مقالاتمقالات مختارة

الظلم يؤذن بخراب العمران

الظلم يؤذن بخراب العمران

بقلم محفوظ الرحمن

ما أصدق ما قاله الفيلسوف الاجتماعي ابن خلدون «الظلم يؤذن بخراب العمران»

كم من أيام تختلج في صدري هذه العبارة التي تجدر بأن تكتب بماء الذهب والفضة وتسطر علي القلوب والأفئدة. وكثيرا ما ترن هذه النغمة الخلدونية في الأسماع إبان أيام الحجر الصحي وخلال تفشي فيروس كرونا في أرجاء المعمورة كلها فكنت أتساءل نفسي وأناقشه في هذا المجال وفي مصداقية قول ذلك الفيلسوف الفذ العبقري وواقعيته. مست حقيقته مائة بالمائة وأدركت صدقه كله في الظروف الحالية بين الشعوب والأجيال الراهنة وقبل أن نلم بالبحث في هذا الصدد أود أن أسرد قوله وتوضيحه في هذا المجال.

ماذا قال الإمام ابن خلدون رحمه الله:

فأولا عنون الإمام بهذه العبارة الحسنة والجملة البليغة الفصيحة ثم أطال الكلام وأسهب في تشريحها وبيان مطالبها ومما قاله: اعلم أنّ العدوان على النّاس في أموالهم ذاهب بآمالهم في تحصيلها واكتسابها لما يرونه حينئذ من أنّ غايتها ومصيرها انتهابها من أيديهم وإذا ذهبت آمالهم في اكتسابها وتحصيلها انقبضت أيديهم عن السّعي في ذلك‘‘ فحاصل ما قاله إن الظلم والاعتداء علي الناس بجميع معانيهما ومطالبهما قد يؤدي إلي البطالة والتقاعد عن الأعمال لأن العدوان السافر علي الناس في أموالهم مثلا يميت آمالهم وطموحاتهم في اكتسابها وتحصيلها لما أنهم في نهاية المطاف يشاهدون الظالمين والجائرين يقرعون أبوابهم و يدقون أقفالهم انتهابا لأموالهم التي اكتسبوها و سلبا لممتلكاتهم التي اجتاحوها بجهود بليغة وبأعمال متعبة في لمحة البصر وفي طرفة أعين، لا يبالون بأي مبالاة ولا يحتفلون.

وإن من القواعد المقررة بين الناس في هذا الكوكب الأرضي أن لا قوام للشريعة إلا بالملك ولا عز للملك إلا بالرجال ولا قوام للرجال إلا بالمال ولا سبيل إلي المال إلا بالعمارة ولا سبيل إلي العمارة إلا بالعدل ولا سبيل إلي العدل إلا بعدم الظلم علي الناس والاعتداء.. فهذا فحوي كلامه وفذلكة أقواله عبرت عنها بإيجاز و اختصار .

حقا صدق الإمام وهو حقيق بأن يصدق ويقول الحق لأن الظلم عاقبته وخيمة ومصيره حسرة وندامة وإنه لخلق سيئ أثيم يفتك بالإنسانية فتكا ذريعا ويقضي علي حياتها علي غرة.

 الظلم في نظر اللغويين:

ولكن الظلم ما هو وماذا حدوده وما حقيقته وماهيته فقد اختلفت فيه أنظار العلماء واللغويين فمن لغوي يحدد الظلم بمعني والآخر يعبر عن معناه بلفظ آخر بيد أن مآل كل واحد غير مختلف. فقال ابن منظور الإفريقي المتوفى 711هـ: الظلم هو وضع الشيء في غير محله يقال من أشبه أباه فما ظلم أي فما وضع الشبه في غير موضعه ويقول رحمه الله أن أصل الظلم الجور ومجاوزة الحق وقيل أنه هو الميل عن القصد وقال الإمام اللغوي والمحدث الجهبذ المرتضي الزبيدي المتوفى 1205هـ: الظلم هو تصرف في ملك الغير ومجاوزة الحق وقال الراغب الأصفهاني المتوفى 502هـ: الظلم وضع الشيء في غير موضعه المختصّ به، إمّا بنقصان أو بزيادة، وإمّا بعدول عن وقته أو مكانه، ومن هذا يقال: ظَلَمْتُ السِّقَاءَ: إذا تناولته في غير وقته.

الظلم في نظر ابن خلدون:

وإن مما يستلفت الأنظار أن الإمام الحكيم ابن خلدون استطاع أن يصرف النظر عن معني للظلم يسبق إليه الذهن إلي معني أعم وأشمل ويحول النظرة من مصداقه الذي اشتهر أمره إلي مفهوم لم يشتهر أمره لئلا يظن الناس أن  الظلم محدود حدوده ومحاط في إطار خاص فقال رحمه الله ما نصه: ’’ ولا تحسبنّ الظّلم إنّما هو أخذ المال أو الملك من يد مالكه من غير عوض ولا سبب كما هو المشهور بل الظّلم أعمّ من ذلك وكلّ من أخذ ملك أحد أو غصبه في عمله أو طالبه بغير حقّ أو فرض عليه حقّا لم يفرضه الشّرع فقد ظلمه فجباة الأموال بغير حقّها ظلمة والمعتدون عليها ظلمة والمنتهبون لها ظلمة والمانعون لحقوق النّاس ظلمة وخصّاب الأملاك على العموم ظلمة ووبال ذلك كلّه عائد على الدّولة بخراب العمران الّذي هو مادّتها لإذهابه الآمال من أهله ‘‘ نعم، هذا هو الظلم حقيقة لا أخذ المال من يد مالكه قسرا فحسب ، فعلي هذا لو أنك بخست أحدا حقه فأنت ظالم ولو أنك ما قدرت مؤهلا حق قدره فأنت ظالم ولو آثرت أحدا علي غيره بمحض العصبية الذميمة أو الحمية الجاهلية فأنت ظالم  أو أنك فيما يبدو رجل انتهازي تنتهز الفرصة لمصلحتك فتؤثرها دون مصالح الناس وحظوظهم و تحرمهم نصيبهم فأنت ظالم أو… أو … ما إلي ذلك.

الظلم عاقبته الوخيمة ومصيره المحتوم:

ومن الجدير بالذكر أن الأديان والمذاهب مهما اختلفت نظريتها وتباينت أصولها وشرائعها كلها قد اتفقت كلمتها علي ذم الظلم وإنكاره واتحدت وجهة النظر علي الحرب ضد الظلم وشيوعه فلا تجد أحدا من الناس من لا يدين الظلم ويستنكره ويشنعه ويستقبحه حتى أن الظالم نفسه ينكر عليه لقب “الظالم”‘ وقد اشتهرت في هذا الصدد قصة حجاج بن يوسف ذلك الظالم البغيض مع  أحد من شعبه حيث أنه أطلق عليه بين يديه لقب القاسط فغضب حتى احمرت وجنتاه.

فالظالم بظلمه واعتدائه واستبداده واضطهاده لا يضر نفسه بل العالم كله وإن آهات المظلوم وصرخاته لا يستجاب بشأنه فقط بل إذا جاءت العذاب عمت فاتقوا دعوة المظلوم وآهاته واصرفوا عن المجتمع الإنساني الظلم والعدوان.

الظلم المستمر والأوضاع الحالية:

ومن الواقع المؤلم أننا في العصر الراهن نعاني من مشكلات فيروس كورونا نتيجة الظلم المستمر والعدوان المتواصل لأهل الظلم والجور علي حد قول ابن خلدون وتفسيره وإن هذه الأزمات والحادثات لمن الله سبحانه عذابا لأولئك الظلمة ورحمة للمؤمنين ليعذب من شاء ويرحم من شاء وإنه تعالي قد استجاب نداء المظلوم واستغاثته وإنه قد استمع نداء الطفل السوري الذي قال “سأخبر الله بكل شيء”

نعم يا ولدي قد وفيت بعهدك وصدقت وعدك وإنك قد أخبرت ربك وربنا الله بكل شيء، بطغيان الجبابرة، والطاغوت، وتجبرهم في الأرض، قد أخبرته بسفك الدماء وقتل الأبرياء، بالجملة قد أفدته بكل شيء.

مسؤوليتنا دفع الظلم وقمعه:

وإننا كعبد متواضع، خاشع، خاضع منيب إلي الله تعالي نبكي علي خطايانا ونستغفره ونتوب إلي الله عز وجل مما سلف منا ونعزم العقد علي ألا نعصيه في أمر في هذه الأوضاع المكروبة ونحمل علي عواتقنا عبأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بقدر المستطاع ولا نغفل عن دفع الظلم والجور عن المجتمع البشري وعن هذا الكوكب الأرضي ليتنفس الناس عن نفحات الإنصاف الطيبة ويستنشق هواءه العطر، فخذوا أيها المسلمون يد الظالم والمظلوم لينتشر الأمن والأمان والسلم والسلام والله معكم وهو الموفق المعين!

(المصدر: صحيفة الأمة الالكترونية)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى