مقالاتمقالات مختارة

محمد عمارة … راهب الفكر وفارس الميدان [1-4]

محمد عمارة … راهب الفكر وفارس الميدان [1-4]

بقلم د. وصفي عاشور أبو زيد

برحيل د. محمد عمارة مساء يوم 4 رجب سنة 1441هـ/ 28 فبراير/شباط 2020م يفقد العالم الإسلامي والفكر الإسلامي وعلماء الإسلام والمسلمون عامة قمةً من قمم الفكر الإسلامي والاجتهاد، وقامةً من قامات بيان حقائق الإسلام ودفع أباطيل خصومه، وقيمةً عظيمة من قيم التاريخ الإسلامي والأخلاق الإسلامية والحضارة الإسلامية.
لقد مثل عمارة قلعة حصينة لقضايا الإسلام المعاصرة، وحائط صد أمام تيارات التغريب والعلمنة والمركسة والإلحاد، فقد كان له الفضل – مع ثلة مباركة أمثال مشايخنا: عبد الصبور شاهين، ويوسف القرضاوي، ومحمد الغزالي، وإسماعيل سالم عبد العال، وغيرهم – في كسر شوكة العلمانية، و”سقوط الغلو العلماني”، و”انحسار تيار العلمانية في مصر”؛ ولهذا قال له الشيخ محمد الغزالي يوما: ” أنت لست «عمارة»؛ أنت قلعة حصينة شامخة شديدة البأس؛ تكر منها على أعداء الإسلام وشانئيه، ولا ترضى الإياب إلا بعد أن تتركهم صرعى كأنهم أعجاز نخل خاوية”.
ترك د. عمارة للأمة المسلمة والإنسانية مكتبة مستقلة متكاملة بما خطته يداه وكته يراعه، وقد سئل عن: “ما أهم كتبك التي تعتبر أن فيها إضافة حقيقية؟”، فقال: “كتب كثيرة، مثل “معالم المنهج الإسلامي” الذي يتحدث عن معالم الوسطية الإسلامية، وهو كتاب فريد في بابه؛ وكذلك ما كتبته عن ‘تيارات الفكر الإسلامي‘ وفوضى المصطلحات، وما كتبته عن رد الشبهات عامة، وحول القرآن والسنة، والسماحة وحقوق الإنسان ومكانة المرأة، والسنة والشيعة، والحرب الدينية والجهاد، وما كتبته في مواجهة مشاريع التغريب والغلو التغريبي والغلو العلماني من الرد على نصر أبو زيد (ت 2010م) وحسن حنفي وسعيد العشماوي”.
إن الحديث عن العلامة د. محمد عمارة – رحمه الله تعالى – يقف المرء أمامه حائرًا، عن ماذا يكتب، ومن أي نقطة يبدأ، وفي أي مجال يتحدث… لقد كان عمارة قلعة فكرية متكاملة البينان، عظيمة المعاني، مهيبة المنظر؛ حيث ولقد مثل بعطائه وإنتاجه وجهاده أحد أهم المشروعات الفكرية في عصرنا إن لم يكن أهمها على الإطلاق في ضوء معنى المشروع ومضمونه وأبعاده، التي تتشكل – فيما نرى – من تناول جوانب الإسلام المتعددة، وتجلية زواياه المتنوعة، من عقيدة وشريعة وحضارة؛ فكَشَفَ الفكرة من كل جوانبها، وبين الدعوة من جميع زواياها، وأقام عليها الحجج النقلية والعقلية، ودفع عنها الشبهات التي تُلقى عليها من يمين وشمال.
تعليمه وانقطاعه للعمل الفكري
من ميزات د. عمارة ومعالم تفرده التي لم تتوفر لغيره إلا نادرا أنه انقطع للعلم، وعكف على مشروعه، وقد وفقه الله لذلك وهيأ له من الظروف ما يساعده ويعزز رغبته التي قررها في وقت مبكر من حياته، وتجلى هذا الانقطاع الفكري في معالم:
أولا: نذْر والده قبل ميلاده:
بدأت معالم انقطاع د. محمد عمارة للعلم والفكر تتشكل منذ ما قبل ميلاده؛ حيث نذره والده للعلم، يقول د. عمارة: “وُلدتُ في 27 رجب 1350هـ/ 8 ديسمبر/كانون الأول 1931م، في قرية اسمها “صَرَوة” مركز “قلين” في محافظة كفر الشيخ شمالي الدلتا. وُلدت لأسرة ريفية ميسورة الحال، ليست غنية وليست فقيرة تعيش من أرضها، وأنا أمزح فأقول إنني من “السادة”؛ أبي من السادة الفراعنة، وأمي من السادة آل البيت، فالأسرة تجسِّد عناق مصر مع العروبة والإسلام، أنا رابع إخوتي الذكور، والدي قبل أن أولد نذر لله تعالى إذا جاء هذا الحمل ولدًا أن يسميه محمدًا ويهبه للعلم، والعلم في مصطلح القرية في ذلك التاريخ هو العلم الديني”.
ثانيا: المسيرة التعليمية:
وشاء الله تعالى أن تتهيأ الظروف لفقيدنا فيتكون تكوينا علميا قويا من خلال التحاقه بمعهد دسوق الديني، يقول: ” في 1945 ذهبت إلى المعهد الديني في مدينة دسوق، وكان في مصر حينها خمسة معاهد: معهد الإسكندرية، ومعهد دسوق، ومعهد طنطا، ومعهد القاهرة، ومعهد أسيوط، والآن فيها أكثر من 8 آلاف معهد. الابتدائي في ذلك التاريخ كان مثل الإعدادي الآن، كنا ندخل أولى ابتدائي بعد حفظ القرآن وتجويده والحساب والإملاء، وكان الابتدائي في الأزهر في ذلك التاريخ يدرّس علومًا عالية، ففي الصف الرابع الابتدائي كنا ندرس ‘شذور الذهب‘  كتاب مرجعي في النحو لابن هشام الأنصاري المتوفى 761هـ) الذي يدرس في أربع سنوات بكلية الآداب، ما ندرسه في الابتدائي في سنة واحدة كان يُدرس في أربع سنوات في جامعة الملك فؤاد!”.
ثم التحق بعد ذلك بكلية دار العلوم جامعة القاهرة التي رأى فيها منهجة العلم وهندسة الأفكار والالتحام بالواقع، والقدرة على الاجتهاد والتجديد، والمزاوجة بين التراث والمعاصرة والسلفية والتجديد من خلال أعلامها الكبار في الأقسام الإسلامية: التاريخ والحضارة والنظم الإسلامية، والشريعة الإسلامية، والفلسفة الإسلامية ذلك القسم الذي انتمى إليه وجايل فيه نخبةً من أميز المفكرين المعاصرين، أساتذتنا: حسن الشافعي، وعبد الحميد مدكور، ومصطفى حلمي، أبو اليزيد العجمي، محمد السيد الجليند، وآخرين.
ثالثا: مشايخه ومكتبة فيها أربعة آلاف كتاب:
وكذلك من خلال ما هيأه الله له من مشايخ تركوا بصماتهم في عقله ونفيه، منهم: الشيخ عبد الرحمن جلال، والشيخ محمد كامل الفقي، والشيخ عبد التواب الشناوي الذي توفي وترك مكتبة غنية فيها أربعة آلاف كتاب، وفيها مجلة ‘الأزهر‘ ومجلة ‘الرسالة‘، وكانت فيها النسخة الأصلية لمجلة ‘العروة الوثقى‘، وعيون الفكر الإسلامي وكمٌّ من الكتب المترجمة عن اللغات الأوروبية، واستطاع مفكرنا أن يشتري كل ما في هذه المكتبة من كتب ويقرأها جميعا.. ومن الطبيعي أن تتوسع تلك المكتبة مع الأيام، وهو ما حدث فقد كان بيته مكتبة، وأولاده ولدوا في المكتبة، وقد غطت الكتب جدران البيت!
رابعا: طبيعة عمله وسلسلة الأعمال الكاملة:
رفض د. عمارة الوظائف، وكان يراها نوعًا من الرق، مكما رفض أن يذهب لبلد خليجي؛ حيث كانت نفسه تأبى أن يعمل عند “كفيل”، وبدأ حياته موظفًا في جمعية استهلاكية وكان يأخذ منها إجازات أياما كثيرة، مما أثر على وضعه المالي الذي كان يعوضه والده بإرسال مؤونة الحياة له عبر القطار؛ لينقطع لعمله الفكري في دار الكتب المصرية؛ حيث كان يقضي (18 ساعة) قراءةً وكتابة وهو في مرحلة الدراسات العليا، وهناك هيأ الله له الاطلاع على أعمال الأفغاني وعبده والكواكبي والطهطاوي وعلي مبارك وغيرها، وكرس جهده في هذه الفترة – مع دراسته العليا – لجمع هذه الأعمال التي أحيا بها فترة كانت ميتة، واستدعى بها فكرا كان غائبا، كما كان لهذه الأعمال تأثير ملحوظ في التكوين الفكري للدكتور عمارة، وكان في معاركه الفكرية التي خاضها يعتمد على كثير من مقولاتها وأدبياتها
خامسا: تأثره بالعقاد والغزالي:
بعد مرحلة التعليم الأزهري الذي تكون فيه مع تعليمه في دار العلوم، أضاف لذلك التأثر بعلمين كبيرين ومفكرين عظيمين وأديبين جليلين، هما: الأستاذ عباس العقاد، والشيخ محمد الغزالي، وكان الشيخ الشعراوي ممن عقد أملا كبيرا على جهوده في مواجهة التحديات التي يفرضها العصر على العقل المسلم.
يقول عن العقاد: ” كان يعجبني في العقاد عصاميته وعملقته وكبرياؤه، كنت أراه في ميدان التحرير فأكنّ له إعجابًا شديدًا. أيضا أُعجبت بطه حسين، رغم أن الجانب الأدبي عنده أكثر من الجانب الفكري، ولكن مسيرته وكفاحه شكّلا مصادر للإعجاب الفكري”.
ويقول عن الغزالي: “كانت هناك علاقة روحية شديدة بيني وبين الشيخ محمد الغزالي (ت 1996م)، قبل أن أقرأ كتب الشيخ عندما أردت الدفاع عنه ضد الهجوم السلفي عليه … ولي قصة مع الشيخ؛ فقد كنت أسمع به ولم تكن لي به صلة، وكان ثمة معركة بين المشايخ وعبد الرحمن الشرقاوي (ت 1987م) حول كتاباته اليسارية، فألقى الشيخ الغزالي محاضرة في قَطَر عن الغزو الفكري الذي يتمدد في فضائنا، وذكر من بين الأسماء الشرقاوي ومحمد عمارة، ثم حكى الشرقاوي هذا الكلام في مقال له في صحيفة “الأهرام” صادف أن قرأت المقال وفيه اسمي، ولكنني لم أتأثر؛ لأنني كنت أحب الغزالي من بعيد، ثم بعد أن قرأ الشيخ مجموعة مقالات لي -ولم يكن قد قرأ لي شيئًا قبلها- أرسل إلي رسالة، وقال لي فيها كلامًا هزني من الأعماق. قال: قالوا لي عنك إنك تفسر الشريعة تفسيرًا ماديًّا، وما كان يليق بمثلي أن يحكم على الرجال من خلال مقالات الآخرين، وإن القليل الذي قرأته لك ردني إلى الصواب في أمرك، ولقد ذهبتُ إلى الذين حدثوني عنك فقلت لهم: هذا عقاد العصر، وهذا وهذا… – في آخر لقاء بيني وبين الشيخ الغزالي في منزله؛ دخل وأحضر لي آخر كتبه ‘نحو تفسير موضوعي للقرآن الكريم‘، وكتب لي إهداء أحسست أنه يحمّلني الأمانة، كتب لي: “إلى أخي الحبيب د. عمارة داعية الإسلام وحارس تعاليمه. محمد الغزالي”، ثم سافر بعد ذلك إلى الجنادرية (في السعودية)، فتوفي ودُفن هناك في البقيع”.

(في الحلقة الثانية سيكون الحديث بإذن الله عن معالم المشروع الفكري للدكتور محمد عمارة، وفي الحلقة الثالثة عن الأسرار العشرة لتميز مشروعه الفكري، وفي الحلقة الرابعة والأخيرة حول معالم فروسيته في الميادين ونورد معها مصادر الدراسة).

(المصدر: مجلة كلمة حق)

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى