“ورشة البحرين الاقتصادية”.. لماذا يرفض الكثيرون التطبيع مع الاحتلال الإسرائيلي؟
إعداد ساري عرابي
في العاصمة البحرينية المنامة، وفي شبه الجزيرة العربية، يعلن جاريد كوشنر، مستشار الرئيس الأميركي، مساعيه، ومن ورائه الرئيس الأميركي دونالد ترامب ومجموعة من الدول العربية، بدء أولى الخطوات العملية لتنفيذ المبادرة الأميركية للسلام، أو ما يُعرف إعلاميا بصفقة القرن. وهي المبادرة التي يرى فيها كوشنر حلّا ناجعا، لإنهاء ما أسماه بالصراع العربي الإسرائيلي، وهي ذاتها التي يراها الفلسطينيون أولى الخطوات العملية لتصفية القضية الفلسطينية.
تزامنا مع ورشة البحرين الاقتصادية، تضجّ مواقع التواصل الاجتماعي عبر قطاعات شعبية عريضة بدعوات الرفض القاطع لمشروع التصفية على حد وصفهم، باعتبار أن هذه الورشة هي التعبير الصارخ للتطبيع مع قوات الاحتلال الإسرائيلي وتكريسا لوجوده الدائم عمليا على الأرض الفلسطينية، في قلب الجغرافيا العربية. إلا أن هذه الدعاوى تطرح سؤالا جديا، قد يبدو من البديهة بمكان للوهلة الأولى، وهو لماذا يرفض الكثيرون التطبيع مع الاحتلال الإسرائيلي. وبعيدا عن الإجابات المعلّبة، فإن العودة للتاريخ يحوي كثيرا من الإضاءات الهامة للإجابة عن هذا السؤال المركزي.
ابتداءً، لم يكن مصطلح “التطبيع” رائجًا في الأدبيات الفلسطينية والعربية إلى حين توقيع اتفاقية كامب ديفيد بين مصر و”إسرائيل” في أواخر سبعينيات القرن الماضي. قبل ذلك، كان المصطلح الرائج متمثلا في “مقاطعة إسرائيل”؛ وذلك منذ بواكير المشروع الصهيوني، أي قبل قيام دولة الاحتلال الإسرائيلي. وإذا كانت المقاطعة المقصودة حينها تنصرف إلى المقاطعة الاقتصادية، حتى في المرحلة التالية بعد تأسيس دولة الاحتلال، فذلك لأنّه لم يكن متصوّرًا أن يقوم بين الكيان على المستوى السياسي أو بين أفراده وبين العرب أي شكل من التواصل السياسي أو الثقافي أو الإعلامي.
يمكن القول إنّ مرحلة المقاطعة الأولى قبل تأسيس “إسرائيل” كانت شكلاً من أشكال نضال الفلسطينيين ضدّ التوظيف الصهيوني، والاستعمار البريطاني، للوجود اليهودي في سياق مساعيهم لتأسيس “الوطن القومي لليهود في فلسطين”، وهنا يمكننا استعراض العديد من الأمثلة التي رامت توظيف المقاطعة لأغراض نضالية، كما نجد في قرارات المؤتمر العربي الفلسطيني الخامس بمدينة نابلس عام 1922 حيث نصّت على “مقاطعة اليهود في الشراء وبيع الأموال غير المنقولة”[1]، أو مقرّرات لجنة تشجيع الصناعات الوطنية بمقاطعة البضائع الصهيونية عام 1931، والتي نصّت على “مقاطعة المصنوعات والمحصولات والمؤسسات والمتاجر الصهيونية عامة والعمال الصهيونيين”[2]، وغيّرها من الخطوات والمقرّرات والدعوات التي استطاعت أن تلاحظ التوظيف الاستعماري للوجود اليهودي في فلسطين، وجعلت النشاط الاقتصادي الصهيوني على درجة واحدة من المصالح الاقتصادية الاستعمارية البريطانية[3].
بعد تأسيس “إسرائيل” في العام 1948، تحوّلت المقاطعة إلى موقف عربي سياسيّ ثابت، في إطار الجامعة العربية منذ العام 1951. بإنشاء جهاز رئيس لمقاطعة “إسرائيل” وتتبع له وحدات فرعية تنتشر في جميع الدول العربية[4]، وقد أقرّ مجلس الجامعة العربية في العام 1954 القانون الموحّد لمقاطعة “إسرائيل”، والذي استهدف “عدم قيام أي شخص طبيعي أو اعتباري بتوقيع عقد بالذات أو بالوساطة مع هيئات وأشخاص يقيمون في إسرائيل أو منتمين إليها بجنسياتهم أو يعملون لحسابها أو لمصلحتها أينما أقاموا، وحظر القيام بأيّ صفقات تجارية أو عمليات مالية، فضلاً عن جميع أنواع التعاملات الأخرى.. وأخضع القانون الموحّد الشركات أو المنشآت الوطنية والأجنبية التي لها مصالح أو فروع أو توكيلات عامّة في إسرائيل لحكم الأشخاص أو الهيئات المحظور التعامل معهم”، وأشار القانون إلى عدم الدخول في علاقات مع “إسرائيل”، ومنع تصدير المنتجات العربية إلى البلدان التي يثبت أنها تعيد تصديرها إلى “إسرائيل”[5].
لقد ظلّت مسألة مقاطعة “إسرائيل” والأجهزة المرتبطة بها، بندًا دائمًا في كل اجتماعات الجامعة العربية وقراراتها، وإذا كانت تلك الأجهزة في ضوء عملها داخل إطار الجامعة العربية تُعنى بمتابعة كل الحيثيَّات الاقتصادية المتعلقة بسدّ منافذ التعامل مع “إسرائيل” كالخشية من تسلل البضائع الإسرائيلية عبر دول وسيطة كإيران وتركيا، وشروط رفع البواخر المُدرجة على القوائم السوداء، والموقف من الشركات الأجنبية التي يساهم فيها رأس المال الإسرائيلي، والإجراءات حيال الغرف التجارية الأجنبية التي تمتنع عن إصدار شهادات منشأ للبضائع المصدرة إلى البلاد العربية، وغير ذلك من الحيثيات الاقتصادية[6]، فإنّها أيضًا –أي أجهزة المقاطعة- كانت تتجه لمعالجة الأشكال الأخرى غير الاقتصادية مما يستوجب مقاطعته، كالأفلام السنيمائية التي تتضمن دعاية لـ “إسرائيل” أو طعنًا في العرب، والموقف من الشركات التي تنتجها، وكذلك من الممثلين الأجانب الداعمين لـ “إسرائيل”[7].
شكّلت معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية، أول اختراق ضخم في جدار المقاطعة العربية، وبداية رواج مصطلح التطبيع في الأدبيات العربية
لقد تحدثت الجهات القائمة على إدارة ملف مقاطعة “إسرائيل” وحتى أوسط سبعينيات القرن الماضي عن نجاحات بهذا الصدد، كتقديم مئة شركة أجنبية طلبات لرفع حظر التعامل معها بعدما قدّمت مستندات تثبت إنهاء علاقتها بـ إسرائيل”، كما وتحدثت عن سياسة دولية تترأسها الولايات المتحدة لمواجهة سياسة المقاطعة العربية[8]، وهو ما يقتضي بالرد الذي يَحْرِم أي مؤسسة أو شركة أميركية لا تحترم أنظمة المقاطعة من استيراد أية مواد خام، عربية أو خلاف ذلك، من الأسواق العربية[9].
وبصرف النظر عن تقييم أداء أجهزة المقاطعة العربية، ومدى التزام الدول العربية، في حينه، بكل متطلباتها، فإنّها في النهاية مثّلت محورًا مركزيًّا فيما يُسمّى بـ “العمل العربي المشترك”، إلى درجة اتخاذ قرار بمقاطعة مصر في مؤتمر القمة العربي التاسع في العام 1978[10]، أي بعد توقيع اتفاقية كامب ديفيد، وقد شكّلت معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية، والبروتوكولات والتفاهمات المتصلة بها، أول اختراق ضخم في جدار المقاطعة العربية، وبداية رواج مصطلح التطبيع في الأدبيات العربية من البوابة الإسرائيلية، فقد نصّت المعاهدة على اتفاق مصر و”إسرائيل” على “أنّ العلاقات الطبيعية التي ستقام بينهما ستضمن الاعتراف الكامل والعلاقات الدبلوماسية والاقتصادية والثقافية وإنهاء المقاطعة الاقتصادية والحواجز ذات الطابع المتميز المفروضة ضد حرية انتقال الأفراد والسلع”[11].
انبثق عن معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية سلسلة من اتفاقيات التطبيع، منها اتفاقية التعاون في مجال التربية والثقافة والعلوم، ووقعت في مبنى التلفزيون المصري، واتفاقية للتعاون الزراعي، والاتفاقية التجارية الصناعية، والاتفاقية السياحية، واتفاقية النقل الجوي، واتفاقية المواصلات البرية والبحرية، واتفاقية الطيران، واتفاقية النفط، واتفاقية تبادل الشبيبة والتي وُقعت في مبنى المجلس الأعلى للشباب والرياضة في القاهرة[12]، وهذه الاتفاقيات كلّها وقعت في العام 1980، مما يدلّ على الإلحاح والاستعجال الإسرائيلي من جهة، والاستجابة المصرية في الجهة المقابلة.
لا نقصد من هذا العرض، استكشاف تحوّلات العلاقات العربية الإسرائيلية، أو مقارنة أوضاع هذه العلاقة اليوم بما كانت عليه في الماضي، ولا تقييم حركة المقاطعة في مرحلة من المراحل، وإنّما تعريف التطبيع وفق مساره التاريخي بالنظر إلى أصل الموقف الفلسطيني والعربي من أيّ علاقة بـ “إسرائيل” المؤسسة والكيان والدولة أو المجتمع، وذلك لأنّ إشكالية التعريف باتت تُتخذ ذريعة للتأسيس لأنماط معينة من العلاقات مع “إسرائيل” كالعلاقة مع المؤسسة الأكاديمية الإسرائيلية[13]، أو صياغة عناوين مخاتلة كـ “الاشتباك السياسي” الذي يستدعي إقامة لجان للتواصل مع “المجتمع الإسرائيلي” [14]، أو الدعوة إلى التواصل مع أوساط إسرائيلية معارضة لسياسات الحكومة الإسرائيلية، أو التبرير للتطبيع الإعلامي والرياضي وما شابه.
إنّ الزعم بغموض مصطلح التطبيع، وتردّده بين كونه ضيّقًا أو فضفاضًا[15]، بات يُستخدم مدخلاً لتبرير أشكال من التطبيع مع “إسرائيل”، وهو ما استدعى تعريفات تحاول تحديد معناه ومجالاته كما في تعريف الحملة الفلسطينية للمقاطعة الأكاديمية والثقافية لـ “إسرائيل”، الذي قالت فيه إن التطبيع “هو المشاركة في أي مشروع أو مبادرة أو نشاط، محلي أو دولي، مصمم خصيصا للجمع (سواء بشكل مباشر أو غير مباشر) بين فلسطينيين (و/أو عرب) وإسرائيليين (أفرادا كانوا أم مؤسسات) ولا يهدف صراحة إلى مقاومة أو فضح الاحتلال وكل أشكال التمييز والاضطهاد الممارس على الشعب الفلسطيني. وأهم أشكال التطبيع هي تلك النشاطات التي تهدف إلى التعاون العلمي أو الفني أو المهني أو النسوي أو الشبابي، أو إلى إزالة الحواجز النفسية”[16].
بيد أنّه ومع أهمية هذه المحاولة، فالتطبيع، والذي يستدعي مدلوله، بدقة، من مصدره المعجمي المباشر “الطبع والطبيعة: الخليقة والسجية التي جبل عليها الإنسان”[17]، يتضح معناه الذي نُعرّفه من سياقه التاريخي الذي عرضنا له على ضوء الاعتبارات التالية:
أولاً، أنّه صياغة إسرائيلية صرفة، فرضته “إسرائيل” على الواقع العربي، بعد توقيعها لاتفاقياتها مع مصر، فهو على النقيض تمامًا من المقاطعة العربية التي بيّنا بعض صورها ومساراتها التاريخية، فكلّ ما ناقض المقاطعة هو تطبيع، والمقاطعة هي الموقف العربي الأصلي تجاه “إسرائيل”.
ثانيًا، أنّ التطبيع موقف شعبي فلسطيني، أصيل، وتلقائي، وناجم عن وعي فطري دقيق بحقيقة المشروع الصهيوني، وقد بدأ منذ مطلع عشرينيات القرن الماضي قبل تأسيس الكيان الإسرائيلي، وهو من هذه الجهة، موقف شعبي قبل أن يكون سياسة رسمية، ثم هو يستهدف في جذوره الأفراد الصهاينة ومؤسساتهم ومصالحهم قبل أن يستهدف الكيان الرسمي الذي تأسس لاحقًا.
ثالثًا، أنّ “إسرائيل” كانت مستعجلة ولحوحة بعد توقيعها معاهدة السلام مع مصر، لتجاوز التطبيع السياسي، وحتى الاقتصادي، وصولاً إلى التطبيع في مجالات الثقافة والتربية والعلوم والسياحة والشباب والرياضة، وذلك لأنّها تسعى لأن تكون “دولة طبيعية” في المنطقة، وفي نظر العرب، وبهدف إعادة هندسة وعي الرأي العام العربي من “إسرائيل” استنادًا إلى التطبيع السياسي، وهو ما عبّر عنه بنيامين نتنياهو، رئيس حكومة الاحتلال، بقوله: ” أكبر عقبة أمام توسيع دائرة السلام ليست زعماء الدول التي تحيط بنا بل هي الرأي العام في الشارع العربي الذي تعرض على مدار سنوات طويلة لدعاية عرضت إسرائيل بشكل خاطئ ومنحاز”[18].
يمكن عدّ النقاط الثلاثة السابقة في إطار تعريف التطبيع تأسيسًا لأسباب رفضنا للتطبيع، أي أنّنا نرفضه لأنّ “إسرائيل” دولة غير طبيعية في منطقتنا العربية حتى في الإدراك الإسرائيلي نفسه، ولأن اختراق الوعي الشعبي العربي يعد أحد الأهداف السياسية الإسرائيلية المعلنة.
ثمّة ما يقال في هذا السياق لتبرير أشكال من التطبيع على المستوى الشعبي، أو المستوى دون الرسمي، اتكاء على أنّ الحدّ الأدنى من التطبيع مع “إسرائيل” حاصل من كل الدول العربية بلا استثناء على أساس اعتراف هذه الدول الواقعي والنظري بـ “إسرائيل” حتى وإن لم يتطور إلى اعتراف رسمي، أو علاقات علنية، ثم اتكاء على وجود علاقات تطبيعية سياسية معلنة، مؤسسة على اعتراف رسمي بـ “إسرائيل” من مصر والأردن بالدرجة الأولى، ثم من منظمة التحرير الفلسطينية التي اعترفت بـ “إسرائيل” رسميًّا، ثم من دول تُقيم علاقات تطبيعية على شكل اتصالات سياسية معلنة، أو نشاطات رياضية، أو اتصالات إعلامية، فضلاً عن العلاقات الاستخباراتية السرّية.
هنا تنشط العديد من الدول الخليجية، هذا بالإضافة لسياسة إعلامية مكثّفة تبنّتها بعض الدول العربية، ولاسيما خليجية منها، لإعادة صياغة الوعي العربي تجاه “إسرائيل” وبتزامن مع تصريحات نتنياهو التي سبقت الإشارة إليها وتناغم كامل معها، بتصدير شخصيات تدعو للتطبيع علانية، وتنتقص من الحقّ الفلسطيني وعدالة القضية الفلسطينية، أو بتكثيف حملات ما بات يُعرف بـ “الذباب الإلكتروني” بهذا الاتجاه.
هذه المسوّغات التي يسوقها البعض للتخفيف من آثار التطبيع “غير السياسي”، هي في الحقيقة من أهمّ الأسباب التي تدعونا لرفض التطبيع، والنضال لأجل مقاطعة “إسرائيل” من ستة اتجاهات:
الأول: أن الانهيار الرسمي ينبغي أن يُواجه بتماسك شعبي على مستوى الوعي والممارسة لا العكس.
الثاني: أنّ المعركة في ساحة الوعي العربي من أهم ميادين السياسة الإسرائيلية نفسها، كما صرّح بنيامين نتنياهو، وهنا يمكن القول إنّ النشاط التطبيعي كلّه يجري في ساحتنا العربية، لا الساحة الإسرائيلية، فالكلام عن اختراق المجتمع الإسرائيلي، محض عبث، ليس لأنه فشل تاريخيًّا فحسب، بل لأنّه يجري في ساحتنا التي يُعاد فيها تقديم الإسرائيليين، المثقفين والأكاديميين والإعلاميين والرياضيين وسواهم، بما يكسر الحواجز، ويُقرّب “إسرائيل” من الوجدان العربي.
الثالث: أنّ التواصل مع الأوساط الإسرائيلية، بأيّ ذريعة كانت، هو مسلك متقدّم على مجرد الاعتراف الضمني أو العلني بـ “إسرائيل”، وبالرغم من الرفض المبدئي لهذا الاعتراف، وهو الرفض المؤسس على نفي “طبيعية إسرائيل” في منطقتنا وعلى أرض فلسطين، فإنّ هذ الاعتراف مدمّر سياسيًّا كما أثبتت التجربة مع هذا الكيان، الذي كسب اعتراف العرب به، ثمّ استثمره في تصفية القضية الفلسطينية، وفرْض الوقائع على الأرض، واستكمال المشروع الاستيطاني في الضفة الغربية والقدس، ثم في اختراق المجال العربي كلّه، دون أن ينعكس ذلك في أيّ منفعة للفلسطينيين أو للعرب، فالاعتراف على المستوى القانوني، هو إنهاء لحالة الشك، وتحويل ما كان محلّ شكّ إلى حقيقة[19]، وعلى المستوى النفسي إزالة الحواجز للتقدم نحو العلاقة الطبيعية.
لقد انتقلت السياسة العربية على المستوى القانوني، من الرفض للوجود الإسرائيلي، إلى الشك، ثم تحويله إلى حقيقة، كما هو حاصل الآن، ثم جرى استثمار ذلك كلّه لا في تصفية القضية الفلسطينية فحسب، حيث يجري اليوم تحويل التطبيع إلى قاطرة تقود هذه التصفية كما فيما يُدعى بـ “صفقة القرن”[20]، بل وبالإضافة إلى ذلك، تسعى السياسات التطبيعية في البلاد العربية إلى فرض التطبيع على الوجدان الشعبي العربي، بتكريس “إسرائيل” حقيقة غير قابلة للشك فيها، كما في خطاب بعض الشخصيات التي يجري تصديرها لهذا الغرض، وتروّج للدعاية الصهيونية التوراتية بحذافيرها حول الحقّ اليهودي في فلسطين[21].
الرابع: واتصالاً بكل ما سبق، وتأسيسًا على الرفض المبدئي للوجود الإسرائيلي، ونقضًا للسردية الصهيونية، فإنّ إعادة بثّ الدعاية الصهيونية في ساحتنا بزعم دحضها، ومع اتضاح تهافت ذلك لكونها تجري في ساحتنا العربية، فإنّها تجعل من عدالة القضية الفلسطينية مسألة محلّ شكّ طالما أنّها قابلة لاختلاف وجهات النظر، وتجعل من الوجود الصهيوني مسألة تحتمل القبول طالما أنّها كذلك قابلة لوجهات النظر! فالاستفادة المتحققة هي للصهاينة لا للفلسطينيين أو العرب[22].
الخامس: أنّ السياسات العربية التطبيعية، تأتي في سياق تثبيت وجود النظام الرسمي العربي من البوابة الإسرائيلية للولوج منها لدى النخب الأميركية المتصهينة، وهذا يضع الجمهور العربي أمام مسؤوليتين، الأولى قراءة القضية الفلسطينية في سياق المصالح العربية، إذ يجري التفريط بالقضية الفلسطينية وتوظيفها بتكريس الاستبداد والتبعية والفساد، والثاني واجب أخلاقي تجاه القضية الفلسطينية التي تُستخدم بهذا الشكل المُشين.
السادس: وهو متصل بما سبق مباشرة، إذ مناهضة التطبيع ومقاطعة “إسرائيل” مصلحة عربية مؤكدة، بصرف النظر حتى عن القضية الفلسطينية، إذ التطبيع سكّة تكريس التبعية والاستبداد، وبالنظر إلى التفوق الإسرائيلي العسكري والاقتصادي والتقني والسياسي، فإنّ الأهداف الإسرائيلية بعيدة المدى من التطبيع، تروم على المستوى العربي، ضمان التفوق الإسرائيلي والتبعية العربية.
لقد كانت “مقاطعة إسرائيل” هي عنوان الموقف العربي الرسمي تجاه “إسرائيل”، وهو مسبوق بموقف شعبي فلسطيني منذ مطلع عشرينيات القرن الماضي. بدأ إحلال “التطبيع” مكان “المقاطعة” بعد انسحاب مصر من الصراع العربي/ الإسرائيلي، وتوقيعها سلامًا منفردًا مع “إسرائيل”، وإذا كانت مسألة الاعتراف الضمني بـ “إسرائيل” قد سبقت ذلك، فإن مصطلح التطبيع بدأ يدخل إلى الأدبيات العربية انطلاقًا من الدوائر الإسرائيلية التي كشفت عن إرادة محمومة لفرض التطبيع في علاقاتها مع مصر وصولاً إلى العالم العربي كلّه.
انهار أهم جدران مقاطعة “إسرائيل” باعتراف منظمة التحرير الفلسطينية الرسمي بـ “إسرائيل” وتوقيعها اتفاقية أوسلو معها، وبالتالي بدأ النظام الرسمي العربي يعلن عن توجهاته التطبيعية بسُفور واضح من ساعتها، وصولاً إلى الانهيار الكامل الآن، والذي تُعبّر عنه أنظمة حُكم عربية، رهنت سياساتها بالكامل بالمصلحة الإسرائيلية.
في مقابل ذلك، يرى الكثيرون من مناهضي التطبيع، أن الموقف الشعبي هو الدرع الأخير الذي لا يجوز خلعه، ولا تسامحه مع أي شكل تطبيعي، أو أي قدر من الاعتراف بـ “إسرائيل”، بصرف النظر عن مصدره، اتصالاً بالموقف الأصيل للفلسطينيين والجماهير العربية السابق على ما يراه كثيرون بالانهيار الرسمي العربي، ودعمًا للقضية الفلسطينية، ودفاعًا عن الوجود العربي ومستقبله.