مقالاتمقالات مختارة

الإلحاد: تعريفه، وأقسامه، وصوره، وكيف نواجه موجة الإلحاد المعاصرة؟

الإلحاد: تعريفه، وأقسامه، وصوره، وكيف نواجه موجة الإلحاد المعاصرة؟

بقلم النميري بن محمد الصبار

الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، أما بعد:

فقد أخذ الإلحاد يظهر في أجزاء من العالم الإسلامي، وبرزت إلى أرض الواقع مواقع تتبنى هذا الإلحاد، وتسعى للدفاع عنه، وتستقطب الشباب إليه – إلا من رحم الله وعصَمه من هذه الفتن – بواسطة التلبيس والتحريف والتشكيك في قضايا الدين الكبرى ومسلماته العظمى؛ مما ساق بعض أولئك الشباب إلى الانسلاخ عن الدين وخلع ربقته بالكلية، عياذًا بالله.

من أجل ذلك كان هذا البحث – بعون الله – كشفًا للغطاء عن حقيقة الإلحاد، وأقسامه، وصوره، وكيف نواجه موجة الإلحاد المعاصرة؟

أولًا: تعريف الإلحاد:

لغةً: ميل عن استقامة، يقال: ألحد الرجل، إذا مال عن طريق الاستقامة.

الإلحاد هو: الميل عن الحق الذي أنزله الله جل وعلا في كتابه، وبعث به رسوله صلى الله عليه وسلم إلى ضد ذلك من الباطل والضلال؛ كما قال تعالى: ﴿ ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ ﴾ [محمد: 3]، وقال تعالى: ﴿ فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ ﴾ [يونس: 32].

ثانيًا: أقسامه:

الإلحاد له أقسام أو أنواع ثلاثة:

القسم الأول: إنكار وجود الله جل وعلا، واعتقاد أنه ليس للعالم ربٌّ يخلق ويدبر ويميت ويحيي، وليس له إله يعبد ويقصد؛ كما كان أهل الجاهلية يقولون: إنما يهلكنا الليل والنهار، والدهر هو الذي يهلكنا، ويُميتنا ويحيينا، وكان إذا أصابهم شدة أو بلاء أو نكبة، قالوا: يا خيبة الدهر، فيجعلون تلك الأفعال عائدةً إلى الدهر ويسبونه؛ كما قال تعالى فيهم: ﴿ وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ ﴾ [الجاثية: 24].

ولذلك نهاهم الله عز وجل عن ذلك؛ كما ثبت ذلك في الحديث القدسي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قال الله عز وجل: يؤذيني ابن آدم، يقول: يا خيبة الدهر، فلا يقولن أحدكم: يا خيبة الدهر؛ فإني أنا الدهر أقلِّب ليله ونهاره، فإذا شئت قبضتهما»؛ أخرجه مسلم.

القسم الثاني: الإلحاد في أسماء الله عز وجل وصفاته، وهو: الميل بها عن الحق الثابت فيها في الكتاب والسنة الصحيحة، وما كان عليه منهاج النبوة في إثبات اللائق به جل وعلا، ونفي ما لا يليق به، والدليل على هذا القسم: قوله تعالى: ﴿ وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُون﴾ [الأعراف: 180].

وهو أنواع:

النوع الأول: أن يسمي الله بما لم يسمِّ به نفسه، كما سماه النصارى: أبًا، وعيسى: الابن!

النوع الثاني: أن ينكر شيئًا من أسمائه؛ سواء أنكر كل الأسماء، أو بعضها التي تثبت لله؛ كما أنكر كفار قريش اسم (الله)، واسم (الرحمن)، واسم (الرحيم)؛ كما قال تعالى في حقهم: ﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُورًا ﴾ [الفرقان: 60].

وعن أنس رضي الله عنه أن قريشًا صالحوا النبي صلى الله عليه وسلم فيهم سهيل بن عمرو، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لعلي: «اكتُب بسم الله الرحمن الرحيم»، قال: سهيل: أما بسم الله فما ندري ما بسم الله الرحمن الرحيم، ولكن اكتُب ما نعرف باسمك اللهم؛ أخرجه مسلم.

النوع الثالث: أن ينكر ما دلت عليه من الصفات، فهو يثبت الاسم، لكن ينكر الصفة التي يتضمَّنها هذا الاسم؛ كأن يقول: إن الله سميع بلا سمع، وعليم بلا علم، وخالق بلا خلق، وقادر بلا قدرة، وهذا معروف عن المعتزلة.

النوع الرابع: أن يثبت الأسماء لله، ولكن ليس كما يليق بجلاله وعظمته، وإنما يقع في تشبيهها بالمخلوق.

النوع الخامس: أن ينقلها إلى المعبودات؛ كأن يسمي شيئًا معبودًا بالإله، أو يأخذ أسماءً منها للمعبودات؛ كما سُمي (مسيلمة الكذاب) بـ(الرحمن)، وكفعل المشركين في معبوداتهم الباطلة؛ كاللات من الإله، والعزى من العزيز، ومناة من المنان؛ كما قال تعالى فيهم: ﴿ أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى * وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى * أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى* تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى * إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى ﴾ [النجم: 19 – 23].

القسم الثالث: الإلحاد في آيات الله عز وجل، وآيات الله عز وجل هي الدالة على عظمته ووحدانيته، وهي تنقسم إلى قسمين:

الأول: الآيات الكونية القدرية.

والآخر: الآيات الشرعية الدينية.

فأما القسم الأول، فهو ما يتعلق بالخلق والتكوين؛ كما في قوله تعالى: ﴿ وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ ﴾ [الأنبياء: 32]، وقوله جل وعلا: ﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ ﴾ [الروم: 20]، وقوله: ﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ﴾ [الروم: 21]، وقوله: ﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ ﴾ [الروم: 22]، وقوله: ﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ﴾ [الروم: 24]، وقوله: ﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ ﴾ [فصلت: 37].

والإلحاد فيها أن ينسب خلقها إلى غير الله استقلالًا أو مشاركةً أو إعانةً؛ كأن يقول: إنما خلقها الولي الفلاني، أو النبي الفلاني، أو شارك الله في خلقها النبي الفلاني، أو الولي الفلاني، أو أعان الله فيه، وكل ذلك نفاه الله عز وجل عن نفسه؛ حيث قال تعالى: ﴿ قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ ﴾ [سبأ: 22].

ومن الإلحاد فيها أيضًا أن ينسب لها الألوهية والتصرف في الكون، كما مر معنا سابقًا في اعتقاد أهل الجاهلية الأولى في الدهر، وكما هو اعتقاد الكفار سابقًا؛ كما قال تعالى: ﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ ﴾ [فصلت: 37].

وأما القسم الثاني من الآيات، فهو ما جاءت به الرسل من الوحي كالقرآن العظيم، وهو آية كما قال تعالى: ﴿تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ ﴾ [البقرة: 252]، وقال تعالى: ﴿ وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ * أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ﴾ [العنكبوت: 50، 51]، فجعله آياتٍ.

والإلحاد فيها له ثلاث صور:

الصورة الأولى: التكذيب بهذه الآيات؛ كما قال تعالى: ﴿ أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آيَاتِنَا سُوءَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يَصْدِفُونَ ﴾ [الأنعام: 157]. والصدف هو: الإعراض.

وقال تعالى: ﴿ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴾ [يونس: 95]، وقال تعالى: ﴿كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ كَانُوا ظَالِمِينَ﴾ [الأنفال: 54].

ومن الأمثلة على هذه الصورة من الإلحاد في قديم الزمان وحديثه: مثالان اثنان:

الأول: التكذيب باليوم الآخر، وعدم الإيمان به وما فيه من البعث والقيامة؛ كما قال تعالى في أمر الكافرين: ﴿وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ ﴾ [الجاثية: 24]؛ أي: ما هنالك إلا هذه الدار، يموت قوم، ويعيش آخرون، وما هناك معاد ولا قيامة.

الثاني: التكذيب بنبوة النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وعدم الإيمان بأنه رسول من عند الله جل وعلا؛ كما قال تعالى في حق الكافرين: ﴿ وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ ﴾ [النحل: 103].

فقد كان المشركون في الجاهلية يعتقدون أن محمدًا صلى الله عليه وسلم لم يكن رسولًا يوحى إليه من عند الله عز وجل، وإنما كان يتلقى هذا الوحي من عند رجل أعجمي، فرد الله عليهم بأن الوحي الذي جاء به ونزل عليه عربي مبين، واضح لا عجمة فيه أبدًا، وفيه قمة البلاغة والفصاحة، فكيف يكون هذا من أعجمي اللسان؟!

الصورة الثانية: التحريف والتغيير والتبديل؛ إما بتغيير اللفظ، أو صرف المعنى عن مراده الصحيح الذي أراد الله به ورسوله صلى الله عليه وسلم، وهذا فِعل اليهود ومَن اتَّبع سننهم مِن الفِرَق الضالة.

أما اليهود فقد قال الله فيهم: ﴿ أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 75]، وقال تعالى: ﴿ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ ﴾ [النساء: 46]، وقال تعالى: ﴿ فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِه ﴾ [المائدة: 13]، وقال تعالى: ﴿ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ ﴾ [المائدة: 41].

فمن تحريف اليهود في آيات الله جل وعلا: أنهم يجعلون الحلال فيها حرامًا، والحرام فيها حلالًا، والحق فيها باطلًا، والباطل فيها حقًّا؛ حتى إنهم اخترعوا كتابًا من عند أنفسهم، فعن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال: (إن بني إسرائيل لما طال عليهم الأمد فقست قلوبهم، اخترعوا كتابًا من عند أنفسهم استهوته قلوبُهم، واستحلَّتْه ألسنتهم، وكان الحق يحول بينهم وبين كثير من شهواتهم، حتى نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون…)؛ إسناده صحيح؛ أخرجه الطبري والبيهقي.

وكما قال تعالى في حقهم: ﴿ وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ * فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ ﴾ [البقرة: 58، 59].

ومن تحريفات الفرق في كتاب الله عز وجل: تفسيرهم (اليقين) في قوله تعالى: ﴿ وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ ﴾ [الحجر: 99]، بأنه هو العلم والمعرفة، فإذا حصل ذلك سقطت العبادة، وصار العبد غير مكلفٍ لا بصلاة أو صيام أو غير ذلك من التكاليف الشرعية، وربما قال بعضهم: اعمل حتى يحصل لك حال، فإذا حصل لك حال سقطت عنك العبادة! وإنما المقصود بـ(اليقين) في الآية أنه هو (الموت) بإجماع علماء المسلمين.

الصورة الثالثة: المخالفة الشديدة فيما يتعلق بحرمات الله وشعائره المقدسة من الأمكنة والأزمنة؛ كارتكاب المحرمات في البلد الحرام؛ كما قال تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ ﴾ [الحج: 25].

وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أبغضُ الناس إلى الله ثلاثة: ملحد في الحرم…»؛ أخرجه البخاري.

وينبغي التنبيه ها هنا إلى مثال معاصر اجتمعت فيه معظم أقسام الإلحاد وأنواعه وصوره، ألا وهو (إلحاد الحضارة المادية) الذي نلاحظه اليوم في بعض بلاد المسلمين، ولنا أن نسأل حينئذ مجموعةً من الأسئلة المهمة؛ حتى تكون الصورة باديةً للعيان بشكل كبير:

كيف كانت بداية هذا الإلحاد؟ وما سببه؟ وما آثاره؟ وكيف نواجهه؟

كانت بداية هذا الإلحاد وسببه الرئيس ما قام به أحد رجال الدين في الكنيسة النصرانية، وهو رجل يهودي يقال له: (بولس) من تحريف للإنجيل؛ ذلك الكتاب المقدس الذي أنزله الله عز وجل على نبيه الكريم: (عيسى عليه السلام)، وقد أدخل فيه بولس من الخرافات والأكاذيب الشيء الكبير، حتى وصل به الأمر إلى ادعاء أن للمسيح ابن مريم عليه السلام طبيعةً إلهيةً؛ من حيث أنه (ابن الله)، تعالى الله عن ذلك علوًّا كبيرًا.

وأما آثار هذا الإلحاد، فقد ظهرت في القرنين السابع عشر والثامن عشر الميلادي؛ حين اكتشف رجال العلم خارج الكنيسة معلومات جديدةً عن الأرض والكون والحياة، وبالتالي توصلوا إلى علوم حديثة لم تكن معروفة مِن قبلُ، وكانت المصيبة أن ما وصلوا إليه يخالف ما عليه رجال الدين في الكنيسة في كتبهم المحرفة؛ مما أدى إلى حدوث صراع شديد بين رجال الدين المحرَّف في الكنيسة ورجال العلم في خارجها؛ مما جعل غيرهم ممن بقي حيًّا منهم أن يُصيبه الشك في صحة ما جاء في دين الكنيسة وكُتبها المحرَّفة، ولكن الأمر تجاوز كل الحدود حتى وصل إلى الإلحاد، من خلال إنكار النبوة، وجعل العقل البشري يحكم في كل شيء، ونسبة الخلق والتدبير إلى الطبيعة، ومن أشهر هؤلاء الملاحدة: توماس هوبز، وديفيد هيوم، وهولباخ.

ومما يؤسف له حقًّا أن البعض تأثروا بهذه الحضارة الغربية، فوقعوا في الإلحاد – عياذًا بالله – بسبب الهزيمة النفسية أمام مخترعات هذه الحضارة ومنجزاتها، وبسبب الجهل بدينهم الحق الذي أنزله الله جل وعلا، ولذلك فإنه من المهم جدًّا أن نقف معهم الوقفات التالية، من أجل أن نقف وقفةً جادةً لمواجهة هذا الإلحاد:

1- ظهر لنا بيقينٍ لا شك فيه أن الإلحاد الذي وقع فيه الغرب في الله وفي رسوله وفي آياته – ولا سيما في رجال العلم منهم – كان سببه الإلحاد في آيات الله عز وجل بالتحريف والتغيير الذي وقع في (الإنجيل) على يد رجال الدين منهم في الكنيسة النصرانية، وهذا ما لم يحدث أبدًا، ولا يمكن أن يحدث البتة في (القرآن العظيم) الذي أنزله الله جل وعلا على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم؛ إذ تكفل الله جل وعلا بحفظه؛ كما قال تعالى: ﴿ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ﴾ [الحجر: 9].

2- قامت الحضارة المادية على نقل محرف فيه الكثير من الأكاذيب والخرافات؛ بسبب الإلحاد الذي جرى في آيات الله من خلال تحريفها؛ مما أدى إلى الإلحاد، ومن ثم كان هذا النقل بصفته المكذوبة مرفوضًا عند رجال العلم فيهم؛ مما أدى إلى إلحاد كثيرين منهم وممن بعدهم، وأما الحضارة الإسلامية، فقد قامت على العكس من ذلك – بفضل الله ورحمته – من خلال نقل صحيح – وهو الوحي المحفوظ من رب العالمين – متوافق مع العقل السليم فيه العلم الصحيح بالله وآياته ورسوله، فبذلك كانت الحضارة الإسلامية بحقٍّ حضارة توحيد وإيمان.

كما أن فيه العدل والحكمة والخير والنفع والرحمة بالإنسان؛ لأنه منزل من لطيف خبير؛ كما قال تعالى: ﴿ أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ﴾ [الملك: 14]، ولذلك شجَّع الإسلام أفراده التابعين له على العلم والمعرفة، والأخذ بأسباب القوة في جميع ميادين الحياة؛ كما قال تعالى: ﴿ وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ ﴾ [الأنفال: 60].

ولفظ (قوة) في الآية يدخل فيه كل قوة عقلية وبدنية وصناعية ومالية ومعرفية، ومن هنا انتفعت البشرية جمعاء بالحضارة الإسلامية في جميع ميادين الحياة:

أ- في ميدان العلم والمعرفة.

ب- في ميدان الحقوق.

جـ- في ميدان الأخلاق.

د- في ميدان الاقتصاد وبناء الدول.

وقد شهد بهذه الحقيقة واحدٌ من كبار فلاسفة الغرب وعلمائهم، وهو طبيب ومؤرخ فرنسي يقال له: (جوستاف لوبون)؛ حيث قال في كتابه: (حضارة العرب) في صـ276: (إن حضارة العرب المسلمين قد أدخلت الأمم الأوروبية الوحشية في عالم الإنسانية، وإن جامعات الغرب لم تعرف لها موردًا علميًّا سوى مؤلفات العرب؛ فهم الذين مدنوا أوروبا مادةً وعقلًا وأخلاقًا، والتأريخ لا يعرف أمةً أنتجت ما أنتجوه).

فهل يعقل بعد هذه الحقائق الواضحة البينة أن يتأثر مسلم بالحضارة الغربية، ويقع في الإلحاد بسببها؟!

مراجع مستفاد منها في البحث:

♦ مقاييس اللغة لابن فارس.

♦ تأويل مختلف الحديث لابن قتيبة.

♦ جامع البيان للطبري.

♦ الإحكام لابن حزم.

♦ مجموع الفتاوى، ومنهاج السنة، ودرء التعارض، كلها لابن تيمية.

♦ تفسير القرآن العظيم لابن كثير.

♦ التحرير والتنوير لابن عاشور.

♦ أضواء البيان للشنقيطي.

♦ تيسير الكريم الرحمن للسعدي.

♦ مذكرة التوحيد لعبدالرزاق عفيفي.

♦ شرح العقيدة الواسطية لابن عثيمين.

♦ الحلية بشرح القضايا الكلية للاعتقاد في الكتاب والسنة لعيسى مال الله فرج.

♦ ماذا قدم المسلمون للعالم؟ إسهامات المسلمين في الحضارة الإنسانية لراغب السرجاني.

♦ خرافة الإلحاد، ووهم الإلحاد، كلاهما لعمرو شريف.

♦ الإلحاد: وسائله وخطره وسبل مواجهته؛ لصالح سندي.

(المصدر: شبكة الألوكة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى