مقالاتمقالات مختارة

صلاة التراويح خلف البث المباشر.. الدلالات والمآلات (2)

صلاة التراويح خلف البث المباشر.. الدلالات والمآلات (2)

بقلم د. خالد حنفي

في مقالنا السابق صلاة التراويح خلف البث المباشر، الدِلالات والمآلات، ذكرنا جملةً من دِلالات اختلاف العلماء في النازلة وهي: اضطراب منهج الاستدلال وتناقضه، وقيادة الفقهاء لتعميق الإخلال بالأولويات في الأمة، وغلبة نزعة الاجتهاد الفردي على الجماعي والمؤسسي، وإيقاعُ الناس في التردد والحيرة بدلًا من إخراجهم منها، ومضادة منهج السلف في الهروب من الفتوى والفرح بحمل غيرهم عنهم، واليوم نكمل بقية الدلالات، ونفصل في المآلات، أما بقية الدلالات فهي:  

6. غياب البُعد المقاصدي رغم كثرة التنظير له

يُلفت النظر في قراءة وتحليل نازلة الصلاة خلف البث المباشر أن اثنين من مشاهير العلماء القائلين بجوازها من المشتغلين بعلم مقاصد الشريعة، تحقيقًا وتصنيفًا وتنظيرًا وتدريسًا، وهذا يعني أن يتأسس ترجيحهم واجتهادهم على رعاية المقاصد الكلية والجزئية، وهو ما لم يقع بل وقع عكسه، فمن مقاصد صلاة الجماعة، الاجتماع والتلاقي، وهذا واضح من اسمها ومفهومها ونصوصها وتاريخها وأحكامها التي تنطلق من تحقيق الاجتماع على أفضل صوره، كثرةً وانتظامًا قدر الإمكان، لهذا ذهب جمهور الفقهاء إلى كراهة تَكْرَارُ الْجَمَاعَةِ فِي مَسْجِدِ الْحَيِّ الَّذِي لَهُ إِمَامٌ وَجَمَاعَةٌ مَعْلُومُونَ، لِمَا رَوَى أَبُو بَكْرَةَ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقْبَل مِنْ نَوَاحِي الْمَدِينَةِ يُرِيدُ الصَّلاَةَ، فَوَجَدَ النَّاسَ قَدْ صَلَّوْا فَمَال إِلَى مَنْزِلِهِ فَجَمَعَ أَهْلَهُ فَصَلَّى بِهِمْ، وَلَوْ لَمْ يُكْرَهْ تَكْرَارُ الْجَمَاعَةِ فِي الْمَسْجِدِ لَمَا تَرَكَهَا رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ عِلْمِهِ بِفَضْل الْجَمَاعَةِ فِي الْمَسْجِدِ، وَوَرَدَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ – رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ – أَنَّ أَصْحَابَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانُوا إِذَا فَاتَتْهُمُ الْجَمَاعَةُ صَلَّوْا فِي الْمَسْجِدِ فُرَادَى؛ وَلأِنَّ التَّكْرَارَ يُؤَدِّي إِلَى تَقْلِيل الْجَمَاعَةِ؛ لأِنَّ النَّاسَ إِذَا عَلِمُوا أَنَّهُمْ تَفُوتُهُمُ الْجَمَاعَةُ يَسْتَعْجِلُونَ، فَتَكْثُرُ الْجَمَاعَةُ، وَإِذَا عَلِمُوا أَنَّهَا لاَ تَفُوتُهُمْ يَتَأَخَّرُونَ؛ فَتَقِل الْجَمَاعَةُ، وَتَقْلِيل الْجَمَاعَةِ مَكْرُوهٌ، وحديث أبي بن كعب يدل على أنه كلما كثر عدد الناس في الجماعة كان أحب إلى الله عز وجل ونصه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم” صلاةُ الرجُلِ مع الرجلِ أزكى من صلاتِه وحْدَه، وصلاتُه مع الرجلينِ أزكى مِن صلاتِه مع الرجلِ، وما كثُرَ فهو أحبُّ إلى اللهِ عزَّ وجلَّ” إذاً  كراهة تكرار الجماعة في المسجد مقصده تكثير الجماعة وعدم تقليل أفرادها، فهل يتحقق شكل الجماعة أو حقيقتها بالصلاة خلف البث المباشر في البيوت؟ الواقع أن هذه الصلاة لا تحقق الاجتماع ولا الجماعة لا في البيوت ولا في المساجد، بل تعددت الجماعة في الواقع والحقيقة بتعدد البيوت !

أما صلاة التراويح محل النقاش فمعلوم أن الأصل فيها أن تؤدى فرادى، وأن عمر بن الخطاب أول من جمع الناس على إمام واحد في صلاة التراويح، وسبحان الله كان قصد عمر رضي الله عنه المنصوص عليه هو منع التفرق وتعدد الجماعة، وهو تمامًا عكس ما سيفضي إليه القول بالصلاة خلف البث المباشر، لنقرأ هذا النص من صحيح البخاري: عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدٍ القَارِيِّ، أَنَّهُ قَالَ: خَرَجْتُ مَعَ عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، لَيْلَةً فِي رَمَضَانَ إِلَى المَسْجِدِ، فَإِذَا النَّاسُ أَوْزَاعٌ مُتَفَرِّقُونَ، يُصَلِّي الرَّجُلُ لِنَفْسِهِ، وَيُصَلِّي الرَّجُلُ فَيُصَلِّي بِصَلاَتِهِ الرَّهْطُ، فَقَالَ عُمَرُ: «إِنِّي أَرَى لَوْ جَمَعْتُ هَؤُلاَءِ عَلَى قَارِئٍ وَاحِدٍ، لَكَانَ أَمْثَلَ» ثُمَّ عَزَمَ، فَجَمَعَهُمْ عَلَى أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ» فتأملْ صورة صلاة التراويح قبل جمعهم خلف أُبي بن كعب وقارِنها بصلاة الناس في البيوت خلف البث، ثم ارجع إلى صورة اجتماعهم خلف أُبي في جماعة واحدة وانتهاء تعدد الجماعات في المسجد، وانظر هل قضينا على الأولى وأوجدنا الثانية بصلاة التراويح في البيوت خلف البث المباشر؟.

   

وعليه فقد بان لنا أن القول بصحة الصلاة خلف البث المباشر يُفوِّت المقصدَ من صلاة الجماعة، كما يُفوِّت قصد عمر بن الخطاب رضي الله عنه من جمع الناس على صلاة التراويح، وأما الزعم بأن الصلاة خلف البث المباشر خيرٌ من الصلاة في البيوت، وأننا نهدف إلى مقصد الإبقاء على الشعيرة وصلاة التروايح جماعة حتى لا يكسل الناس عنها، فهو مقصد موهوم؛ لأن التراويح تؤدى في البيوت فرادى وجماعات بل ثبت أن أداءها في البيوت يحقق العديد من المصالح التي لم يتخيلها أحد قبل دخول رمضان، وسأذكر بعضها بالتجربة العملية وما نقل لي من عدد من العائلات في أوروبا مثل: انتظم الأولاد في صلاة التراويح جماعة في البيوت وسيكملونها إلى نهاية رمضان، بينما في الأعوام الماضية كانوا يصلونها مرة واحدة في الأسبوع؛ لطول النهار وقصر الليل وانتظامهم في دراستهم نهارًا، كما قامت الأسر بتدريب أولادهم على الإمامة ومراجعة ما حفظوا وتحسين أدائهم في التلاوة وتدريبهم على الإمامة، كما اتجه غير العرب، والمسلمون الجدد إلى البدء في تعلم التلاوة للتمكن من أداء الصلاة وحدهم، بل تذوق الناس جمال العبادة الفردية وتعلموا دروسًا ما كانوا ليتعلموها لو صلوا خلف البث المباشر.

والأسئلة التي تطرح هنا: إذا كانت كل هذه الكتابات في المقاصد لم تنتج أصولا ضابطة للكشف عنها بدقة، فما جدوى دراستها؟ وإذا كان شيوخ المقاصد والمنظرون لها اجتهاداتهم ليست مقاصدية فماذا عمن هم دونهم؟ وهل صدق المعارضون لدراسة المقاصد اليوم بأنها ستعرض الأحكام لخطر التحريف والتبديل باسم التقصيد والتعليل؟ وإذا لم تكن المقاصد طريقا لحراسة الأحكام وصيانة الانقياد والامتثال وفقا لحقائق الشرع ونصوصه، فما هي وظيفتها المثلى؟

7. إشكالية تنزيل النصوص الفقهية على الواقع المعاصر

اختلف القائلون بصحة صلاة التراويح خلف المذياع في الاستدلال لرأيهم، فمنهم من صحح الاقتداء بناء على مذهب مالك في الاقتداء بحائل ومسمع، ونقلوا نصوصًا كثيرة من كتب المذهب تدلل على ذلك، واستدل بعضهم بقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه:” لو بني هذا المسجد إلى صنعاء لكان مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم” ! ومنهم من أنكر عليهم هذا الاستدلال بشدة مؤكدًا على أن النازلة جديدة، ولا يصح الاستدلال لها بنقول فقهية ألصق بزمان فقهائها الذين لم يتصوروا صورة النازلة محل النقاش أصلًا.

والواقع أن المنهجين في الاستدلال يعكسان ضعف ملكة تنزيل الأحكام على الواقع، وأن بعض فقهاء العصر لا يعوزهم النصوص والمتون الفقهية بقدر ما يعوزهم تنزيل هذه النصوص والنقول على الواقع؛ أما الأول فلأن نقول المذهب المالكي تتحدث جميعها عن اجتماع بين إمام ومأمومين في مكان واحد بفواصل أو حواجز لا تمنع الإقتداء والإئتمام، ولا تتحدث هذه النصوص عن مأموم في بيته، وإمام في مسجده بينهما عشرات أو مئات الأميال ثم تسمى صلاتهما جماعة، والنص المنقول عن عمر يؤكد عكس ما أرادوا التدليل به عليه، فامتداد المسجد يعني أن الجماعة في المسجد وفي مكان واحد متصلة الصفوف متابعة للإمام، فأين هذا من الصلاة خلف البث في البيوت؟

   

وأما الاستدلال الثاني فينفي التعبدية عن الاقتداء، رغم أن الاقتداء حقيقة شرعية بالنصوص وليست عرفية أو لغوية، والفقهاء استنبطوها من النصوص واختلافهم في تفصيل تنزيلها، لا في أصل اشتراطها لصحة الجماعة، ويخلط هذا الاستدلال بين كون الوسائل الحديثة معتبرة في العقود والاجتماعات واعتبارها في صلاة الجماعة، فيجعل الوسائل الحديثة محققة لمعنى الاقتداء والمتابعة ما دامت معتبرة في غيرها، والفرق بينهما كبير واضح؛ لأن وظيفة الوسائل الحديثة في العقود وغيرها التثبت من حقيقة الأشخاص وعدم اشتباههم بغيرهم، ولم يقل أحد إن الاجتماعات والمؤتمرات التى تتم بهذه الوسائل هى اجتماعات حقيقية تجمع أصحابها في مكان واحد، ومحل النقاش ليس في كون الوسائل الحديثة ضابطة لنقل صوت الإمام وصورته إلى المأموم في بيته على نحو صحيح، وإنما في عدم تصور الاجتماع والاقتداء بين الإمام والمأموم وبينهما أميال، وعدُّ ذلك اجتماعًا محققًا لمعنى صلاة الجماعة وقصدها ونصوصها لمجرد سماع ورؤية الإمام في الهاتف أو التلفاز. فبان أن الإشكال هنا في تنزيل نصوص الأئمة المتقدمين على النازلة الجديدة، أو تنزيل الوسائل الحديثة على صورة صلاة الجماعة مع اختلاف المراد منها.

ثانيًا: المآلات

معلوم لدى الأصوليين أن الفقيه أو المجتهد لابد أن يراعي مآلات اجتهاده وفتواه، وأنه ربما كان تقريره للحكم صحيحًا استدلالًا وتأصيلًا، لكنه يفضي إلى مفسدة أو مفاسد، فيترجح تغيير الحكم ومنعه لئلا يوصل إلى تلك المفسدة، ولو افترضنا صحة القول بصلاة التراويح خلف المذياع فإنها تفضي إلى جملة من المفاسد منها:

1. اختراعُ صورٍ جديدة للعبادة لم تخطر على بال المجيزين

شدد أغلب المجيزين لصلاة التراويح خلف البث المباشر على أن ذلك مخصوص بفترة الجائحة وأنه يجب أن يوقف بعدها مباشرة، كما أكدوا على أن الحكم مخصوص ومقيد بصلاة التراويح دون غيرها، لكنهم لا يملكون آلية التطبيق بشروطهم ولا يضمنون التزام الناس بما اشترطوا، بدليل أن بعض المجيزين صرَّح بجواز صورة الاقتداء المذكورة في النافلة والفريضة ثم منعها في الجمعة فقط! والسؤال ما الذي يمنع غيره من القول بها في الجمعة أيضا؟ ومن صور العبادة المتفرعة عن أصل القول بالجواز: الصلاة خلف إمام الحرم لمن توافق معه في الوقت تحصيلاً لأجر أكبر واستمتاعًا بصوت أجمل، ومنها: انقسام أفراد الأسرة الواحدة في البيت الواحد بصلاة كل واحد خلف الإمام الذي يحب والصوت الذي يرتاح له، ما دام الاقتداء في كل الأحوال من البيت خلف أى إمام يقع صحيحا، ومنها: صلاة الناس خلف إمام بصلاة قديمة تبث على أنها مباشرة.

2. العبث بالشعائر في تصورات وممارسات الشباب خاصة في أوروبا

لابد أن ندرك أننا نعيش في عالم مفتوح، وأن العلماء لا يمسكون بزر سيضغطون عليه للعمل بالفتوى أثناء كورونا ثم إيقافها بعدها، أو تقييدها بالتراويح ومنعها في الجمعة، لقد أعطيتم الشباب النصوص والأدلة وهم سيكملون طريقهم لتوليد صور وتصورات للعبث بصلاة الجمعة والجماعات دون تردد وما لا يُقبل اليوم سيقبل غدًا، وقد حدثني عددٌ من الشباب قائلين: لماذا نُتعب أنفسنا ونخرج في البرد الشديد لصلاة الفجر فنضيع وقتنا وأموالنا إذا كانت الصلاة في البيوت صحيحة؟ وقال آخر: إذا صحت هذه الفتوى فلماذا نبني المساجد في أوروبا وننفق عليها هذه الأموال؟ يكفينا مسجد وإمام وهاتف في كل مدينة؟،  وقال ثالث: إن الصلاة في البيوت خلف البث المباشر تحقق لنا فضيلتين: صلاة النافلة في البيوت، وصلاة الجماعة في المسجد، فكيف أترك الفضيلتين بعد كورونا وأُحصِّل فضيلة واحدة بصلاة الجماعة في المسجد؟

3. مآلات خفية في البلدان الأوروبية

لعل الوجود الإسلامي في الغرب هو أكثر المتضررين من القول بجواز الصلاة خلف البث المباشر؛ لأن الشأن الديني في العالم العربي والإسلامي تقوم عليه الدولة بسلطتها الملزمة، أما في أوروبا فالسلطة الملزمة غائبة؛ لأن الحكومات الأوروبية لا تتدخل في الشأن الديني للمسلمين، وأكثر ما يعاني منه مسلمو أوروبا هو الفرقة والاختلاف، وقد عجزوا حتى اليوم عن الاتفاق على أوقات واحدة للصلاة والصيام، وطريقة واحدة لتحديد الأعياد الدينية، فإذا فتحنا لهم بابا للصلاة في البيوت خلف البث المباشر لعُطِّلت المساجد وانتهت أو قلّت الجماعات، بل ذكر لي أحد الإخوة المشتغلين بالسياسة والخبراء بالشأن الأوروبي: أن هذه الفتوى قد تتخذ ذريعة من اليمين المتطرف مستقبلاً لمنع مزيد من التراخيص للمساجد، أو منع إقامة صلاتي الفجر والعشاء تجنبا لإزعاج الجيران.

4. المخاطرة بالوثوق في العلماء وتأثيرهم على الناس في الجملة

من أهم ما أنتجته أحداث الربيع العربي سقوط عدد من الرموز العلمائية الرسمية أو الشعبية أو الشبابية؛ لوقوفهم وتبريرهم للسلطات المستبدة التي سفكت الدماء المعصومة ووأدت حلم الشعوب في التحرر، وبقي الناس في الطليعة منهم الشباب متشبثين بمن بقي محل ثقتهم من العلماء الذين انحازوا لخيارات الشعوب ورفضوا الظلم والاستبداد، ومثل هذه النوازل واختلاف العلماء غير المحسوب فيها، والخروج على قرارات المجامع الفقهية فيما يتصل بالشأن العام للأمة، يوقع الساحة العلمائية في مخاطرة كبيرة في الوثوق بالعلماء وتأثيرهم على الشباب، كما يضر بحركة الاجتهاد الجماعي والفردي معًا.

أخيرا: يعلم الله أن أغلب العلماء الذين أفتوا بالجواز في هذه المسألة من أقرب الناس إلى قلبي، وأن نقدي لبعضهم ليس قدحًا في علمهم أو تقليلًا من قدرهم، وإنما غيرة وخوفًا على الديانة والشعائر، وحرصًا على صورة أولئك العلماء وإبقاء على ثقة الأمة فيهم، فإن أصبت في ذلك فهو محض فضل الله وإن أخطأت فمن نفسي ومن الشيطان ” ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا.

(المصدر: مدونات الجزيرة)

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى