مقالاتمقالات مختارة

جمالية السنة في التعامل مع الأوبئة…ودور الأزهر المنشود

جمالية السنة في التعامل مع الأوبئة…ودور الأزهر المنشود

بقلم عبد الرحمن الدسوقي

لقد نجح كورونا في خلط الأفكار جميعها في وقت قياسي، بل أقول: لعلّه يجب القول: إن كورونا أعطانا فرصة لإعادة ترتيب أفكارنا من جديد، وفرض علينا رؤية الأشخاص والمؤسسات، بل حتى الأفكار على حقيقتها، فقد نجح في إسقاط الأقنعة المزيفة، وأبان عن وجه الحقيقة.

في هذا المقال أحاول أن أُجيب عن سؤال تردد صداه في أذني منذ انتشر هذا الفيروس، ولعل الإجابة أتت متأخرة، لكن التردد في الكتابة بعد انقطاع طويل كان السبب في هذا، والسؤال هو: ما هي منهجية السنة النبوية في التعامل مع مثل هكذا أوبئة؟ وما الذي يجب عليّ كمسلم فعله في مثل هذه الأحول؟

كمسلمين يجب عند البحث عن أي شيء يعنّ لنا أن نعود لمصدر النور الإلهي الذي نحيا في كنفه، وهو الوحي (القرآن والسنة)، وبناء عليه فقد حاولت العودة للقرآن فوجدت فيه عمومات تتناول مثل هذه الحال وغيرها، لكن مع حصر الأحاديث التي تتحدث عن الطاعون يمكن القول: إن هناك منهجية واضحة بينها النبي عليه الصلاة والسلام في التعامل مع الطاعون (كورونا مثلا)، ويمكن إجمالها في الآتي:

أولا: ابقَ حيثُ أنت!

أكد النبي عليه الصلاة والسلام على هذا المعنى بشكل واضح في حديثه الذي أخرجه البخاري قائلا: ” فإذا سمعتم به_بالطاعون_ بأرض، فلا تُقدموا عليه، وإذا وقع بأرض، وأنتم بها فلا تخرجوا، فرارا منه”.

نلحظ من الضمير في قول النبي “فلا تقدموا عليه” أنه عائد على الطاعون، ومعلوم أن الإنسان إنما يقصد الأرض لا الطاعون، لكنه لما كان الغالب في زيارة الأرض الموبوءة هو وقوع الإصابة كان عود الضمير على الطاعون، كأنك حين تُقدم على هذه الأرض تُقدم على الطاعون، وهذا من جماليات التعبير النبوي، وعليه فالمؤمن الآن يجب عليه أن لا يخرج من المكان الذي هو فيه إن كان الوباء قد أصابه، ولا يُقدم على مكان مصاب أيضا، وهذا مظهر من مظاهر إعجاز السنة النبوية في التعامل مع هذا المرض، فالنبي قبل ما يربو على الأربعة عشر قرنا من الزمان وجّه بالعزل الذي هو الوسيلة الرئيسية التي تستعملها كل الدول الآن في مواجهة هذا الوباء، فماذا يعني لك هذا؟.

ثانيا: الإيمان بالقدر مفتاح الطمأنينة.

مشاهد الهلع التي رأيناها جميعا من إقبال على السلع الغذائية بشكل غير عادي، وكأن العالم مقدم على مجاعة، أظهرت حقيقة ادعاء المسلمين بالإيمان بالقدر، كما أظهرت الفارق الذي يجب أن يكون بين المسلمين وغيرهم في التعامل مع الأوبئة والأمراض التي يُتوقع أن تفتك بالإنسان وتودي بحياته.

فالإيمان بالقدر هو حبل النجاة من الهلع، إذ المسلم يعلم أن أجله مقدور، ولن ينقص منه هذا الوباء شيئا، كما لن تزيده الصحة والعافية يوما، إنه إيمان يدفع للعمل والأخذ بالأسباب، وينجي من الوقوع في فخ التواكل والاستهتار، لأن المسلم يعلم أنه مؤتمن على هذا الجسد ومطالب بالحفاظ عليه، وهو حين يحافظ عليه فهو يخشى فقط من سؤال الله له: ماذا صنعت بجسدك؟

حالة الاتزان إذا تأتي من هنا، أنت مؤتمن على جسدك فحافظ عليه، فإن أصابك مكروه _لا قدر الله_ فاعلم أنه قدر الله، ويكفيك أمانا أن الله لن يحاسبك على تقصيرك، وأنك لن تموت قبل الوقت الذي كتبه الله لك.

وحادثة عمر بن الخطاب _التي أخرجها البخاري_ مع أبي عبيدة شاهدٌ واضح على هذا، فعندما وقع الطاعون في بلاد الشام خرج أبو عبيدة إلى عمر قبل أن يدخل إليها ليخبره بهذا الخبر، وعندما استشار عمرُ كبار المهاجرين أشاروا عليه بالعودة ومال إليهم عمر، وهنا قال أبو عبيدة: “أفرارا من قدر الله؟ فقال عمر: لو غيرك قالها يا أبا عبيدة؟ نعم نفر من قدر الله إلى قدر الله، أرأيت لو كان لك إبل هبطت واديا له عُدوتان، إحداهما خصبة، والأخرى جدبة، أليس إن رعيت الخصبة رعيتها بقدر الله، وإن رعيت الجدبة رعيتها بقدر الله؟”

إننا إذا نأخذ بالأسباب، ونعلم أن هذا لن يغير من قدر الله شيئا، ﴿قُل لَّن يُصِيبَنَآ إِلَّا مَا كَتَبَ ٱللَّهُ لَنَا هُوَ مَوۡلَىٰنَاۚ وَعَلَى ٱللَّهِ فَلۡيَتَوَكَّلِ ٱلۡمُؤۡمِنُونَ٥١﴾ التوبة وهذا سر الطمأنينة.

ثالثا: اصبر ولك الجنة.

خوف الإنسان على حياته أمر جبلي، وهو يبذل في سبيل الحفاظ عليها كل غال ونفيس، ومن الطبيعي في مثل هذه الحالات أن المرء قد لا يلتزم الهدي النبوي في التزام البيت أو المكان الذي أصيب بالوباء، فيبحث عن مكان آخر لينجو، لكنه بهذا قد يكون سببا في هلكة جمع من الناس إن كان مصابا بالوباء، ولأجل هذا أتت المعالجة النبوية لمثل هذه الحالة، فأجر من مات في الطاعون كأجر من مات ممتطيا جواده مجاهدا في سبيل الله، الشهادة!

أجر عظيم جدا أخبر عنه النبي في هذه الحديث الصحيح: “الطاعون شهادة لكل مسلم”، ليس هذا فقط، بل يوجد حديث أعجب من هذا، فقد أخرج البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “ليس من أحد يقع الطاعون، فيمكث في بلده صابرا محتسبا، يعلم أنه لا يصيبه إلا ما كتب الله له، إلا كان له مثل أجر شهيد”.

وقد استنبط ابن حجر في شرحه لهذا الحديث عدة جماليات، منها:

– أن من مات بسبب الطاعون فهو شهيد، كما هو منطوق الحديث.

– وأن من أصيب بالطاعون ثم شفاه الله فله مثل أجر الشهيد.

– وأن من لم يُصَب الطاعون ومات بغيره عاجلا أو آجلا فله مثل أجر الشهيد كذلك!

كل هذا شريطة التزام المسلم بلدته صابرا محتسبا، مؤمنا بقضاء الله وقدره.

وقد استدل لهذا ابن حجر في فتح الباري (10/ 194) ط. دار المعرفة، بيروت.

وجمالية الصبر على هذا البلاء غاية في الروعة، إذ هي فوق تحقيق الطمأنينة للمسلم تُكسبه أملا في الحياة وأملا في الأجر، فهو لا يسعى لأن يموت لينال أجر الشهيد، بل يسعى لينال الخيرين، الحياة، وأجر الشهادة، أي دين جميل هذا؟!

رابعا: احذر عقاب الله، وبادر بالتوبة.

تساءل كثيرون: هل يمكن أن يكون كورونا عقابا من الله لنا؟ والأحاديث تجيب على هذا، فقد ذكر النبي أن الطاعون عذاب كان يرسله الله على بعض الأمم السالفة، وبقيت بقية منه يرسلها الله على من عصاه، وهنا يأتي حديث مرعب يقول فيه النبي فيما رواه ابن ماجة: ” يَا مَعْشَرَ الْمُهَاجِرِينَ خَمْسٌ إِذَا ابْتُلِيتُمْ بِهِنَّ، وَأَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ تُدْرِكُوهُنَّ: لَمْ تَظْهَرِ الْفَاحِشَةُ فِي قَوْمٍ قَطُّ، حَتَّى يُعْلِنُوا بِهَا، إِلَّا فَشَا فِيهِمُ الطَّاعُونُ، وَالْأَوْجَاعُ الَّتِي لَمْ تَكُنْ مَضَتْ فِي أَسْلَافِهِمُ الَّذِينَ مَضَوْا…”

والفاحشة هي الزنا، وكلنا يعلم انتشار الفواحش بيننا _أعني المسلمين_ في هذا الزمان، عافانا الله وعصمنا، لكن المصيبة الأكبر هي المجاهرة بهذا في وسائل التواصل الاجتماعي، بل وتناول هذا ضمن الحرية الشخصية المدَّعاة.

انتشار الوباء إذا قد يكون عقابا من الله لنا، فما الحل؟ لعل الحل أن نجعل هذا فرصة لتجديد العهد مع الله جل جلاله، فقد أظهر هذا الوباء مدى ضعف الإنسان، هذا الإنسان الذي عندما ظن أن لن يقدر عليه أحد، أتاه هذا الوباء ليوقفه عاجزا عن دفع الإصابة عن نفسه مهما علا شأنه، وترقى منصبه، وزادت الحواجز بينه وبين الناس، فضلا عن أن يمنع ضرره عمن يحب، كل هذا ألا يستدعي وقفة وأوبة؟

﴿وَمَآ أَصَٰبَكُم مِّن مُّصِيبَةٖ فَبِمَا كَسَبَتۡ أَيۡدِيكُمۡ وَيَعۡفُواْ عَن كَثِيرٖ٣٠﴾ الشورى.

أنتقل الآن إلى أمر آخر وهو دور الأزهر المنشود في ظل هذه الأزمة.

إن مما أظهرته هذه الأزمة أن الأمة في حال جدب شديد وعطش لمن يوجهها، وهذا بدا جليّا عندما تخبطت الدول في إقرار إيقاف الجماعات والجمعات، وأتى القرار تابعا للرغبة السياسية لا متقدما مراعاة للمقاصد الشرعية، والشعوب قبل الدول كانت أحوج إلى من يُبين لها السبيل، ويرفع الخلاف ما أمكن، كانت بحاجة إلى من يرفع الراية لتهتدي به في ظلمات الليل الحالكة، ومثل هذه الأزمات كما تظهر نقطة الضعف، فإنها أيضا توجِّه أنظار أصحابها نحو الأمل المنشود، والأزهر برأيي كمؤسسة تحوز احترام جمع كبير من الأمة لما لها من مكانة في القلوب وتاريخ مشرف، هو الأَولى للقيام بهذا الدور ليكون هو المنارة التي يُهتدى بها، فنحن لم نجد من يخرج بفتوى عامة سبّاقة لا متأخرة، متبوعة لا تابعة، ولعل الأزهر الذي يتخطى دوره حدود إطاره الإقليمي يُفعِّل هذا، ويعود لدور قيادة الأمة دينيا من جديد، وأبناؤه ومحبوه كثر، ينتظرون هيعة ليطيروا إليها، فهل من هيعة؟

وبناء على هذا يمكن القول: إن دور الأزهر في المرحلة القادمة قد يقوم على الآتي:

1- جمع الشتات.

بأن يحاول الأزهر جمع شتات أبنائه ومحبيه ومريديه في كل مكان حول الدنيا، ومعرفة مكانته الحقيقية في قلوب الناس وواقعهم.

2- استثمار الطاقات والقدرات.

أنا على يقين بأن جمع الشتات سينبئ عن طاقات هائلة مهدرة، هذه الطاقات لو فعّلت سيكون لها أكبر الأثر على واقع الأمة ككل، شريطة أن يكون كل هذا بعيدا عن الإقليمية، فالأزهري للدنيا كلها وليس لمحيطه الضيق، وهذا هو الواقع المنشود، وهو ليس بدعا أو اختراعا، بل هو إحياء للماضي القريب قبل البعيد.

3- الانطلاق قبل الجميع.

الجمع والاستثمار والتحرر من قيد المكان مؤذن بالانطلاق نحو الهدف المنشود وهو ريادة الأمة دينيا، وأن يعود الدين متبوعا لا تابعا، سابقا لا لاحقا، قاضيا لا مستأنسا به، وهذا غاية مُنانا، عجَّل الله به.

(المصدر: رابطة العلماء السوريين)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى