامية، ثم انتقل إلى الدوحة حيث تعاقد مع وزارة المعارف القطرية للعمل كمدرس فيها. ثم انتقل للقاهرة وتحصل فيها على شهادة الدكتوراه مع مرتبة الشرف الأولى من جامعة الأزهر . وعمل شيخنا أستاذا في قسم الفقه والتشريع في الجامعة الأردنية وأستاذا مشاركا، ثم رئيسا لقسم الفقه في الجامعة ذاتها، وشغل منصب رئيس مجلس الثقافة والتربية والتعليم لجمعية المركز الإسلامي الخيرية، وله العديد من الرسائل العلمية داخل الأردن وخارجه، , وساهم في تأليف مناهج التربية الإسلامية في الأردن وعمان وقطر .

وقد تأثر الشيخ بالعلامة الدكتور عبد الغني عبد الخالق ، الذي اشرف على رسالته “القاضي أبو يعلى الفراء وكتابه الأحكام السلطانية” ، كما تأثر في فكره الحركي بصاحب الظلال الشهيد سيد قطب رحمه الله ، بل سرى هذا التأثر- في تقديري – على بعض الآراء الفقهية للشيخ بخاصة فيما يتعلق باجتهاده في النوازل السياسية.

و للشيخ – كما حدثنا – ورد صباحي داوم عليه عشرات السنين ، و لا يتركه إلا لمجاملة الضيف اضطرارا ، وهو تخصيص وقت الفجر للتأليف والتحقيق العلمي والمدارسة ، وقد تجاوزت مؤلفات الشيخ ستين كتابا في علوم الفقه والسيرة والتزكية والسياسة الشرعية ، … لعل أهم هذه الكتب ، فقه الإمام البخاري ، والمبسوط في فقه المعاملات ، والأيمان والنذور ، وأسس الدعوة الإسلامية ووسائل نشرها ، والفقه الجنائي في الشرع الإسلامي ، و حقوق المرأة المدنية والسياسية في الاسلام ، و المدرسة النبوية العسكرية ، و السيرة النبوية دراسة تحليلية ، و النظام السياسي في الإسلام ، و الابتلاء والمحن في الدعوات ، وأثر إسلام أحد الزوجين في النكاح ، وثلة من الأولين ، وغيرها من الرسائل والمقالات.

التحق الشيخ مبكرا بركب الحركة الإسلامية المعاصرة ، حيث انتسب في عام 1952 م لجماعة الإخوان المسلمين في شعبة الخليل ، ولم يكن يتجاوز حينها الأربعة عشر عاما. ثم تدرج في عدة مواقع قيادية ، فكان عضوا للمكتب التنفيذي في جماعة الإخوان المسلمين بالأردن ، وعضوا في مجلس الشورى ، ونائبا لشعبة صويلح ، ثم عضوا في مكتب الإرشاد العالمي للإخوان،
وقد كان ينفق وقته وماله للدعوة إلى الله ، وكان يرفض الاعتذار عن أي منشط دعوي إلا أن يكون ظرفا قاهرا ، ولازلت أذكر دخولي عليه في مسجد عبد الرحمن بن عوف وهو يلقي درسا في حضور سبعة رجال فقط ، وكيف كان يتكلم فيهم بحماسة ويدقق في المسائل كأنه يتكلم في جموع كبيرة ، ولو كان عالما غيره أو داعية من ” نجوم ” الدعاة ، لاعتذر وامتنع ، بل ربما لعاتب وغضب ، ولكنه تجرد الداعية ، وتواضع العلماء الثقات.

كان له رأي صارم في التعامل مع النظام الديمقراطي في نسخته الغربية ، ولا يراه طريقا للإصلاح والتغيير ، ولهذا ألف رسالته المشهورة “حكم المشاركة في الوزارة في الأنظمة الجاهلية” هو رأي تفرد به الشيخ آنذاك ، مما دفع بالشيخ الدكتور عمر الأشقر رحمه الله بالرد عليه في رسالته “حكم المشاركة في الوزارة والمجالس النيابية” وكان يفرق بين التعددية العقدية ، والتعددية السياسية ، فيقبل الأولى ويرفض الثانية إن كانت على أساس عقدي في ديار المسلمين.

عرفت كتب الشيخ قبل اللقاء به ، فلازلت أذكر أول كتاب نقرأه لشيخنا في منتصف الثمانينات عندما كنا شبابا نتحسس طريقنا لمعرفة تعاليم الإسلام ، وهو كتاب “أحكام الذبائح في الإسلام” وقد اضطررنا لمدارسة الكتاب رغم ضعف اهتمامنا بالأحكام الفقهية آنذاك ، نظرا لانتشار فتاوى جماعة التكفير التي كانت التي كانت تحرم أكل لحوم الذبائح ، فكان الكتاب حصنا لنا من تلك الفتاوى الشاذة . ومن لطائف التدبير وكرم البر الرحيم ، أن جمعني الله بهذا الرجل إبان فترة دراستي الشرعية في الأردن ، فسمعت منه ، وجالسته ، وتحاورت معه عن كثب ، وقرأت كثيرا مما كتب.

وكنت أتردد على منزله العامر بحي صويلح ، بعد صلاة الفجر حيث كان هذا هو الوقت الذي يخصصه الشيخ للتأليف ولقاء طلبة العلم وخواص الضيوف ، وكان رحمه الله يخصنا بالنصح والرعاية والتوجيه ، ولا يسمح لنا بالخروج حتى نشاركه مائدة إفطاره .
كانت بعض كتبه من مقررات الجامعة ، حيث درسنا له في الفقه المقارن و “الأيمان والنذور” ، و “أحكام الذبائح” ، وفي السياسة الشرعية “النظام السياسي في الإسلام” ، كما طالعت كثيرا من كتبه ورسائله وحاورته في بعض ما جاء فيها ، ككتابه “السيرة النبوية دراسة تحليلية”، و “فقه الإمام البخاري” ، و “منهج التغيير عند الشهيدين حسن البنا وسيد قطب”
وكنت أقطع مسافة لحضور خطبة الجمعة له قبل أن يمنع من الخطابة ، فقد كان للشيخ أسلوب فريد في الخطابة ، كان يستهوينا حينها معشر الشباب .

كان الشيخ رجلا مهيبا وقورا ، يفضل الجد في كل شيء ، يأخذ نفسه بالعزيمة ، ويميل قلبه لأهلها ، وكان يجهد نفسه لبلوغ المقاصد ، حتى أن أمه – كما حدثنا – تتعمد إطفاء السراج شفقة على بصره من المطالعة ليلا وهو صغير ، وكان رحمه الله يتحفظ على تساهل المفتى والمستفتي في شوؤن الفقه ، بل يأخذ بالأحوط ويفتي به من حوله ، ولكن كل من خالط الشيخ عن قرب ، سيجد أن للشيخ قلبا رحيما ، وذوقا رفيعا ، وحسا مرهفا ، بل كان رحمه الله تستهويه الدعابة ، ويتبسط في الحديث مع جليسه ، ويكره التكلف والتقعر – كما هو شأن بعض الشيوخ – وله حفاوة خاصة بأصحاب المروءة والكرم والتواضع ، ويوصي بالنساء خيرا ، ويفاخر بالصالحات منهن ، حتى أنه اختار كنيته الشهيرة “أبو ساجدة” خلافا لما درج عليه عامة الناس ..

ورغم مشاركة الشيخ في النشاط السياسي العام ، إلا أنه كان ينتقد بقوة تضخم الهم السياسي على الهم التربوي والدعوي ، وكان يقول لنا – ما معناه – : إن بعض الرجال يقدمون “الورد” السياسي على الورد القرآني ، وهو يقصد تقديم الجريدة على المصحف ، ويقول : ترى أحدهم يسهر الليل في جدل عقيم ، ولا يقف قانتا في الليل لله تعالى . ويحذر – رحمه الله – من غفلة الشباب عن تزكية نفوسهم والسمو بأخلاقهم ، ونشر الدعوة وخدمة الناس .

شجاعة الشيخ ، وصدقه ، وحدة طبعه ، أثرت في مسيرته الدعوية والسياسية ، حيث تم فصله من عمله بالجامعة عام 1985 م لأسباب سياسية ، واعتقل الشيخ عدة مرات أبرزها عام 1986 في قضية “جامعة اليرموك”. ، ثم اعتقل في عام 2006 م ، وهو عضو في البرلمان، بعد ذهابه لعزاء زعيم تنظيم القاعدة في العراق “أبو مصعب الزرقاوي”، ثم أفرج عنه بعفو ملكي بعد شهرين .
كان يقول : إن الأنظمة الموجودة الآن لا يرتجى منها خير ، لأن سياستها العامة تقوم على التحالف مع أعداء هذه الأمة ، ويرى أن يتوجه الدعاة إلى شعوبهم ويتجنبوا الإقتراب من هذه الأنظمة قدر الإمكان .

كان رحمه الله يأنف من العبودية ويكره العبيد ، وكان يقول لنا : ” أنا عندي أمل كبير بأنه سيأتي يوم تنتصر فيه هذه الأمة وتقيم دولة الإسلام وتحرر أوطانها ، ولكن علينا أن نتحرر نحن أولا ، فلا يمكن للعبد أن يحرر وطنا ولا يحمي مقدسا ، وكان يكرر علينا : إن ضريبة الذل أكبر بكثير من ضريبة الحرية لأن ضريبة الحرية تدفعها الشعوب مرة واحدة ثم تنعم بالخير والعزة ، أما ضريبة الذل فتتجرعها الشعوب مرة بعد مرة ، ولا تزداد مع قبول الظلم والعبودية إلا هوانا عند ربها وصغارا عند عدوها ، والحر إن عاش عاش كريما ، وإن مات مات شهيدا سعيدا “.

ترجل أبو ساجدة بعد طول نزال ، وطوت الأرض منارة من منارات العلم ، وعلما من أعلام الدعوة ، وترك في نفوسنا حزنا وأسفا ، وعزاؤنا أنه عاش للحق ، وخدمة الخلق ، وترك علما نافعا ، وسمتا سائرا ، وأثرا طيبا.

لقد كانت له همة عالية أتعبته ، ونفسا عزيزة رفعته ، ولا أذكر أني خالطت عالما يحمل في قلبه غيرة على دينه ، وتفانيا في خدمة وطنه ، وتجردا في نشر دعوته ، وحماسة في الدفاع عن فكرته ، وصرامة في بيان موقفه ، وغلظة على أعداء أمته ، .. كهذا الرجل .

لقد عركته الأيام ، وتناوبت عليه الحوادث ، وحاول الخصوم كسر عزيمته ، ولي قناته ، ولكنه كان كما قال شاعر الحماسة :

فـإن تكـن الأيـامُ فيـنا تَبـَدَّلَتْ** بِـبُؤْسى ونُعْمى والحوادثُ تَفعلُ
فـما ليَّـنَت منَّـا قنـاةً صـليـبةً** ولا ذلَّلـتْـنا للتي ليـس تجْمُلُ
ولكن رحـلنـاها نفـوساً كريـمةً **تُحمَّـلُ ما لا يُستـطاعُ فتحملُ
وقَيْنا بحسن الصبر منا نُفـوسَنا ** فَصَحّتْ لنا الأعراضُ والناسُ هُزَّل

رحم الله شيخنا الجليل ، وأنار بالسكينة قبره ، وقدس سره ، وغفر ذنبه ، ورزقه شفاعة سيد المرسلين ، وألحقنا به في الخالدين ، إنه بر رحيم .
إنا لله وإنا إليه راجعون .

المصدر: الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى