معارك الشمال السوري المحرر وعودة الروح الثورية
بقلم محمد عدنان مشيط
أولاً: أكدت المعارك أن إدلب ليست كغيرها من المناطق كالغوطة الشرقية ودرعا واللتان لم يستغرق النظام السوري في السيطرة عليهما سوى بضعة أسابيع فقط. وتعود الصعوبة الكبيرة في سيطرة النظام السوري على مناطق الثوار في الشمال المحرر إلى عوامل عدة أبرزها: الوجود الكبير للجماعات الجهادية أصحاب العقائد الصلبة وفي مقدمتها هيئة تحرير الشام والتي عادة ما تقاتل إلى آخر رمق وترفض الحلول الاستسلامية، ومنها وجود إدلب على الحدود التركية بما يسمح بهامش جيد من وصول الدعم -حتى وإن كان قليلاً- على عكس الغوطة الشرقية التي كانت محاصرة تماماً ودرعا التي كانت على حدود الأردن، ومنها تجمّع القوة الكبرى بيد فصيل واحد في الشمال المحرر على عكس تشتت القوى الذي حصل في الغوطة الشرقية ودرعا وساهم كثيراً في تناحر الفصائل بين بعضها وضياع المنطقتين، هذا بالإضافة طبعاً إلى أن الشمال المحرر أصبح يضم خزّان الثورة وزبدة الثوار الذين هُجّروا من مناطقهم ورفضوا الاستسلام والتسوية مع النظام، وآخر العوامل التي جعلت إدلب تختلف عن باقي المناطق التي سيطر عليها النظام هو الاستعداد النفسي والعسكري للثوار وعدم الركون لاتفاقيات خفض التصعيد ووقف إطلاق النار والتي هدفت لإضعافهم والرغبة في شق صفهم حتى يسهل القضاء عليهم.
ثانياً: يبرز في المواجهات الأخيرة عدم مشاركة قوات إيران وميليشياتها بشكل فاعل في المعارك إلا في بعض الجوانب الإعلامية وغياب تام على الأرض في الجبهات. أكّد هذا الأمر أحد أشهر عرّابي المصالحات عمر رحمون والذي حمّل إيران المسؤولية عن فشل معارك النظام في الشمال المحرر حتى الآن. يطرح هذا الغياب الإيراني شبه التام عن المشهد العديد من التساؤلات حول الخلافات بين موسكو وطهران ورغبة روسيا بتحجيم دور إيران في سوريا والضغط الأمريكي والإسرائيلي باتجاه هذا الأمر، وفي المقابل يعكس الغياب الإيراني رغبة إيران في إثبات أن الدعم الجوي الروسي للنظام لا يكفيه إطلاقاً دون المشاركة الإيرانية على الأرض، وعلى جانب آخر قد يكون الغياب الإيراني عن المعارك لانشغالها الواضح بما تتعرض له من حصار اقتصادي كبير بعد إلغاء الاتفاق النووي مع أمريكا والمناوشات التي تجري بينهما حالياً.
ثالثاً: يتبين من معارك الشمال السوري الرغبة التركية القوية بعدم تغيير خريطة القوى في المنطقة في الوقت الحالي، وخوفها الشديد من عمليات النزوح الجماعي الكبير الذي قد تشهده بسبب توغل قوات النظام في مناطق الثوار، وخلافاً كبيراً وواضحاً بين روسيا وتركيا حول التعاطي مع ملف الشمال السوري. لهذا ردّت تركيا على تصعيد روسيا والنظام بتقديم دعم لافت للفصائل الثورية في المعارك تمثل بآليات ومدرعات عسكرية وصواريخ غراد وتاو وغيرها والتي ساعدت الثوار في التصدي لهذه الحملة العسكرية، بالإضافة لاستقدام قوات من مناطق غصن الزيتون التابعة لتركيا مباشرةً للمشاركة في المعارك وهذا ما لم يحدث في معارك سابقة كشرق السكة وغيرها.
رابعاً: عودة الروح الثورية وتمثلت في عدة أمور منها: وقوف الفصائل جميعاً لصد العدوان، والابتعاد عن لغة التخوين المتبادل، واجتماع قادة الفصائل للتباحث في توحيد الجهود العسكرية وتشكيل غرفة عمليات مشتركة، ومحاولات توحيد الخطاب الإعلامي، والتحام الحاضنة الشعبية بالثوار وتجلى هذا الأمر بالدعم المادي والمعنوي الكبير من الأهالي والإعلان عن حملات للتدشيم وتحصين نقاط الرباط كحملة “حصن بلدك”.
خامساً: التهالك الكبير في قوات النظام رغم الدعم الروسي الضخم على مختلف الأصعدة. فروسيا ومنذ مدة تعمل جاهدة على إعادة الترويج للنظام السوري عالمياً بأنه أصبح قادراً على استلام زمام المبادرة في سوريا، ولكن هذا الأمر أكدت معارك الشمال السوري على بطلانه فالنظام اعتمد في المعارك كثيراً على عناصر المصالحات والتي آثر الكثير من أفرادها الهروب من المعركة، وزجّ بعناصر غير مدربة جيداً مما زاد في خسائره بشكل كبير. يثبت من هذا حقيقة الضعف الكبير في الخزان البشري لقوات النظام وصعوبة ترميم هذا النقص لديه مما اضطر روسيا لإشراك قواتها الخاصة في المعارك والتي ظهرت إلى جانب سهيل الحسن قائد مليشيات “النمر” الشهير وهذا ما لم تكن روسيا لتقدِم عليه لولا معرفتها بما تعاني منه قوات النظام في الجانب البشري.
سادساً: استخدام الثوار لتكتيكات عسكرية جديدة بتقليلهم الاعتماد على الاحتفاظ بالأرض، وتطوير أساليب حرب العصابات بالكرّ والفرّ بمناورة وسرعة كبيرتين، وقصف المطارات العسكرية بصواريخ غراد بإصابات دقيقة. هذا بالإضافة إلى استنزاف قوات الخصم بشن العمليات والإغارات السريعة في مناطق متفرقة لتشتيت جهود العدو وانعكس هذا بأثر إيجابي واضح على أرض المعركة؛ حيث اضُطرت قوات النظام لإيقاف الهجوم من المحاور التي وضعتها شمال كفرنبودة ونُقلت العديد من هذه القوات إلى المناطق التي هاجمها الثوار وخاصة في تل ملح والجبين لمحاولة صد هجوم الثوار وهذا تكتيك جديد لم يُعهد عن الثوار استخدامه في المعارك السابقة.
مستقبل الشمال السوري المحرر
ليس خفياً أن النظام السوري ومن خلفه روسيا يرغبان وبشدة السيطرة على ما تبقى من مناطق الثوار في الشمال السوري وخاصة إدلب وهذا أكده لافروف وزير الخارجية الروسي وبشار الأسد رئيس النظام السوري عدة مرات. يلتقي هذا الأمر مع رغبة عامة لدى الولايات المتحدة والنظام الدولي بعدم وجود منطقة خارجة عن سيطرته تعطي هامشاً حركياً للتنظيمات الجهادية مثل الشمال السوري المحرر ولهذا فعلى المدى البعيد لن تألوا هذه الأطراف جهداً في استعادة هذا المنطقة كاملة تحت سيطرة النظام السوري.
على المدى القريب تبدو مهمة استعادة كل المناطق المحررة دفعة واحدة بالنسبة للنظام وروسيا شبه مستحيلة لاختلاف منطقة إدلب وما حولها عن الغوطة الشرقية ودرعا كما بينا. لهذا سيحاول النظام الاستمرار في عملية القضم التدريجي للأراضي بما أطلق عليه سابقاً اسم “دبيب النمل” وهذا أسلوب توجه بالسيطرة على حلب في نهاية عام 2016 مبتدئاً إياه نهايات عام 2013 بالسيطرة على قرية السفيرة. وتعتمد هذه الاستراتيجية للنظام على عملية السيطرة على مناطق الثوار منطقة تلو أخرى بحملات متكررة، وقد يفصل بين الحملة والأخرى عدة شهور يعيد فيها النظام بناء قواته والهجوم مرة أخرى.
ولكن المهم لديه مع كل هجوم هو تضييق الخناق أكبر فأكبر على المنطقة المستهدفة مع عدم الاكتراث كثيراً لعامل الزمن بعد الضوء الأخضر الذي أخذه من المجتمع الدولي، ومعولاً بشكل كبير على أخطاء الثوار سواء بالاقتتال الداخلي بين الفصائل أو إصرارهم على استعادة ما خسروه من مناطق رغم الاستنزاف الكبير لهم دون التفكير في استراتيجيات بديلة لمواجهة هذه الهجمات.
لهذا يبدو التحدي الأكبر أمام الثوار في الوقت الحالي وفي الشهور القادمة المحاولة قدر الإمكان إفشال هذه الإستراتيجية للنظام ومنع قواته من التقدم من خلال الاستمرار باستنزافه وتكبيده خسائر فادحة تجعله وروسيا يعيدان حسابتهما بشأن جدوى الهجوم على إدلب نسبة للخسائر التي يتعرضان لها.
خاتمة
ما فعله الثوار في معارك الشمال السوري بصمودهم منذ شهرين وحتى الآن يُعد انتصارا هاماً لهم رغم خسارة بعض المناطق قياساً إلى ما حصل في الماضي القريب في المناطق الأخرى وإلى موازين القوى بين الأطراف. ولكن الأهم هو الاستثمار في هذا الانتصار وجعل شأن الشمال المحرر أمراً واقعاً ضمن معادلات النظام الدولي. وأول خطوة في هذا الأمر اعتماد الثوار على أنفسهم وعدم الاتكال على الدور التركي الداعم الذي قد يتغير في المستقبل وفقاً للصراعات التي تخوضها تركيا مع روسيا والغرب؛ هذا من شأنه أن يزيد صمود هذه المنطقة المحررة في سوريا أطول وقت ممكن ويجعلها مرشحة لأن تكون نقطة انطلاق لاستكمال الثورة حينما تحين اللحظة المناسبة والتي تحددها الصراعات الدولية والإقليمية في المستقبل.