مقالاتمقالات مختارة

ظاهرة الاغتراب لدى الشباب العربي والطريق إلى التغيير

ظاهرة الاغتراب لدى الشباب العربي والطريق إلى التغيير

بقلم عزة مختار

حالة من مشاعر التغرب والغياب وعدم الانتماء تكتنف جزءاً كبيراً من الشباب العربي تنعكس على كتاباتهم وتعليقاتهم على منصات التواصل الاجتماعي، تطور بعضها للتنصل من كل منظومة الثوابت التي تحكم المجتمع العربي بدءاً من التطاول على العقيدة وامتداداً إلى الثقافة والهوية والانتماء والتقاليد والموروثات!

فلم يعد أحدهم يكتفي بالنقد المستتر، ولم يتوقف الأمر عند فئة من الشباب تبنت مبادئ علمانية للتحرر من فكرة الدين كلية، وإنما امتدت لتطال شباباً من داخل الحركة الإسلامية بعضهم في المهجر، وبعضهم قد خرج من المعتقلات بعد رحلة عناء من تعذيب جسدي ونفسي، وبعضهم محاصر باحتياجاته الإنسانية والمجتمعية بينما هو عاجز عن تحقيق أيّ منها في ظل أداء اقتصادي -فاشل بامتياز- لأنظمة مفروضة بالدبابة على صدور الشعوب.

فكيف تحولت مشاعر الوطنية والحماسة والجد والنشاط والتمرد على القعود والتحدي للواقع -التي تتسم بها تلك المرحلة من العمر- إلى ملامح تمرد وغضب مكبوت وانقلاب على القيم النبيلة التي طالما اتسمت بها مجتمعاتنا؟

ما الذي دفع هؤلاء الشباب -والذين يمثلون نسبة كبيرة ومخيفة- لاتخاذ ذلك السبيل المخالف لكل الأعراف المجتمعية والدينية لدى العرب والمسلمين؟
ما هي أسباب ذلك الانحدار الأخلاقي والثقافي والسلوكي غير المسبوق في تاريخ بلادنا؟

مواقع التواصل الاجتماعي، المتهم البريء

أقصد بالاغتراب، تلك المشاعر السلبية التي تكتنف قلب الإنسان وتفكيره وتعزله عن واقعه باحثاً عن واقع آخر قد يكون افتراضياً، وقد يكون واقعاً في منطقة جغرافية أخرى، أو ربما واقعاً في زمن آخر.

عالم يصنعه في مخيلته ليصير له وطنا بديلاً، يدين له بانتماء أخلاقي اعتباري، وليس انتماءً قانونياً، يعده النسق الحضاري الذي يقيس به معطيات وطنه، وتعاطي حكامه معه، وتعاطي الشعوب تجاه ممارسات الحكام، ويحدث هذا عادة في فترات التقزم الحضاري والفقر الاقتصادي والانحدار التعليمي، ويكون سمتاً لفترات الهزائم والضعف العام والتخلف.

يبدأ بالاغتراب العام، حين يشعر الفرد بالظلم المجتمعي له، فلا يجد عملاً مناسباً، أو دخلاً يكفيه، أو قضية تشغله، ثم تضيق الحلقة لتمتد مشاعر الاغتراب داخل الأسرة ذاتها لينكفئ في النهاية على ذاته فاقداً أية رغبة في التواصل أو الاتصال بأي مما يذكره بواقعه المؤلم، وحاضره المرفوض.

يبدأ بالاغتراب العام، حين يشعر الفرد بالظلم المجتمعي له، فلا يجد عملاً مناسباً، أو دخلاً يكفيه، أو قضية تشغله، ثم تضيق الحلقة لتمتد مشاعر الاغتراب داخل الأسرة ذاتها لينكفئ في النهاية على ذاته فاقداً أية رغبة في التواصل أو الاتصال بأي مما يذكره بواقعه المؤلم، وحاضره المرفوض

ويشير البعض بإصبع الاتهام في انتشار ظاهرة الاغتراب لدى الشباب إلى اتساع رقعة استخدام منصات التواصل الاجتماعي، خاصة بعد منتصف تسعينيات القرن الماضي متجاهلاً أن تلك المنصات ما هي إلا ساحة للتعبير عن الواقع الموجود، وليست لصنعه من الأساس ، فقد أخرجت تلك المواقع الشباب من بوتقة الذعر من التعبير عن خلافاتهم مع الأنظمة المتوالية، لساحة للتنفيس عما يجول بخواطرهم، وأتاحت للكثيرين منهم الفرصة لعمل المجموعات التي تستوعب عشرات -بل مئات الآلاف- للتعارف وتبادل الآراء والتقرب ممن يحمل نفس الفكر، فجمعت بين المتشابهين، وأتاحت الفرصة للتعبير عما كان من الصعب التعبير عنه من قبل خارج دائرة الرقابة السياسية والأسرية والمجتمعية، وخارج دائرة المحاسبة القانونية.

لقد مثلت تلك المنصات الإعلام البديل والخطير في التعبير عن الظاهرة، لكنها في الحقيقة لم تكن مسؤولة عنها، هي كشفت اللثام عنها، أعطت المساحة الكافية للكتابة والنشر بالكلمة والصورة بحرية شبه مطلقة، فكانت كالعامل المساعد على بقائها وترسيخها، ودليلاً على وجودها.

لقد مثلت منصات التواصل الإعلام البديل والخطير في التعبير عن الظاهرة، لكنها في الحقيقة لم تكن مسؤولة عنها، هي كشفت اللثام عنها، أعطت المساحة الكافية للكتابة والنشر بالكلمة والصورة بحرية شبه مطلقة

الأسباب الحقيقية لانتشار ظاهرة الاغتراب

بالبحث في المعنى الأبسط للاغتراب، نجد أنه يبدأ بالرفض المطلق للواقع كما مر بنا، والواقع المقصود هو الواقع الذي صنعته الأنظمة المتعاقبة والتي لا تجعل له بديلاً يبعث القليل من الأمل في أي تغيير، وقد شهدت الخمس سنوات الأخيرة -تحديداً بعد الموجة الأولى من الربيع العربي- أعنف موجة من إشكالية الاغتراب لدى الشباب الذين هم أمل أية أمة ومستقبلها القريب.

فالأصل في صناعة تلك الظاهرة هو الاستبداد والفقر والتضييق على حرية الفكر والإبداع، والحجر على المشاركة في صناعة الحاضر والمستقبل ، وتوقيفها على الفئة المقربة والمرضي عنها من الأنظمة الحاكمة، بدون أن تملك مقومات تلك المشاركة أو تستحق تلك المكانة، هنا يفقد الشاب رغبته في أية عملية إصلاح، ثم يفقد انتماءه، ثم تغزوه مشاعر التغرب والحنق، وربما يمتد الأمر للصدام مع الواقع المحيط على هيئة أفكار، أو ما هو أكثر من الأفكار.

وما الفكر الداعشي، والفكر الإلحادي، والفكر المتطرف إلا حصيلة ظاهرة الاغتراب التي تتنامى يوما بعد يومٍ، نتيجة استفحال الاستبداد الممتد من رأس النظام إلى رب الأسرة، إلى معلم الفصل، إلى مدير المؤسسة، إلى أستاذ الجامعة، إلى مسؤول كل مؤسسة يقع تحت يده مرؤوسين يصب عليهم جام غضبه بسبب الاستبداد الواقع عليه، حتى صار المجتمع كله واقعاً تحت سطوة تلك المشاعر بنسب مختلفة ودرجات متفاوتة.

الطريق إلى بناء جيل التغيير

قلَّما تجد أمةً تعاني من داء الاستبداد، وتنجو من الوقوع تحت طائلة ظاهرة الاغتراب، خاصة في مرحلة الشباب الذي يتميز بسرعة التغيير والاستعداد لتقبل أي فكر وافد يخرجه من سطوة الرضوخ ، خصوصاً إذا كان يصعب تغيير الواقع، وقلما تجد أمةً ترنو إلى المستقبل ثم هي تدمر شبابها عمداً بهذا الشكل الحاصل في بلادنا العربية والإسلامية، إلا القليل منها، وبما أننا توصلنا إلى السبب الحقيقي في انتشار تلك الظاهرة، فالحل الجذري لها هو مواجهة الأسباب المؤدية إليها.

ولن يكون ذلك بجهد فردي، ولن تستطيعه جماعة، ولن يقدر عليه حزب، إنما هو عمل جماعي ينتج عن إرادة جماعية، تتصدر لها نخبة مختارة بظهير شعبي على مستويات عدة، إنقاذاً لمستقبل البلاد من الوقوع في براثن التيه والذوبان والأفول الحضاري المؤكد.

إن معالجة القضية تعتمد في الأساس على الاعتراف أولاً بعظم حجمها، وعظم تأثيرها السلبي على مستقبل البلاد؛ فالأمة حين تفقد شبابها تصبح أمةً بلا مستقبل، ثم الاعتراف بأسبابها؛ لكي يتسنى مواجهتها بصدق، فتشخيص الداء بشكل صحيح هو أهم خطوة في التداوي.

إن معالجة القضية تعتمد في الأساس على الاعتراف أولاً بعظم حجمها، وعظم تأثيرها السلبي على مستقبل البلاد؛ فالأمة حين تفقد شبابها تصبح أمةً بلا مستقبل، ثم الاعتراف بأسبابها؛ لكي يتسنى مواجهتها بصدق

ونحن إن لم نعترف بالأسباب، أو توارينا عن الحقيقة التماساً للأمان والدعة والركون؛ خوفاً من البطش والتنكيل، فلن نستطيع إيجاد حل ناجع وسريع لما نمر به من كبوة حضارية شديدة.

ومن الملاحظ في ثورات الربيع العربي -أو الموجة الأولى منها- أن تلك الظاهرة كانت قد اختفت تقريباً أثناء ارتفاع رياح الثورة، وحين بدت بوادر النصر بانتزاع رؤوس الأنظمة عن كراسيها، وكأن الأمل حين يضيء سبيل الشباب فإن ظلمة المشاعر السلبية تنقشع عنهم، ثم ازداد عرض المرض بعد الفشل الظاهري للثورات التي بدأت في العام 2011، وتبدو أنها قد تضاعفت بعد تسع سنوات من تلك الموجة.

إن الحل الجماعي الذي نوهت إليه يتلخص في إجراءات توحيد جهود المنظمات والجماعات والأحزاب والهيئات كافة، لتجميع الصفوف حول فكرة تحرير البلاد من ربقة الرضوخ للحكم الجبري  والمدعوم من الغرب والشرق والشمال والجنوب؛ طمعا في ممتلكات تلك الشعوب، والتي ما زالت تمتص خيراتها منذ عهود الاستعمار الأولى، ولم تتوقف تلك العملية حتى اليوم، ليكون الناتجُ جيلاً مشوهاً أخلاقياً وعقائدياً وهوية وثقافة، لكنه جيلٌ تعلم وعلم وفقه ووعى أن تلك البلاد -المحكومة من قبل طغمة لا تنتمي لحضارته- ليست بلاده التي ضحى بدمائه في سبيل الارتقاء بها؛ لجعلها أوطاناً صالحة للعيش، وتكاد هذه الدماء أن تضيع سدى لو لم تتحرك جهود مضنية في سبيل إنقاذها، وإنقاذ جيل يعلن عن كفره ببلاده ودينه وانتمائه بكل أريحية، وقد حاول وبذل في سبيل استرجاع حقوقه التي لم يعرفها يوماً والتي قد أضاعها الكبار، فهل تجد تلك الصرخة سبيلها لقلب أحد يجمع الشتات نحو صناعة مستقبل قد يجد فيها أبناؤنا مكانا لهم؟ هذا ما أرجوه وننتظر.

(المصدر: موقع بصائر)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى