رمضان في الهند.. جمال العادات وجلال العبادات
بقلم صبغة الله الهدوي
أن تفطر صومك الأول ومعك صحبتك النخبة من الهندوسيين والسيخيين والجينيين والمسيحيين، أن تشارك معهم فرحتك المفرطة وسعادة قلبك الغامرة، وأن تشترك في موائد الإفطار التي تقام بساحة الهياكل والكنائس والصوامع، أن يهنئك أخوك الهندوسي برمضان كريم، ويهدي إليك هدايا قيمة وتحفا أنيقة، كل هذه عبارات عن تجارب رمضان في أكبر دولة ديمقراطية، يشكل فيها الهندوسيون نسبة عملاقة والمسلمون نسبة ضئيلة، تلك هي النكهة الهندية التي تفوح من أجواء رمضانية ما بين حارة وحاوية، ما بين أزقة وشوارع، فقدوم رمضان في أفق الهند قدوم المسرات والأمن والأمان، هو نزول المطر في أرض مجدبة حنت إلى سماءها الجواد، فتجربتك في الهند لا سيما في أيام رمضان لمختلف تماما من باقي الأشهر التي تمضي وسط ضجات عارية واضطرابات خاوية.
ترى لك شعبا يعيش مع العادات الجميلة التي رسمها أجداده لتعود إلى بلادهم حمائم المحبة والإخاء، ولتنزح منها هامات الشؤم والظلام، فترى ودق الراحة والفرحة تنزل على كل مسلم وهندوسي وسيخي، كلهم في عناق مقدس، لا يمنعهم الحاجب الديني عن الاشتراك في هذا الموسم المريح، يشتركون بما لديهم مع إخوانهم المسلمين مباركين عليهم، مرحبين بهم، فرمضان في الهند هو عبارة عن روعة العادات الغريبة الجميلة، وهو مسرح لجمال العبادات التي تمارس في المساجد والدور، تنهار فيها أسوار العنف والطائفية التي عمرتها خفافيش الظلام وصناع الدمار، وتبعث فيها القيم والأخلاق المصونة التي كانت تليدة ووطيدة بين الطبقات المتعددة، فإن رمضان في بلد خارج الجزيرة العربية يلقن للعالم العربي والإسلامي دروسا لامعة، دروسا من التماسك والتضامن، دروسا من التسامح والتراحم التي كادت تتلاشى من بين أجواء الأمة، دروسا من الوحدة التي تتحقق خلال الطقوس الرمضانية الفذة.
قبل قدوم رمضان، تحديدا في رجب وشعبان، تستعد الأمهات والجدات في تنظيف البيوت وفي تنظيف كل ما تملك الدار من الأدوات المنزلية، من غسالة وثلاجة وخلاطة والسخانة، ينظفن كلها بدقة وعناية كبيرة، ويحددن لهذه العملية الرمضانية يوما، حتى يشترك فيها الأطفال والرجال والنساء، فلكل دلوه ليدلي به في هذه المهمة المباركة، وهذه العادة تختلف دقتها وعنايتها حسب اختلاف المناطق، لا سيما في المناطق التي تتميز بأغلبية المسلمين أمثال بنغال وأوتار برديش وكيرالا وآسام، لا يبعد منها الكوخ والقصر، ولا يمنعها الغنى والفقر، وهذا مظهر جميل ليجسد فيك نكهة روحية صافية، ليحيي في رئتي عباداتك أنفاس الصفاء والوفاء للشهر.
ثم المهمة التالية هي تجهيز أدوات الأطعمة ولوازمها من الدقيق والقمح والأرز، يعني الكل يصر على أن تكون في بيته أيام رمضان أشياء جيدة وجديدة وطيبة، احتراما وتوقيرا لهذا الشهر العظيم، وهذه العمليات كلها تجري تحت إدارة نساء البيوت، وأما الرجال والشباب مهمتهم وخدمتهم تتركز في ترميم المساجد والمدارس، وفي تنظيفها وتفريشها، وفي تنظيم الدروس الدينية والمحاضرات القرآنية والمسابقات التي تعد الفائزين المتفوقين جوائز مالية وهدايا كريمة، ولا نخطئ لو قلنا إن هذا الشهر سيشهد لنشاطات اقتصادية عملاقة في جميع العلاقات التي يسكن فيها المسلمون، ولا يظن أحد في إنفاق ما لديه لتطريز هذه الأيام المباركة، فتكون مهمة الخطباء الدينية والوعاظ استنهاض همم السامعين الراكدة، وتشعيل أفكارهم بحجم المسؤولية الموكلة عليهم، وتذكريهم وتوعيتهم عن فضائل رمضان، وعن الدروس التي لا بد للمسلم اقتناءها واعتناءها.
ثم إذا جاءت ليلة التاسع والعشرين من شعبان، كانت أعين الجميع ترمق نحو السماء، في وجوههم يبرز مدى الشوق الذي يخامر روحهم ويمتزج في قلبهم، يبحثون عن كسرة قمر تحييهم بقدوم ضيف الرحمان، فإذا لم يستطيعوا لرؤية هذه اللحظة النادرة لجأوا إلى أفواه القضاة والحكمة الشرعيين، فالهند معظم مسلميها يعتمدون على القضاة الشرعية التي لهم الحق في إعلان بداية الشهر الجديد، وأحيانا تثار الخلافات بين من يدعون أن رؤية الهلال تكفى لها الحساب الفلكي وبين من يثبث ويدحض حجته بواجبية الرؤية بالعين وإلا بإتمام الشهر بثلاثين، وقد حدثت واقعات غريبة في أرض الهند، إذ اختلفت الفئتان حتى صام واحد وترك الآخر، وهذه المشكة إنما يكبر حجمها في تحديد يوم العيد، حتى أدت بعض الخلافات إلى نشوب اشتباكات دموية.
والشرف الكبير لدولة كهند -ملتقى الثقافات ومفترق الحضارات وحاضنة الطقوس والعادات- ينبع من جانب الحكومة نفسها، إذ الحكومة تتشرف بالتوافق والتعاضد مع رعاياها المسلمين، وكذلك ترى لك إقبالا كبيرا من زعماء السياسة المختلفة، حتى بينهم من ينتمون إلى حزب هندوسي متطرف تحتفل بعظمة هذا الشهر وتهنئ به، بل مزيدا على ذلك تقيم الأحزاب رغم فكرها المخالف والمتشدد موائد رمضانية وترحب إليها جميع المسلمين، وهذه المظهرة النادرة حكر على الهند.
ولا ينكر أحد دور المسلمين في تصميم حضارة الهند وفي تعميرها حاضرا وماضيا، ودورهم الفاعل في بناء المدن ورعايتهما أمثال دهلي وحيدر آباد وآغرا وكلكاتا، وممباي، فلأجله ترى الجو الرمضاني في هذه المدن بارزا متألقا، قناديل معلقة وفوانيس وضاءة التي توحي إليك نور الأمل وتبعث بين جوانحك أشواقا متلهفة نحو حياة من جديد، وأناشيد تدوى وتعلو أصواتها الخافتة من المقاهي والكافتيريات، وأغاني هادئة ووادعة تنبع من شفتي المسحراتيين، لديهم دفوف، يضربون عليها وشفاهم مرطبة بأنشايد توقظك وتنسي همك وكسلك، وإلى جانبه هيئات دينية وجمعيات خيرية مختلفة، تتبنى أفكارا متضادة ومتناقضة فيما بينهم تتنافس في إقامة موائد رمضان لاستقبال ضيوف الرحمان، وتنفق عليها أموالا باهظة، وتسعى في مواساة الفقراء ومساندة الملهوفين.
وأما من جانب الأطعمة الرمضانية وهناك قائمة طويلة تزكم في أنفك رائحة فياحة، ونكهة بواحة، قائمة طويلة تتضمن فيها أقداح القهوة والشاي والهريس وبرياني وغنجي، وأطباق الحلاوي الطازجة والعصائر الممتزجة بلباب البرتقال والتفاحة والتمر والجوز، فالأطعمة الهندية تمتاز بتوابلها الحارة التي هي ألوان من الفلفل والكركم، والتمر الهندي،والقرفة وغيرها التي تذهب بك إلى أطعمة حرفية، وقد استطاعت هذه التوابل المثيرة لتسحر أعين العرب منذ أن صدروا من بلاد الهند فلفلا وزنجبيلا وذاقوا من حضنها ذوقا جميلا، وهناك بون شاسع في اختيار الأطعمة بين شمال الهند وجنوبها، بينما يختار شمال الهند طعاما يليق بجوه الذي يتردد بين حار وبارد، وأما جنوب الهند لاعتدالية جوه ولتشوق أهله نحو التوابل والحلويات يتكثف استخدامها بحد كبير، لا سيما في منطقة مليبار التي هي شمال كيرالا تختص بعدة خصائص مهمة، إذ مناطقها معروفة في طهي الحلويات واللحوم، وفي تجهيز أطعمة من الأرز بشتى الألوان والعناوين، بشتى الأشواق والأذواق، نساء مليبار لهن ملكة راسخة في تدبير المطاعم الرمضانية، وليس للرجال فيها أي دور يذكر.
ومن أجمل مظاهر رمضان الهند أطفالها الذين لا يملكون التصنع والتقنع، يتقاذفون نحو المساجد مثل الجراد المنتشر، وينجذبون إلى صلواتها الخمس والتراويح جماعة، وأحيانا يقوم بعض الأثرياء بتوزيع الهدايا والجوائز للأطفال الذين واظبوا وتعودوا المساجد تشويقا وتحفيزا على أداء الصلوات والعبادات، وأحيانا تجري منافسات بينهم في ممارسة الصوم في سن مبكر، ويخجلون في الطعام والشرب أيام رمضان احتراما وتكريما وهم لم يصلوا إلى سن البلوغ، وأكثر حديثهم يدور عن عدد الصيام، “أنا صمت اليوم”، “أنا سأصوم غدا”، هكذا تجري محادثات صافية مصقولة، أصيلة، وأما الأمهات فلهن اليد الطولى في تربية الأولاد والبنات في شأن الصوم، ولا يقتصرن في أداء هذا الواجب الديني، وتظهر هذه القوة النسوية في تدبير أولادها ومنعها من متابعة المسلسلات والأفلام، وكأن التلفاز ستنحى من جادة الحياة وكأنها في إجازة شهرية.
وأما من الجانب الاجتماعي فللصوم هيمنة كبيرة في كبح جماح العنف والاختلاف، يتناسى الجميع ويدفن أشواك المشاجرات والخصومات، ويسعون في نسج علاقات جديدة تنشأ من الود والوفاء، يبتعدون من الشتم واللوم، مع أن الهند شأنها وعادتها مضطربة أي اضطراب لا سيما في المجال الديني، فللاختلاف فيه أثر كبير في تجريح الآخر وتبريحه، لكن إذا جاء رمضان هدأ الغبار وابتعد النفار والشرود، فتبسم الوجوه التي كانت ضامرة من العنف والوجد، وتشرق الشموس التي كانت كاسفة البال، وتنقشع الغمام عن البدر المنير الذي كان تختفي في عمق القلوب، فتلك مظاهر هندية تليدة، فقط تبنيها أيام رمضان، فقط تحميها أحلامه ولا يقتصر جو رمضان في سماء الهند على مساجد معمورة بالقرآن ومضاءة بالقناديل ولا على موائد باسمة بألوان الأطعمة بل تسري نكتها سريان الكهرباء في الحديد، وتنتشر أجنحتها لتفيئ الشعب الذي يقطن في ظلال التنوع والتعدد، فللهند لها نكهتها الخاصة، قسما بتوابلها الحارة ومساجدها المعمورة.
(المصدر: مدونات الجزيرة)