مقالاتمقالات مختارة

صلاة التراويح خلف البث المباشر.. الدلالات والمآلات

صلاة التراويح خلف البث المباشر.. الدلالات والمآلات

بقلم د. خالد حنفي (الأمين العام المساعد للمجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث)

فرضَتْ جائحة كورونا على الفقهاء والمجتهدين البحث والنظر وبيان الأحكام الشرعية للنوازل والمستجدات، واتفق العلماء واختلفوا، وكان ما اتفقوا عليه أكثر مما اختلفوا فيه، وأكثر قضية حظيت بالاهتمام والنظر والإفتاء دون غيرها هي مسألة صلاة التراويح خلف البث المباشر، ورغم أن كل المجامع الفقهية ـــــ فيما أعلم ـــــ أفتت بمنع الصلاة على تلك الصورة إلا أن عددًا من الفقهاء والمجتهدين المعروفين أفتوا بالجواز، ولا أحد يشك في دينهم وعلمهم وحرصهم على الديانة، وقصدهم الحسن من إبقاء الناس على صلة بصلاة الجماعة وبالمساجد، وكلُّ مجتهد مأجور على اجتهاده، ولا يصح أن نضيق ذرعًا بآراء من نختلف معهم، وأن نوجِد البيئة المحفزة على الاجتهاد والنظر مهما كانت نتائج الاجتهاد غريبة غير مألوفة ما دامت مبنية على أسس علمية صحيحة، وعلينا أن نناقشها وأن نردّها إن لزم الأمر بموضوعية وعلمية، وهذه الحركية الاجتهادية هى التي ستُنتج التجديد المنشود وتصوب مساره.

وهدفي من هذا المقال ليس الانتصار لرأي على رأي أو انتقاد رأي وذمه، ومدح قول ورفعه، فهذا محله في مقال آخر، وإنما قصدي لفت الأنظار إلى جملة من الدلالات والمآلات التي تفيد في النظر للمستجدات والتعامل مع المستحدثات، عسانا نضع بها أقدامنا على طريق يوصلنا إلى التجديد الذي ننشد، والحق الذي نقصد.

أولًا: الدِلالات

1- اضطراب منهج الاستدلال وتناقضه:

أول ما يلفت النظر في تعامل الفقهاء ــــالمجيزين للصلاة خلف البث المباشر وما ماثله ــــــ مع النازلة هو غياب منهج واضح للاستدلال، والوقوع في جملة هائلة من التناقضات منها: الجمع بين الإباحة الأصلية، والضرورة الاستثنائية، ولا يُجمع بينهما بحال؛ فالذين صححوا الاقتداء بالإمام من البيوت خلف البث المباشر استنجدوا بأقوال ونصوص من التراث الفقهي خاصة عند المالكية تدل على صحة الاقتداء بالإمام من مسافة بعيدة وهذا أمر لا علاقة بالضرورة والاستثناء والجائحة؛ لأنهم يُقرون أن هذا هو أصل المذهب وبالتالي يمكن الاستمرار عليه بعد الجائحة ولا يصح تقييده بها، فإن قُيد بها دل ذلك على فساد الاستدلال به ابتداء.

ولا يصح الاستدلال بالاستثناء والضرورة هنا؛ لوجود البدل وهو الصلاة في البيوت وكونها نافلة، بل الأصل صلاة النافلة في البيوت بدون جائحة أو ضرورة، وإذا كنا قد أوقفنا الجمعة وهي فريضة بعذر كورونا فكيف لا نوقف التراويح وهي نافلة؟ ولو صحت تلك الوسيلة لإحياء النافلة فلم استُبعدت في إحياء الجمعة وهي أهم وآكد؟.

التناقض الآخر هو: إباحتها في النافلة ومنعها في الفريضة رغم أن أصل المسألة ودليلها واحد وهو الاقتداء هل هو أمر شرعي أم عادي، فإذا صححته في النافلة صححته في الفريضة، ولهذا لم يخصص الفقهاء جماعة النافلة بشروط تختلف فيها عن جماعة الفريضة أو الجمعة، وأحاديث الائتمام كلها عامة، وكل ما رخص فيه في النافلة عن الفريضة كصلاتها على الراحلة، ثبت بالنص لا بالاجتهاد.

تناقض ثالث: تقييد الصلاة خلف البث المباشر بإمام الحي أو الإمام القريب دون دليل معتبر، والاتساق تصحيح كل صور الاقتداء عن بعد قرُبُ الإمام المقتدَى به أم بعد حتى لو كان إمام الحرم ما اتحد الوقت؛ لأن العلة واحدة حسب زعمهم وهى الاقتداء بالمسمع أو الرؤية وتلك لا فرق فيها بين القريب والبعيد.

2- قيادة الفقهاء لتعميق الإخلال بالأولويات في الأمة:

كثيرًا ما تحدث العلماء والدعاة عن أزمة غياب فقه الأولويات في الأمة وأنه كان من أسباب تراجعها الحضاري، والصورة التي نحن بصدد مناقشتها قاد فيها العلماء والفقهاء ورسّخوا فيها أزمة الأولويات في الأمة؛ فالمعلوم أن صلاة التراويح سنة مؤكدة وأن الأصل فيها أن تؤدى في البيوت، وهذا الاهتمام الزائد من العلماء بها وبذل الجهد لاختراع شكل جديد إلكتروني للعبادة للاستمرار في أدائها جماعة بالمساجد يعمِّق لدى المسلمين الاهتمام بالنافلة أكثر من الفريضة، ويبقيهم على تصوراتهم الخاطئة الممتدة في كثير من الصور التي لم أجد لها تفسيرا مقبولًا، كحرص الناس على صلاة العيد وهي نافلة أكثر من الفرض حتى في يوم العيد، وأذكر أني كلما نبهت الناس قبل صلاة العيد إلى أنها لا تجزئ عن الصبح قام ربع المسجد يصلي الصبح!

ولو أحسن أولئك الفقهاء لاغتنموها فرصة عملية لتدريب الناس على التفريق بين الفرض والنفل، وإحياء سنة النوافل في البيوت هذا العام، وما يضيرنا أن نقضي عامًا من حياتنا اضطرارًا لا اختيارًا نصلي فيه التراويح في البيوت، كتلك الفترة التي بين العهد النبوي وخلافة عمر؟ بل أقول: هل شغلت نوازل أخرى أشد خطرًا وأثرًا على الأمة ونهضتها الفقهاء كما شغلتهم هذه المسألة الجزئية الفرعية، كقضايا الاقتصاد، والزكاة وغيرهما فرغم ما كتب فيهما إلا أنه لم يتحقق بعد المأمول والمقصود.

3- غلبة نزعة الاجتهاد الفردي على الجماعي والمؤسسي:

الاجتهاد الجماعي القائم على التشاور والنقاش كان منهج الصحابة والتابعين في الفتاوى خاصة في النوازل الجديدة التي لم يكن لهم عهد بها، فكان أبو بكر إذا عرضت عليه حادثة ينظر في كتاب الله فإن وجد حكمها فيه قضى به، وإلاّ فينظر في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن وجدها فيها قضى به، فإن أعياه خرج فسأل المسلمين، وقال: أتاني كذا وكذا فهل علمتم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى في ذلك القضاء فربما اجتمع إليه النفر كلهم يذكر عن رسول الله فيه قضاءً، فيقول أبوبكر الحمد لله الذي جعل فينا من يحفظ عن نبينا، فإن أعياه أن يجد فيه سنة من رسول الله صلى الله عليه وسلم جمع رؤوس الناس وخيارهم فاستشارهم فإذا اجتمع رأيهم على أمر قضى به، وهكذا كان منهج عمر وغيره من كبار الصحابة رضي الله عنهم، والدعوة إلى الاجتهاد الجماعي وتفعليه في الفقه المعاصر محل اتفاق بين العلماء؛ لهذا كثُرت المجامع الفقهية ومؤسسات الإفتاء الجماعي شرقًا وغربًا.

 ولا شك أن تعقّد المستجدات وتشابكها يناسبه النظر الجماعي لا الفردي، بل إن عالمنا المعاصر لم يعد يعرف الفردية في الإنجاز والأُحادية في البحث وشاع مصطلح روح الفريق في دوائر البحث العلمية، والمجامع الفقهية لم تتأخر عن البيان في المسألة وأعلنت رفضها للصلاة على تلك الصورة أذكر منها: المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث، ومجمع الفقه الدولي التابع لمنظمة التعاون، ومجمع فقهاء الشريعة بأمريكا، وهيئة كبار العلماء بالسعودية، والمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية بتركيا، ومجمع البحوث الإسلامية بمصر، والاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، لكن عددًا من الفقهاء وبعضهم أعضاء في هذه المجامع خرجوا برأي يخالفها، ولست ضد المخالفة من حيث المبدأ بل هي شائعة في عمل المجامع الفقهية، لكن هذه المنهجية تعكس ميل الفقهاء المعاصرين إلى الاجتهاد الفردي لا الجماعي، وتجعل الاتفاق في مسألة مستحيل الوقوع، بل تُشكّك في مسائل الإجماع والاتفاق التراثية المنقولة إلينا، وكأنهم لم يتفقوا على شيء قديمًا أو حديثًا، وطبيعي أن يتساءل الشباب عن جدوى الاجتهاد الجماعي وقيمته العملية؟

4- إيقاعُ الناس في التردد والحيرة بدلًا من إخراجهم منها:

يتجه الفقهاء والمفتون خاصة في العصر الحديث إلى إخراج المستفتي من الحيرة والتردد، فلا يضعه المفتي أمام آراء الفقهاء ليختار منها، أو يعرضها عليها ثم يرجِّح، وإنما عليه أن يأخذه مباشرة إلى ما يختار له ذَكَرَ الدليل أو لم يذكره، وهو المنهج الأنسب لعصرنا مع ضعف الهمم في القراءة، وقلة الثقافة الشرعية، والذي حدث في مسألة البث المباشر هو أن المفتين أوقعوا الناس في بلبلة وحيرة كبرى، لا تناسب حالهم من الحجر والبقاء في بيوتهم وإحاطة الوباء والمرض بهم، فما إن يحسم الناس أمرهم بالصلاة في البيوت، حتى يجدوا فقيهًا قال لهم: صلوا خلف البث المباشر بشرط أن تلتزموا بإمام الحي، وما إن يقرروا الصلاة خلف إمام الحي حتى يجد من ينقض قوله بصحة الصلاة خلف من هو أبعد، وسبحان الله استرحنا هذا العام من فرقة واختلاف الرؤية البصرية أم الحسابات الفلكية؛ لننتقل إلى خلاف آخر حول الصلاة الإلكترونية أم الصلاة المنزلية؟ وهذه السجالات رغم علميتها تُفسد الأجواء الروحانية، والشعائر الرمضانية، وتُشتّت القلب الذي يبحث عن راحته وروائه وينتظر شهر رمضان من عام إلى عام.

5- السلف يهربون من الفتوى ويحيلون على غيرهم، والخلف يتسابقون إلى الفتوى ولا يكتفون بمن سبقهم.

مما يلفت النظر في هذه المسألة أن العلماء المعاصرين كانوا في مسلكهم عكس الصحابة والسلف في أمر الفتوى والهرب منها والإحالة الدائمة على غيرهم، ولو نزَّلنا حال الصحابة والمفتين من السلف والفقهاء الأربعة وتخلينا تصرفهم في النظر لهذه المسألة لو كانوا بيننا، لكان التصرف الطبيعي للمعاصرين اليوم هو التوقف والاكتفاء بمن سبقهم بالبيان، وشكر الله أن قيض لهم من تحمل المسؤولية عنهم، ولأحالوا من سألهم على من سبقهم بالبيان، خاصة أنه اجتهاد جماعي وليس مجرد رأي فردي، أو الإبقاء على الدرس والمراجعة في المجالس العلمية الخاصة تجنبًا لتفريق الناس وبلبلتهم. لقد شاعت ثقافة لا أدرى في عالم الفتوى والاجتهاد قديمًا، رغم أن كل من كان يقول: لا أدرى، كان يدري؛ لكنه يقولها ورعًا وخوفًا، واليوم الكل يدري ولا يقبل أن يقال له: إنك لا تدري، وتأملوا معي هذه المواقف والأحوال وتمثلوها في نازلتنا، يقول عبد الرحمن بن أبي ليلى: “لقد أدركت في هذا المسجد عشرين ومئة من الأنصار من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما أحد منهم يحدث حديثًا إلا ود أن أخاه كفاه الحديث، ولا يسأل عن فتيا، إلا ود أن أخاه كفاه الفتيا “،وأخرج البيهقي عن ربيعة أنه قال له أبو خلدة: “يا ربيعة أراك تفتي الناس، فإذا جاءك الرجل يسألك فلا تكن همتك أن تخرجه مما وقع فيه، ولتكن همتك أن تتخلص مما يسألك عنه”.

 وللأمانة فأنا أعرف عددًا من العلماء أصحاب الرسوخ العلمي، والتأصيل الفقهي امتنعوا تمامًا عن إخراج بيانٍ أو رأي، مكتفين بما قيل وما صدر، ولو كتبوا أو تحدثوا لأبدعوا وضبطوا وحرروا وسبروا وقسموا، وأراهم جسّدوا بورعهم نموذج السلف والأئمة في تعظيم شأن الفتوى والتوقيع عن الله.

(المصدر: صفحة د. خالد حنفي على الفيسبوك / مجلة المجتمع)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى