الصوم وتربية روح المقاومة في الأمة
بقلم وليد شوشة
ليس المراد من الصوم مجرد إتعاب النفس وقهرها، أو تعذيب الجسد كما في رياضات الهنود، ولا مجرد علاج للبدن وتخفيف لوزنه كما يظن البعض، وإنما المراد منه : ارتباط المسلم بالله، وتحقيق معنى التقوى؛ الهدف الأسمى للصوم، “لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ”، وتحقيق القدرة على إمساك النفس على طاعة الله، والبعد عن كل ما يُغضبه، ويحول بينه وبين مولاه سبحانه وتعالى، ومن ثم الانضباط على أوامره حتى وإن خالفت متطلبات جسده، واحتياجات بدنهً، ونداء شهواته. ولذلك يُعلن عند فطوره” اللهم لك صمت وعلى رزقك أفطرت” فصومه وإمساكه كان لله خالصاً لوجه، معترفاً وشاكراً لأنعمه ورزقه. جاء في الحديث القدسي: “كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به … يدع طعامه وشرابه وشهوته لأجلي”.
ولا يتم ذلك بسهولة لمن ظل أحد عشر شهراً مطلقاً غير مقيد، حُراً فيما يفعل، متوسع فيما تطلبه النفس والجسد، مُلبياً له كل متطلباته. غير قادر على مقاومة الاغراءات التي ترجع أغلبها إلي شهوات البطن والفرج وحظوظ النفس، وخاصة أصحاب العادات كالمدخنين ومحبي الطعام قليلي الصوم. فيأتي الصوم بانقلاب في المألوفات والعادات، وفي نظام الحياة الروتيني، ومكافحاً لهوى النفس وحكم البطن. فمن كان يفطر في الصباح، قيل له: فطرك بعد الغروب. ومن كان يتناول غذاءه عند الظهر، قيل له: أُلغيت هذه الوجبة من يومك لمدة شهر. ومن كان يتعشى عند العشاء، قيل له: هناك عند السحر. ومن كان يتبسط فيما شاء طول يومه ونهاره، قيل له: أمسك عن ذلك كله؛ حتى فحش الكلام، وبسط اللسان، وإطلاق العنان للعين تنظر كيفما شاءت! لا يُسمح لك بذلك.
لذلك يأتي رمضان كميدان كبير وواسع، ومدرسة عظيمة لغرس قيم المقاومة والتحرر، في باطن الفرد والمجتمع حتى يتخلص من سلطان البطن، وأسر الشهوات، ويتحرر من عبودية الهوى، “أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَٰهَهُ هَوَاهُ”. كما يتحرر من سيادة غرائز الدنيا كالشح والبخل، وحب النفس، والكسل وحب الراحة، حتى تتصف النفس بصبر الحر، وجلد الكريم. تلك الأمور التي أذلت البشرية ولا تزال، كلما حادت عن منهج الله، وخضعت لسلطان الطغاة، سواء الذين يتحكمون في طعامها وشرابها، أم أولئك الذين يطلقون العنان لشهوتي البطن والفرج ويُشجعون على ذلك ويُروجون له ويُفلسفونه، ولا يعنيهم إلا حرية الجنس، لأن ذلك من لوازم الطغيان وضمان استمراره، وتعطيل الاحساس به ومقارعته.
شرع الله الصوم في السنة الثانية للهجرة النبوية، وهو نفس السنة التي أذن الله فيه للمسلمين بالقتال، فهل كان ذلك صدفة أن يتزامن التشريعان في السنة ذاتها؟ وأن يخوض النبي صلى الله عليه وسلم أولى معاركه الفاصلة |
هذا معناه: مجاهدة النفس ومراغمتها، وتحدي رغباتها ومقاومتها. حتى يكون قوياً حراً قادراً على العفاف، والعيش طليقاً شريفاً، يقول الشيخ عبد المعز عبد الستار:” وعندئذ لا يبالي أن يقول (لا) إذا وجبت، و(نعم) إذا وجبت، ولو كلفه ذلك ضيق العيش وجهد الحرمان، وقلق الحياة، فقد تدرب في الصوم على مثل هذا، وتعود أن يكتفي بوجبتين بدل ثلاث لله، وأن يبدل من مواقيت طعامه وقيامه ونظامه، ويجعل ذلك كله تابعاً لتوقيت الله ونظامه. وبهذا يكتسب المسلم مناعة ضد استرخاء العزم، واستبداد الوهم، ويستطيع أن يتخلص من عادات موبقة ومبددة لأموال الأمة وصحتها”.
من هنا كان رمضان انتصاراً للمعاني الفاضلة، وتجديداً للعزيمة الصادقة، واستئنافاً للحياة الخيرة، لذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:” إذا جاء رمضان فُتحت أبواب الجنة وغُلقت أبواب النار وصُفدت الشياطين”. وانتصاراً على كل سلطان في الأرض، انتصاراً على سلطان الشهوة في الجسد، وسلطان الكبر والغرور في النفس، وسلطان العادات والتقاليد في المجتمع، وسلطان القوة عند العدو، وسلطان السمعة والرياء في الأعمال.
لقد شرع الله الصوم في السنة الثانية للهجرة النبوية، وهو نفس السنة التي أذن الله فيه للمسلمين بالقتال، فهل كان ذلك صدفة أن يتزامن التشريعان في السنة ذاتها؟ وأن يخوض النبي صلى الله عليه وسلم أولى معاركه الفاصلة؛ معركة الفرقان، يوم التقى الجمعان في رمضان. فكان بحق شهر النصر، وكانت فيه بجانب غزوة بدر، غزوة الفتح، وغزوة تبوك، وعين جالوت، والعاشر من رمضان.
إن أول أسباب النصر، انتصار المرء على نفسه أولاً، ينتصر على شهوته وهواه، يتغلب على خوفه وجبنه، يُسلم وجهه لله وقلبه، ومحياه ومماته، وألا يكون عبداً إلا لله، لا لبطنه ولا لهواه. يقول الشيخ حسن البنا:” ميدانكم الأول أنفسكم، فإن انتصرتم عليها كنتم على غيرها أقدر، وإذا أخفقتم في جهادها كنتم عما سواها أعجز، فجربوا الكفاح معها أولا، واذكروا أن الدنيا جميعاً تترقب جيلاً من الشباب الممتاز بالطهر الكامل، والخلق القوي الفاضل، فكونوا أنتم هذا الشباب ولا تيأسوا”. لذلك كان الصيام هو المقدمة التي لابد منها للانتصار على العدو الذي نعاني منه أشد ما تكون المعاناة، فالمهزوم أمام شهواته جندي في جيش العدو، حري به أن يحمل لأمته الهزيمة.
يقول الشيخ عبد المعز:” إن أمتنا بحاجة إلى أن تصبر صبر الحر، على مقاومة عدوها، ومنازلة أعدائها، لا على ايذائهم وإذلالهم وتحديهم.. ولا والله لن تطيق هذا ولن تقدر عليه إلا إذا تحررت من سلطان البطن وعبادة الشهوات، فذلك سر تمزقها وهوانها، وإخلادها في الأرض، وايثارها العافية، وهيهات لها، وفي شهر رمضان فرصة وخلفة وزاد لمن أراد”.
وبعد: يقول الشيخ عمر عبيد حسنة: ” فهل نجعل من شهر رمضان محطة نتزود منها بطاقات تضمن لنا ديمومة دوافع الخير على نوازع الشر؟ وهل نجعل من شهر رمضان فرصة لتوبة العقل والسلوك، وهل يكون شهر رمضان موسم عودة إلي القرآن بعد هذا الهجر والعقوق؟ وهل يكون شهر رمضان مجالاً للتدريب على المعاني الإسلامية التي افتقدناها في حياتنا، ووصل ما انقطع منها وغاب عن واقعنا؟”.
(المصدر: مدونات الجزيرة)