هل ندم محمد علي باشا على قتاله الباب العالي.. وما انعكاساته اليوم؟!
بقلم أحمد زيدان
بين ندم ابن كافالا تاجر التبغ الذي قدم كقائد لسرية عسكرية صغيرة من قرب قونيا التركية عام 1800 إلى مصر ليغدو في غضون سنوات مالئ الدنيا وشاغل الناس، بين ندمه على حالة الاستنزاف التي أدخل فيها الخلافة العثمانية يومها، وبين وفاته تسع سنوات فقط، لكن ندامة كانت أقرب ما تكون إلى القولية منها إلى العملية، إذ لم تغير من الواقع شيئاً في ظل استمرار النزيف بين أرض الأهرامات والباب العالي، فقد بلغت حالة الشك واللاثقة مبلغاً خطيراً بينه وبين السلطان العثماني، تغذت بدماء عشرات الآلاف من جنود الطرفين، مع استنزاف مالي خطير، وسنوات حرب وتآمر وتحالف مع أعداء الأمة، مكّن ذلك كله القوى الاستعمارية المتربصة من التلاعب بالطرفين خدمة لمصالحها الخاصة على المديين القريب والبعيد، والذي نرى تأثيراته اليوم بادية في واقعنا ما دام الحاضر هو ظل الماضي، كما هو التاريخ ظل الجغرافيا..
نقرأ في الوثائق الفرنسية المهمة عن تلك المرحلة، وبالمناسبة تعود أهمية الوثائق الفرنسية إلى العلاقات الوثيقة التي حكمت علاقة محمد علي باشا مع الفرنسيين، رسالة ندمه على تصرفاته وسلوكياته مع الخلافة العثمانية والتي جاء فيها: “اعتقدت دوماً بأن أوروبا تريد الخير لي ووثقت بكلامهم، وكنت مخطئاً. لا أسمع شيئاً الآن، لقد عدت لأصير تركياً، وأقوم بسياسة تركية وسأموت كتركي، ولن أستطيع أن أحيا بعد دمار بلدي التي يبحثون عن تقسيمها بحجج كتركي، لن أتحمل أبداً أن تصير مصر انجليزية وتركيا روسية، أردت أن أكون السند القوي للسلطان.. سأقضي مع أهلي في النضال، لكني سأموت بشرف”.
ومع هذه الرسالة المهمة لمحمد علي باشا فقد استمرت حالة الصدام والتوتر بين الطرفين، كان محمد علي باشا يومها تسيطر عليه فكرة واحدة وهي ضمان التوريث في عائلته بعد رحيله، وهو ما كان يرفضه الباب العالي بلا ضوابط أو قوانين تحكمه، بحيث تضمن لهم عدم تمرد الأبناء والأحفاد كما حصل مع الجد. لم تكن مصلحة بريطانيا بالمرستون أن تبقى مصر بيد موال وحليف لفرنسا منافستها الرئيسة في المنطقة، إذ لم يكن هناك خلاف على أن محمد علي باشا حليف فرنسا الصديق الصدوق، وقد تجلى ذلك بزياراته المتكررة إليها، وتطبيب ابنه إبراهيم باشا فيها، أما روسيا فقد كان من مصلحتها التحالف مع الباب العالي إذ أن اقترابها من الباب العالي يوفر لها ضمان مصالحها في المضائق المائية والممرات البحرية الاستراتيجية والحيوية لها، الأمر الذي كان يقلق كلاً من بريطانيا وفرنسا، ويهدد مصالحهما، ويخيفهما من أن تقوم روسيا بالاستئثار بتركة ما يسمونه بالرجل المريض لوحدها..
إن كل الاتفاقيات والمعاهدات ومذكرات التفاوض التي وقعت في تلك الفترة بين الباب العالي ومحمد علي باشا برعاية الدول الغربية وروسيا نلمس فيها نبرة مصالح هذه الدول أكثر مما يغلب عليها مصلحة الطرفين أصحاب المصلحة المباشرة، كما نلمس فيها تأسيساً لمصالح الأقليات المرتبطة بهذه القوى الاستعمارية إن كان من حيث ضمان وفرة السلاح في أيديها أو المال أو الإعفاء من الضرائب والمكوث..
لقد كان المنح العثماني الأخير لمحمد علي باشا باشاوية مصر، مع تخليه عن سوريا وعكا وغيرهما عبارة عن طوق تم تفصيله على عنق محمد علي باشا، بعد أن انشغل لعقود باستنزاف الخلافة العثمانية لهثاً وراء مغامرات ثبت أنها لم تكن إلاّ لمصلحة الغرب والشرق، وتبين له أنهم ما كانوا صادقين معه في تمكينه من تأسيس إمبراطورية خاصة به، كان الحرص الغربي الخبيث هو استمرار الاقتتال والصدام بين قوتين إسلاميتين مهمتين واستنزافهما، وهو ما يصب لمصلحة الغرب والشرق مجتمعين، ومع اعترافه بذلك متأخراً إلاّ أنه واصل نفس السياسة لتسع سنوات أخرى قبل مماته، كلّفت العالم الإسلامي يومها الكثير ولا تزال تستنزفه اليوم، فقط ما عليك اليوم إلاّ أن تبقي على اللاعبين وتقوم بتغيير المتلاعبين فتجد أن اللعبة هي نفسها لم تتغير ولم تتبدل.
(المصدر: مدونات الجزيرة)