مقالاتمقالات مختارة

د. أبو يعرب المرزوقي يكتب: كوورونا.. أو في علاج الاستبداد والفساد

د. أبو يعرب المرزوقي يكتب: كوورونا.. أو في علاج الاستبداد والفساد

تكلمت على الكورونا مرتين وهذه الثالثة. في المرة الأولى ركزت على محفزات العدوى. وهي مبنية على محفزات التلامس بين الأبدان إما بالاكتظاظ البشري أو بالعلاقة الجنسية خاصة. والأول يشمل كل أنواع الاكتظاظ سواء لعلة ديموغرافية أو لمناسبات التجمع التي تحقق الازدحام والتلامس. والعلة الثانية معلومة.

وفي المرة الثانية ركزت على التفاعل بين العاملين الطبيعي والحضاري لبيان دور الثاني في الأول للرد على من ينفي هذا الدور رغم أنه من مميزات عصر العولمة وما ترتب عليها من تلويث للطبيعة وللثقافة وسيطرة الاقتصادي المادي على الثقافي الروحي سيطرة جعلت التعمير يتحول إلى تدمير الطبيعة والإنسان بصورة معولمة.

وعلة هذا النكران عند أدعياء الحداثة هي خرافة “العقلانية” والعلم وكفايتها لتفسير ما يجري وإلغاء المعتقدات التي توجد في ثقافات الشعوب لكأنه يمكن تصور حضارة من دون هذا العامل المؤثر ربما أكثر من كل شيء حتى لو سلمنا للملحدين أن الأديان من صنع الإنسان اتباعا لفيورباخ وخرافة الاستكمال الوهمي.

فلا يوجد عالم له دراية بعلم النفس الفردي والجمعي ينكر أن للمعتقدات دورا كبيرا في المناعة العضوية وأن الادوية الكيماوية ليست كافية لعلاج أي مرض لأن المعتقدات تشبه المعنويات في الحروب.والأمراض حرب مع الفيروسات والجراثيم ومن دون معنويات يحصل ما يحصل لأي جيش فقد معنوياته فينهزم بسرعة كما حصل للجيش المصري في 67 وكيف استعاد شروط النصر بالعودة إلى “الله اكبر” شعارا كان له أثر في بداية الانتصار الموالي.

والجامع بين المرتين السابقتين في كلامي على الكورونا هو بيان أن من يخرف في هذه القضية ليس العامة بمعتقداتها بل من يعتقدون أنفسهم خاصة بإيديولوجيتهم. فحصر التفسير في الوجه المزعوم علميا وحداثيا في شكله الكاريكاتوري الذي يطلقه هو اعتبار مسألة كورونا مثلا قضية تخص الأطباء والبايولوجيين والاستثناء الكاريكتاوري لأمور جوهرية في سلوك البشر وعلاقتهم بالطبيعة والحضارة.

والأمورالجوهرية على نوعين:1-فبعضها ينتسب إلى العلوم الإنسانية أعني علم الاجتماع وعلم الانثروبولوجيا. وهما علمان لا ينتسبان إلى علوم الطبيعة بل ينتسبان إلى علوم الحضارة. ويبدوان عديمي العلاقة بمقاومة ما يترتب على الظاهرات الطبيعية. لكنهما جوهريان فيه كما بينت لأن لسلوك الإنسان وعاداته الغذائية والجنسية وتجمعاته فردا وجماعة أثرا كبيرا في سلوك الأمراض وعلاجها.

وقد يقبل دعي العلمانية والحداثة-وهما كاريكاتوريان في بلادنا -لأن العلماني والحداثي في الغرب متواضع ولا يدعي الأطلاق في المعرفة العلمية واستثناء دور ما عداها ولذلك فلا يعتبر من العيب أن يقول لا أدري- قد يتنازل ويقبل على مضض هذا الدور للعلوم الإنسانية. لكنه سرعان ما “يحرن” إذا كلمته على دور المعتقدات الدينية التي يتوهمها خرافية.

ولا يدري أن الخرافة التي تسيطر عليه- ولاجل سلطانها العجيب عليهم- اعتبرت الحداثي العربي الذي يدعي العقلانية أكثر اعتقادا في الخرافات الأيديولوجية من العامي المؤمن بالمعتقدات الدينية. لذلك فهو كاريكاتور من الحداثي وخاصة إذا زعم أنه عقلاني. وقد ضربت مثال الحرب بقصد: فكل الجيوش التي ليس لها عقائد تنهزم في الحروب مهما تسلحت.

والأمثلة لا تكاد تتناهى: فجيوشنا لا ينقصها التسليح بل الإيمان بقضيتهم.ولعل آخرها انتصار طالبان على أمريكا. وانتصار أنصار الله على التحالف وانتصار اسرائيل دائما على جيوش العرب مجتمعة بعد أن جعلوها كأعجاز نخل خاوية وانتصار فياتنام على أمريكا وانتصار الجزائر على فرنسا وانتصار المختار على الإيطاليين: وهنا ينبغي فهم معنى الانتصار بمعناه الذي عرفه كلاوسفيتز.

صحيح أن فرنسا احتلت الجزائر وإيطاليا احتلت ليبيا وأمريكا احتلت فياتنام. لكن فرنسا وإيطاليا هما من هزم في الغاية لأن ما سعتا إليه لم يتحقق. كيف؟ لم يتحقق الانتصار كما يعرف في الحروب بين الامم. فلا تهزم أمة ما لم تفقد القدرة على الصمود فتستأنف المقاومة حتى تنتصر. وهذه القدرة هي سر الحياة وعلة كل نصر في الحروب مع الاعداء ومنها الفيروسات.

بعد كلامي على كلامي على الكوروينا في المرتين السابقتين أمر الآن إلى الكلام عليها هذه المرة وهي الثالثة وقد يتلوها مرتان اخريان إن شاء الله. في هذه المرة أريد أن أصف فيروسا يكاد يكون الآن مستعملا ضد المسلمين عامة والعرب منهم خاصة والاسلاميين منهم على وجه أخص : فيروس الاستبداد والفساد السياسيين اللذين يحاربان المسلمين والعرب والإسلاميين منهم خاصة وما يترتب عليهما من فقدان الأمة المناعة المادية والحصانة الروحية.

سيقال أنت تبالغ حتى صرت تستعمل استعارة التسمية فتدعي أن ما تتكلم عليه هو نوع من الفيروسات وليس ظاهرة من طبيعة ثانية. ولا بد أن ألجأ كعادتي-وليس هروبا من تحمل مسؤولية رأيي بل تأسيسا لرؤية جديدة تمكن من فهم ثراء فكرنا الماضي مع فهمه فهما مناسبا لعصرنا-ألجأ إلى ابن خلدون كما فعلت أمس في كلامي أمس على أثر الترف في رؤيته لشرح معنى العلاقة بين الطبيعي والحضاري في فهم تأثير كورونا.

فابن خلدون يعتبر الاستبداد والفساد ظاهرة طبيعية تستفحل بسبب عدم علاجها الحضاري. وهذا طبعا مما لا يستطيع كاريكاتور الحداثة عند العرب فهمه. فالحمق يجعلهم لا يفهمون نظرية ابن خلدون الذي يتصورون الرفع من شأنه عندما يتكلمون على سبقه في ما لا يعد شيئا بالقياس إلى ثورته: كيف يكون الاستبداد والفساد ظاهرة طبيعية تنتج عن عدم علاجها الحضاري؟ سيتهم ابن خلدون الذي تجاوز القشور بانه يخرف وغير عقلاني وغير حداثي مثله.

أما إذا علم الحداثي العربي أن ابن خلدون ينسب الاستبداد والفساد إلى ما يسميه “حب التأله” فهو سيجن. “حب التأله” هو الظاهرة التي تولد الاستبداد والفساد في نظرية ابن خلدون. ولذلك فهو يصنفه إلى نوعين:1 -حب التأله السياسي هو ظن الحاكم أنه صاحب قدرة مطلقة. 2-وحب التأله المعرفي عقليا كان أو عرفانيا وهو ظن العارف أنه صاحب علم محيط. كلاهما ينسب إلى نفسه ما لا يصح إلا على الله وحده: القدرة المطلقة والعلم المحيط.

ولذلك فليس من الصدفة أن جل الحداثيين العرب يدعون العلم المحيط ويحالفون المستبدين الذين يدعون القدرة المطلقة. إنهم متحالفون ذاتيا وموضوعيا مع الاستبداد العربي أعني التقاء بعدي الجاهلية أي الجهل المعرفي والجهالة السياسية. فالأول يتوهم أن علمه محيط وأنه حسم في الأديان يعتبرها مجرد أساطير الاولين أو خرافات كما قال فيورباخ والإنسان هو الذي خلق الإله وليس العكس. وغالبا ما تجدهم أكثر مثقفي العالم أمية إذ لا يوجد عالم يصدق أن الماركسية علم. وما يقال عن كاريكاتور الحداثة العربية يقال أيضا عن كاريكاتور الاصالة: كلاهما جامية إما باسم الدين أو باسم الفلسفة المحرفين.

ولا حاجة للكلام على جهل جل الحكام العرب إن لم يكونوا كلهم. فحتى من يبدون متعلمين منهم وخريجي جامعات غربية فإن تعلمهم لم يفدهم في شيء لأنهم جميعا منتحلو صفة. فلا يمكن أن يدعي أحد أنه ملك أو أمير أو شيخ على “دولة” ذات سيادة وهو عاجز حتى عن الحد الادنى من رعاية شعبه وحمايته وحتى نفسه لانه يحتمي بمحتل أجنبي. وحتى حكام “المحميات” العربية التي تعتبر غنية فهي أكثر تبعية حتى من “المحميات” العربية الفقيرة.

فالمعلوم أن مفهوم الدولة ينعدم بمجرد انعدام السيادة رغم أن التعريف القانوني السائد لا يشترط ذلك في تعريفها. والسيادة تعني القدرة على رعاية الذات وحمايتها. ولا توجد “محمية” عربية واحدة من المحيط إلى الخليج حائزة على أي من هذين الصفتين. وإذن فالكلام على حكام عرب مزحة إذ لا يمكن لقبيلة مهما بدا عليها من الثراء أن تكون دولة. إنهم إذن طغاة على شعوبهم نصبهم حام أجنبي مسيطر على كل شيء وإن أبقى لهم على شكليات توهمهم بأنهم حكام. لكنهم مجرد رعاة لمصالحه في أقطار”فصلها” سايكس بيكو لتكون تابعة بنيويا.

وحتى لا يظن بي أني اعرض بالعرب الآخرين وانسى بلدي فكلنا في الهوى سواء: تونس بلد متسول في الرعاية وفي الحماية. والمتسول لا يمكن أن يكون سيدا. ومن ثم فهي ليست دولة بل هي محمية. وهي الآن محمية أكثر مما كانت لما كان الاستعمار الفرنسي المباشر موجودا على أرضها. اليوم المقيم العام الفرنسي أقوى بكثير من سابقه لأن ما كان ممنوعا سابقا صار ممكنا له حاليا أعني التدخل حتى في التربية والثقافة الروحية للجماعة.

لن أطيل في وصف هذا الداء. فما أظن النخب العربية تجهله حتى وإن غلب عليهم تجاهله. ولعل أفضل مثال هو العراق. فلا أحد ينكر أنه أغنى بلاد العرب في كل شيء طاقيا ومائيا وحتى حضاريا لأنه أهم حتى من مصر في هذا البعد الثاني بسبب ماضيه في التاريخ القديم ودوره في تاريخ الإسلام لكن الاستبداد والفساد نخره فجعله دون الصومال. والعلة بينة فهو مستعمر من قوتين: إيران وأمريكا. ونخبه الحاكمة والفكرية دمى تحاول ترضية كلا المستعمرين. لكن ثورة الشباب العراقي ستغير ذلك.

سأكتفي ببيان أن ظاهرة الاستبداد والفساد مثلها مثل كورونا هي ظاهرة فيروسية لم تجد لها الحضارة الاسلامية بعد علاجا أو بصورة أدق لم يفهم علماء الأمة منذ البداية العلاج الذي قدمه الإسلام وجانبوه لأنهم قلبوا دلالة معاني القرآن ولم يفهموا ما حاول ابن خلدون بيانه في كلامه على العلاج السياسي لهذا الفيروس الطبيعي: فعلوم الملة الغائية الخمسة انحرفت عما حدد القرآن مهامه (التفسير أصلا للعلمين النظريين أي الكلام والفلسفة وللعلمين العمليين أي الفقه والتصوف).

وأول خطأ حال دون علاجه في العصر الحديث أي في ما يسمى “الإسلام السياسي” هو في التأويل الخاطئ لتاريخنا السياسي وخاصة في خرافة المقابلة بين عصر الراشدين وما تلاه بعد الفتنة الكبرى محملين مسؤولية ذلك إلى معاوية والدولة الأموية وخرافة الحل الشيعي الذي يريد أن يثبت أن الحسين هو الذي كان على حق ضد يزيد وهلم جرا من لعن الحجاج بن يوسف إلخ..

فأولا العهد الراشدي ينبغي أن الا يقاس عليه أي عهد لأنه عهد تأسيس لأمر عسير الفهم: ثورة الإسلام التي لو فهمت كما ينبغي أن تفهم لكانت قطيعة فعلية مع ما كان سائدا وخاصة في علاج فيروس الاستبداد والفساد. إنه العهد الذي كانت الأمة فيه تبحث عن الحلول التي تنقل التصورات القرآنية إلى مؤسسات. وإذن فهو ليس عهد مؤسسات قابلة للتقييم السياسي حتى يقاس عليها الإصلاح أو يحاكم ما حصل بعدها لما صار للمسلمين دولة فعلية وهي بالأساس الدولة الأموية التي كانت تعتمد أسس الحكم التي تقتضيها ضروراته في العالم.

وفضل معاوية في ذلك وكذلك الدولة الأموية أنها لم تعطل الشريعة بل طوعتها بالتأويل حتى تبقى على شكلياتها حتى وإن لم تحافظ على جوهرها الذي لم يكن مفهوما الفهم الذي يحوله إلى مؤسسات سياسية تعالج الاستبداد والفساد. والمثال الأوضح هو “حرية” البيعة. فقد حافظت الدولة الأموية على شكل البيعة وتخلت عن شرط شرعيتها أعني كونها لا تكون شرعية إلا إذا كانت حرة. لكن الشورى لم تطبق كذلك في عهد الراشدين ولم يكن بالوسع تطبيقها بغير ما طبقت به أعني الاقتصار على الأعيان بجعلها شبه فرض كفاية بدلا من حقيقتها فرض عين.

وإذن فالمقابلة بين حكم الراشدين وحكم الدولة الأموية فيه مبالغة تفسد استراتيجية الإصلاح لأنها أفسدت الرؤية السياسية من الأساس وهي إذن من الأوهام التي تجعل عهد الراشدين عهد ملائكة وعهد الدولة الأموية عهد شياطين. وجوهرها في الحقيقة هو تعميم الأكاذيب الشيعية التي صدقها “الاخوان” (مثل السيد قطب) وقبلهم مسلمو الهند (مثل المودودي). لكن ابن خلدون كان له من الحكمة والنفاذ الذهني ليدرك أن ذلك لا معنى له وحتى يخلص الفكر السياسي الإسلامي منه وضع نظرية “عدم” التاثيم السياسي.

ففي فصل البيعة من الباب الثالث عالج ابن خلدون قضية الحروب الأهلية الخمسة التي وقعت بعد الفتنة الكبرى وحاول أن يحرر الفكرالسياسي الإسلامي من توهم ان السياسة خاضعة لمنطق عدم التناقض والثالث المرفوع بحيث يتلاقى فيها الحق والباطل كما في نظرية المعرفة التي كانت سائدة في عصره: لها منطق متعدد القيم.

ولا يحررها من الاستبداد والفساد إلا هذا الحل الخلدوني. فكل القضايا السياسية تخضع لمنطق الاجتهاد المتعدد الذي يتجاوز منطق أرسطو ذي القيمتين إلى منطق الاجتهاد ذي القيم المتجاوزة لقيمتي منطق أرسطو والذي يثاب فيه صاحبه ما صدقت نيته وقصده سواء اصاب أو لم يصب. وابن خلدون يعتبر الصواب وعدمه غير محددي الجهة بل ويذهب حتى إلى نفيهما في السياسة التي هي مقاربات نحو حل لمسألة مصلحية عامة وليست بحثا عن الحقيقة والباطل.

وقد سمى هذا الحل الابستمولوجي بـ”عدم التأثيم” في الاجتهاد السياسي حتى يقلب صفحة الحروب بين الصحابة. فاعتبر الحسين من حيث الدوافع الدينية يبدو على حق. لكنه على خطا من حيث الاجتهاد السياسي بمعنى أن خياره السياسي لم يكن الحل المناسب للظرفية السياسية. فلا يمكن للمعارض أن يخرج على الدولة إذا كان خروجه سببا في ضرر أكبر من الضرر الذي يريد علاجه: الحرب الاهلية التي تسبب فيها بدعوى استرداد حق ليس له أساس لأن الرسول لم يوص آل البيت على حكم الأمة بل أوصى الأمة على آل البيت لحمايتهم بعد فقدانهم سند الرسول (تحريف وصية الغدير).

والحل الذي يعتبر سياسيا مناسبا للظرفية هو الحل الأموي الذي له أساس حتى في الشريعة الإسلامية. فمبدأ “الضرورات تبيح المحظورات” مبدأ قرآني أصيل ليس خاصا بالمحرمات العقدية كما في الاكل والشرب فحسب بل وكذلك في ما هو أهم منها وهو المحرمات السياسية مثل ما يسمى في الفلسفة السياسية أعني الفتن وضرورة اللجوء إلى “حالة الطوارئ” لحسمها.

كانت الامة في حروب أهلية انتهت بأبشعها وهو القضاء التام على بني أمية وتهديم دولتهم -بين ام المؤمنين وعلي وبين معاوية وعلي وبين ابن معاوية وابن علي وبين عبد الملك وابن الزبير- وكان لا بد من حالة طوارئ تعطل مؤقتا الدستور القرآني حتى تخرج الأمة من الحروب: وهذا علاج حضاري لمشكل حضاري بايولوجي لأن الحرب الأهلية علتها فقدان مبدأ عدم التأثيم.

فما كانت الأمة تدخل في حروب لو كانت تعلم أن السياسة -كما بين ابن خلدون- لا تخضع لمنطق الثالث المرفوع وأن المقابلة ليست بين الحق والباطل بل بين اجتهادات في تصورهما. ومن ثم فالواجب يقتضي أن يحصل حوار يوصل إلى حلول مؤسسية تنظم الاجتهادات لاختيار الأصوب لحل المعضلات المطروحة لتجنب “حب التأله” اصل الاستبداد والفساد في غياب العلاج السياسي المؤسسي.

ولست أعجب من ذلك لأن الأمة كانت تبحث عن حلول للتوفيق بين المعاني القرآنية التي كانت شديدة التقدم على العصر وكان من العسير ترجمتها المؤسسية. فهي معان غير مسبوقة ومن ثم فهي لم تكن يسيرة التحقيق: جمعت بين مفهومين فلسفيين أساسيين. فالآية 38 من الشورى حددت طبيعة الحكم ثم أسلوب إدارته فجعلت الطبيعة أمر الجماعة وجعلت الأسلوب إدارة الشورى فرض عين.

والدليل أن الإسلام السياسي متعثر إلى الآن لأنه ما يزال دون هذه المعاني القرآنية ودون فهم ابن خلدون حول الداء الطبيعي (حب التأله) وعلاجه السياسي. وعندما أسمع بعض الإسلاميين يفاخر بأن المسلمين كان فيهم من يقول لعمر والله لو رأينا فيك اعوجاجا لقومناه بحد السيف أفهم علة التخلف الحالي. فقد افهم هذه الرؤية في ذلك العهد. لكن الفخر به اليوم دليل عدم فهم علته وضرره خاصة. تقويم الحكام يقتضي دائما الحرب الاهلية والشعب المسلح.

فالحكمة السياسية هي إبداع المؤسسات التي تجعل تقويم الحكام هو بدوره ثمرة عمل مؤسسي وليس مبادرات فردية. وعمل المؤسسات يجعل التغيير مؤسسيا وليس صداما بالقتال. ومن أمثلة ذلك أن الخليفة عثمان كان يعتقد أنه عين خليفة وأن حكمه هبة إليه عليه أن يحافظ عليها طيلة حياته. وهو ما يعني أن مؤسسة الخلافة ما زالت بدائية ولم تتطور بحيث تصبح مدة حكم الخليفة محددة مثلا وأسلوب حكمه قابلا للتقييم فيكون عزله ممكنا ومن جنس تعيينه فلا تكون البيعة مطلقة.

وما يعنيني ليس المفاضلة بين الراشدين وغير الراشدين -وهي مفاضلة خاطئة تخرج مرحلة من تاريخ الأمة من سنن التاريخ وإبن خلدون يرفض ذلك بل وحتى مرحلة حكم الرسول نفسها فهو يطبق عليها مبدأ الحاجة إلى العصبية أصلا للشوكة لأن الشرعية وحدها لا تكفي لوجود الدولة فضلا عن بقائها ونجاحها في القيام بمهامها. ما يعنيني إذن هو طبيعة العلاج السياسي لنفس المشكل.

ففي ما يسمى بعهد الراشدين لم توجد بعد المؤسسات التي تمكن من تطبيق الشورى 38 تطبيقا مؤسسيا يجعل الأمر أمر الأمة ويجعل ممارسته ممارسة الشورى لعلاج القضية الاقتصادية الاجتماعية جوهر السياسة. وفي ما يسمى بالملك العضوض عولج الأمر بما كان موجودا في الاقليم قبل الإسلام وحاول العلماء تبريره بحيل شرعية. وما كان موجودا نوعان من التنظيم السياسي: 1-الأول مزيج من النظام الفارسي والبيزنطي وهما متقاربان بنيويا لما لهما من صلة بمزيج يوناني مسيحي والاول بمزيج يوناني زرادشتي. وهما المؤثران في الأموية.

لكن ما حد من تأثيرهما عند السنة غاب عند الشيعة. فالأمويون لم يجعلوا ما أخذوه من أنظمة العصر مسيطرا بل غلبوا عادات القبلية العربية مع عدم التصادم مع شكليات الفقه ومن ثم فهم لم يعتبروه جزءا من العقيدة بل هو مجرد اجتهادات لتنظيم الصالح العام بلغة ابن خلدون. أما الشيعة فما أخذوه عن فارس وبيزنطة اعتبروه من العقيدة فكان تحريف رؤية الإسلام عندهم اخطر من تحريف السنة لها: لأنه أعاد ما نفاه القرآن نفيا صريحا أعني سلطة الوساطة الروحية وسلطة الوصاية السياسية أو الحكم بالحق الإلهي.

وها نحن الآن أمام فيروس الاستبداد السياسي والفكري إما كأمر واقع عند السنة لأنه ليس من العقيدة أو كأمر واجب عند الشيعة لأنه من العقيدة. وعنهما ينتج حتما الفساد لأن الفساد ملازم للاستبدادين. وعلة التلازم هي أن المستبد لايحتاج للحجة والمنطق لأنه يعوض ما لهما من فاعلية في تكوين القوى السياسية بشراء الضمائر وهو أصل كل فساد فصاحب المال يشتري صاحب الفكر فتضيع اخلاق الأمة وتصبح كل القيم بضاعة أو خدمة للبيع والشراء.

وبهذا المعنى فالعلاج الذي يقدمه ابن خلدون هو علاج حضاري لداء طبيعي. فالداء هو حب التأله عند الحاكم سياسيا وعند العارف فكريا. وهو يضرب مثال التصوف وعباقرة الابداع في الشعر والأدب والدراية السياسية للوزراء والمستشارين. والعلاج هو السياسة ببعديها أي التربية التي لا تعتمد عنف الوساطة الروحية ليكون الإنسان حرا فيتكون لديه الوازع الذاتي والحكم الذي لا يعتمد عنف الوصي السياسي ليكون الإنسان حرا فيتكون الوازع الأجنبي الشرعي أي قوة القانون وليس قانون القوة.

فيكون العلاج الخلدوني مبنيا على نوعي المؤسسات التي تكون الإنسان من حيث هو إنسان ذو وزع ذاتي أو الضمير الخلقي والديني ومن حيث هو مواطن ذو وزع خارجي أو اجنبي هو القانون والشوكة الشرعية أو ما يسمى الآن بالعنف الشرعي للدولة. إنهما العلاج الحضاري الذي لم نوفق فيه ضد فيروس الاستبداد.

وهنا نكتشف علة العجز عن التصدي. إنه ما أشرت إليه من تبعية بنيوية لما يسمى بالدول العربية انتحالا للاسم في غياب المسمى. فلا يمكن لمحميات فاقدة لشرطي الرعاية والحماية أن تكون دولا ذات سيادة بحيث تستطيع أن تصلح شأنها فتصبح قادرة على علاج فيروس الاستبداد لأن الحكام مفروضين فرضا. فالحامي لم يعد يكتفي بفرض إرادته في ما يتعلق بمصالحه المباشرة بل يريد تأبيدها بالتدخل في الخيارات التربوية والروحية ليصنع الإنسان المسلم كما يريد لتأبيد التبعية.

كيف يمكن أن تصلح أمر مصر وليبيا والسعودية وسوريا والعراق وتونس إلخ… ولا أحد من حكامها يمكن أن يكون باختيار شعبها؟ بل أكثر من ذلك صار جل حكام العرب مزدوجي الجنسية صراحة أو ضمنا. ففي المغرب الكبير فرنسي في المشرق امريكي أو انجليزي وفي الغالب من عملاء مخابرات بلد الجنسية الثانية؟ فإذا أضفت التدخل في التربية وفي القيم الاسرية والأخلاق العامة تبين أن الاستبداد والفساد مضاعف: فهو داخلي بيد الحكام والمربين وهو خارجي بيد من يعينهم ويفرض عليهم استراتيجية تؤبدهما.

وما كان ذلك يكون كذلك لولا سايكس بيكو. يعجب الكثير من هذا الكلام. لكن فلنحاول فهم الفرق بين حركة النهوض قبل سقوط الخلافة العثمانية وبعدها. فحركة النهوض لم تنتظر غزوة نابليون-وهم من أكاذيب مثقفينا الذين جعلوا النهوض رهن الغزو وحتى يثبتوا خرافة مصر أم الدنيا وهي ليست حتى أم نفسها- بل هي بدأت منذ أن حاول ابن خلدون وقبله أعلام الحركة النقدية لانحرافات علوم الملة- وخاصة الغزالي وابن تيمية.

ألم يكن فكر النهضة منذئذ محاولة لفهم سر اتجاه حضارة الأمة نحو الانحطاط المتزايد في تاريخ الملة خاصة؟ والثلاثة الذين أعنيهم كانوا معاصرين للحروب الصليبية (الغزالي) والمغولية (ابن تيمية) والاستردادية (ابن خلدون). وهل كنت أخصص القسم الثاني من رسالة الدكتورية للأخيرين والماجستار للاول لو لم يكن همي فهم محاولات النهوض بدارا؟ ألم يكن ابن خلدون خاصة قد لاحظ الانحطاط في ضفة المتوسط الجنوبية والتقدم في الشمالية؟

وهذه الملاحظة الخلدونية وحدها كافية لبيان أن السعي إلى الاستئناف قد بدأ منذئذ. وهو بدأ محاولة لفهم علل الانحطاط وكان التشخيص هو بالذات اعتبار العلاج السياسي لفيروس الاستبداد والفساد هو الغائب وحصره ابن خلدون في مسألتين: إصلاح التربية والحكم حتى يكون الإنسان حرا وكريما وليس عالة على غيره. وهل بالصدفة أن الإصلاح العقدي ضد نكوص الأمة إلى وثنية الوساطة الروحية (القبور وهي من آثار التشيع والجاهلية) وضد نكوصها وثنية الوصاية السياسية (الاستبداد والفساد) أن كانت المرجعية قبل سايكس بيكو وسقوط الخلافة في الاصلاح الاول ابن تيمية وفي الاصلاح الثاني ابن خلدون؟

فابن تيمية وابن خلدون كانا يتكلمان على أمة لم تكن بعد قد تفتتت إلى الدرجة التي صارت عليها بعد سايكس بيكو وسقوط الخلافة. فما حل بالأمة بعدهما هو ما جعل هذا العلاج العقدي والسياسي مستحيلين بعد أن كانا ممكنين وكانت النخب تعمل عليه في كل أنحاء دار الإسلام من اندونيسيا إلى المغرب. سايكس بيكو كان استراتيجية لنشر الفيروس بإضعاف المناعة المادية والحصانة الروحية. وإضعافهما يتألف من خمسة خطط استراتيجية هي سر تقوية الفيروس بإضعافهما.

وسأكتفي بذكر هذه الخطط بسرعة لأني تكلمت عليها كثيرا في غير موضع: 1-تفتيت الجغرافيا الإسلامية وتثبيته بحدود حديدية لمنع التعاون بين المسلمين أي شرط القوة المادية.2-تفتيت التاريخ الإسلامي لاستعادة تاريخ ما قبل الإسلام تمتنيا للتفتيت الجغرافي ومنعا للوحدة التاريخية شرط القوة الروحية.3-ما يؤدي إلى امتناع التنمية العلمية والتقنية بالتفتيت التاريخي وقتل التراث 4-وما يؤدي إلى امتناع التنمية الاقتصادية بالتفتيت الجغرافي وقتل الثروة.

فإذا تم ذلك 5-تصبح الحرب مركزة على العامل الأصلي في قوة الأمة أي مناعتها المادية وحصانتها الروحية. والاصل هوالمرجعية الإسلامية التي توحد الجغرافيا والتاريخ فتبقي على عامل الصمود على الاقل في القلوب والوجدان. والمعلوم أن العدو لا يمكن أن يعتبر نفسه قد انتصر ما لم يقض عليه: لذلك يركزون حاليا على محاربة الإسلام بعملائهم.

وها أنا قد حددت فيروس الاستبداد والفساد ما مصدره وبينت مصدر العقبات التي حالت دون العلاج السياسي للداء الذي تعاني منه الامة. وهو فيروس داخلي يغذيه فيروس خارجي: فالعالم الغربي يعاني من عقدة تاريخية إزاء الإسلام والمسلمين وهو لم يتحرر منها وما يزال خوفه من الإسلام وحضارته جنيس ما عاشه في القرون الوسطى: لذلك فالغرب يكره العرب والأتراك خاصة ويتحالف مع الباطنية التي تحاربهما من الداخل.

وكانت استراتيجيته الأحدث هي فكرة التفتيت التي وصفت. فصار الفيروس داخليا وجعل المسلمين يعيشون حربا أهلية دائمة في كل شعب وفي كل قطر وأصلها فتنة من طبيعة مختلفة هي فتنة “الصدام الحضاري الداخلي” بين ثقافة الإسلام الاصيلة وثقافة الغرب المستوردة. وأداة هذه الاستراتيجية هي فيروس الاستبداد والفساد وهو طبيعي في كل الجماعات لكن علاجه السياسي صار مستحيلا لأن الأنظمة كلها توابع.

وعلاجه السياسي حددته الآية 38 من الشورى إذ اعتبرت السياسي أمر الجماعة واعتبرت أسلوب ممارسته الشورى التي هي فرض عين واعتبرت أهم مشاكل العلاج السياسي هي القضية الاقتصادية الاجتماعية (الانفاق من الرزق). وكل ذلك يجري تحت مبدأ الاستجابة للرب الذي استخلف الإنسان واستعمره في الأرض. وهذا الحل لم يقدمه القرآن لشعب دون شعب بل للإنسانية كلها لانه الحل الكوني ضد فيروس “حب التأله”.

فكيف يمنع ذلك على المسلمين؟ الاستراتيجية تمثلت في علاجين:

1-تفتيت الاحياز الذي أشرت إليه يترتب عليه التبعية البنيوية إذ الفتات يصبح عاجزا عن شروط السيادة.

2-تكليف من فقدوا المناعة الروحية بالتربية والحكم لضرب من لم يفقدوهما.

ومن هنا الحلف بين النخب المستلبة فكريا وسياسيا بالمهمة. الفيروس موجود عند المستلبين والعلاج ليس ضد الفيروس بل ضد من بقي سليما منه أعني من يسمونهم توابع الإسلام السياسي أي من يرفضون تفتيت الجغرافيا وتشتيت التاريخ طلبا لشروط التنمية العلمية والتقنية والتنمية الاقتصادية والاجتماعية التي جعلوها مستحيلة بسايكس بيكو ويريدون مضاعفتها.

(المصدر: صحيفة الأمة الالكترونية)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى