من مفاتيح الصلاح .. الصبر والدأب
بقلم هدى عبد الرحمن النمر
إن رحلة المرء مع ذاته تهذيباً وتزكية وتطويراً وتنمية لا أقول من أطول رحلات حياته، بل هي رحلة حياته ذاتها . فمن الوهم استعجال كل شيء في ذات الوقت وتمني الوصول إلى قمة التغيير التي ليس وراءها مزيد! فلا غنى والحال كذلك عن نَفَس طويل متأن، متقبل لحقيقة أنه في كل يوم، بل مع كل نَفَس، هنالك دائماً شيء أحسن يمكن تعلمه، وقيمة مضافة أتخلق بها.
والصبر هو جوهر الوصية النبوية: “احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز”. فلا بد من الصبر بيقين أن الله لا يضيع أجر عامل، وأنه مهما بدا لك أن المنال عسير، فإنك بتوفيق الله وعونه لا بد ستحصّله ما دمت تجتهد وتستعين بالله مبتغياً رضاه: {فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ} [مريم: 65]، {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ} [النحل: 127].
وفي ذلك يقول الشاعر:
لا تحسب المجدَ تَمراً أنت آكِلُه … لن تبلغ المجدَ حتى تلعقَ الصبرا
والدأب هو الجد والاستمرار في الفعل حتى يصير عادة. فالصبر لا يعني بحال القعود عن العمل، وكذلك لا تجدي طريقة الأرنب الذي قطع نصف السباق عدواً ونام في النصف الثاني!
لكن كما نكرر الوصية النبوية في كل مرة: “أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل”، فحفظ بضع آيات يوميا مع فهمها والعمل بها، خير من مشقة العكوف على سورة طويلة دفعة واحدة، تتلوها كقائمة أخبار، والمواظبة على ركعات للقيام وأدناها الوتر، خير من إحياء ليلة كاملة ثم إماتة عشرات مقابلها، وأن تبدأ درجات التزكية بصلاة القيام قبل أن تنام، خير من أن تصر على الاستيقاظ للثلث الأخير ثم لا تقدر؛ لأنك تحتاج وقتاً للتعود وضبط الأوقات، فيفوتك الكل جملة، وما لا يدرك كله لا يُترك جُلّه.
ومن ثم تجنب تماما أن تعيش مشحوناً؛ لأنك ستكون بالضبط كمن يأكل وجبات 3 أيام في وجبة واحدة، ظنا منه أن ذلك سيوفر عليه الأكل تلك الأيام في المقابل! لكن الحاصل أنه يؤذي نفسه، ولا ينتفع بالحشو شيئاً. إننا نستعجل الوصول إلى شيء ما، لا نتوقف حتى لنسائل أنفسنا ما هو، في حين أن ما نحن مطالبون به حقيقة هو أن نحيا لا أن نصل ، أن نحيا بما نؤمن به ونجتهد أن نثبت عليه، وفي كل يوم إضافة جديدة نحياها، وليس نكومها على رف الانتظار.
تجنب تماما أن تعيش مشحونا؛ لأنك ستكون بالضبط كمن يأكل وجبات 3 أيام في وجبة واحدة، ظنا منه أن ذلك سيوفر عليه الأكل تلك الأيام في المقابل!
إن العيش بطريقة الشحن للوصول، تعني أنك ستعيش حياتك منتظراً أن تحيا، ولا تكاد تبدأ في رفع الستار حتى يأتك الختام!
وصحيح أن مجريات الحياة لا تسير بالقلم والمسطرة، لكنها كذلك ليست تياراً جارفاً يسوقك كالعاجز؛ فشتان بين من يحلم بتغيير العالم وهو لا يستطيع تنظيم يومه أو ضبط ساعات نومه، وبين من الوقت عنده رصيد يسحب منه بوعي ومنهجية، كما قال الحسَن البَصْرِيّ: “يـا ابن آدم، إنما أنت أيام، كلما ذَهبَ يوم ذهبَ بَعضُك”.
وشتـــان بين من يصحو كل يوم مبعثرا، ويعيش حياة هُلامية بين التلفاز والفيسبوك، أو العمل والخروج واللقاءات، بدون أن يكون له وقفة مع النفس لمحاسبتها وتقييمها وظل طويل من عبادة الخلوة، ومن وضع لكل سؤال منهج إجابة، سدَّد وقارَب واجتهد ما استطاع، واستعان بربه على صحتها، فذلك يُرجى له أنه على خير، بما عمل في حياته فقدّم لمماته.
فلنجتهد أن نعمل لآخرتنا كأننا نموت غدا كما أسْرفنا في العمل لدنيانا كأننا سنعيش أبدا، وتوقفنا عند ذلك ! فإن أحدا لن يعيش أبدا، لكن أيّا قد يموت غدا. لذلك لنجعل الهم هما واحدا، إرادة وجه الله تعالى وتحري رضاه، ولنأخذ هذه الحياة باعتدال فنعمرها بقوة. والموفق من وفقه الله وأعانه، وبغير ذلك فكله خسران والعياذ بالله.
(المصدر: موقع بصائر)