أبو يعرب المرزوقي يكتب: لا مرد لعودة دور الإسلام

لا أحب أسلوب الردود على أحد. لكن ما قاله ماكرون عن الإسلام السياسي يحتاج إلى إنارة وقد تعتبر ردا وما هي بالرد. وأبدأ فأسأل:

هل الإسلام السياسي يهدد فرنسا؟

وهل يهددها في قطرها أم في ما تريده أن يبقى مستعمرات لها؟

أم فيهما معها؟

وما علة كون فرنسا صارت بحيث تصبح مهددة به؟

ذلك ما أريد إنارته.

سأفترض أمرين انتظارهما من فرنسا ميئوس منه لاستحالتهما من منظور نخبها. لكنها ستضطر إليهما حتما ولعل للإسلام فيهما دور. وبهما يمكن لفرنسا ألا تكون مهددة بـما يسميه الإسلام السياسي بل بما تخفي به نخبها حقيقة التهديد الذي تعاني منه فرنسا فعلا.

وأول الأمرين هو: هل يمكن لفرنسا أن تتحرر من دين اليعقوبية الذي تسميه العلمانية والذي هو جعل الدولة كنسية متخفية تفرض على الناس نمط حياتهم كله المادية والروحية؟

فاليعقوبية لم تزل الكاثوليكية بل أبقت عليها وسمتها علمانية.

العلمانية اليعقوبية ليست فصلا للدين عن الدولة بل هي ضمه إليها. الدولة استحوذت على وظائف الكنيسة الكاثوليكية في التربية وفي الرعاية-تماما كما فعلت الماركسية التي ورثت هذه العاهة منها فصار الحزب الشيوعي كنسية ملحدة- وخاصة في مراقبة ضمائر الناس وفرض قيم إلحادية على سلوكهم حتى في ملبسهم مأكلهم وعلاقاتهم الأسرية والجنسية إلخ.. هي دكتاتورية الكنسية المتخفية بالعلمانية تماما مثل الأحزاب الشيوعية التي ورثت منها نفس الذهنية بسبب علاقة ماركس والنخب الألمانية في عصر الثورات بالفكر الفرنسي.

ولا عجب ففي فكر الثورة الفرنسية سواء السياسي أو الفلسفي نجد هذه النزعة التي تخفيها العلمانية اليعقوبية. فروباس بيار الذي هو من مفكريها الأكثر تطرفا في علمانيته وإلحاده المزعوم لم يستطع إخفاء ذلك بما آل إليه فكره إذ هو قد وضع دين الموجود الأسمى. وأوغست كونت بوضعانيته انتهى إلى وضع دين الأعلام.

فرضيتي الأولى هي إذن مراجعة الفرنسيين لعلمانيتهم اليعقوبية التي هي كاثوليكية متخفية والتي هي من أغبى العلمانيات في العالم. وأعلم أن هذه الفرضية تطلب المستحيل إذا نظرنا إليها ذاتيا بمعنى إذا توهمنا أن الفرنسيين سيقدمون عليها طوعا. لكنها ستحصل حتما لأن التعدد الثقافي والديني صار واقعا في أوروبا والغريب أن ذلك بصدد الحوصل بسبب الفرضية الثانية.

وأصل الآن إلى الفرضية الثانية. وهي كذلك مستحيلة بمنظور النخب الفرنسية بمعنى أنها لن تحصل طوعا من قبل فرنسا. فلن تتخلى فرنسا طوعا عن وهم سلطة الامبراطورية التي لها على مستعمرات أهلها “كورفيابل آمارسي”. ومن هنا خوفهم مما يجري في شمال الصحراء أي في المغرب الكبير. ونحن الآن في مرحلة تصفية الاستعمار لأن الشعوب فهمت أن التحرر مشروط باستكمال التحرير.

فإذا لم تفهم النخب الفرنسية أن فرنسا لا يمكن أن تبقى قوة عالمية إلا بالتعامل الندي مع افريقيا وتوهموا أن فرنسا يمكن أن تستعيد مستعمراتها بالتحالف مع عملاء الأنظمة وخاصة مع الثورة العربية المضادة فهم واهمون. ويمكن لفرنسا أن تبقى قوية بالمشاركة الندية إذا تحررت من العنصرية وقبلت بالندية مع الأفارقة عامة ومع المغرب الكبير خاصة.

فما تحققه ألمانيا مع أوروبا الشرقية والسلافية يمكن لفرنسا أن تحققه مع أوروبا اللاتينية ومع المغرب الكبير إذا هي فهمت منطق العصر ولم تعتبر المهاجرين إليها مما كان مستعمراتها سابقا عبئا عليها لأنها يمكن أن تكون جسرا لهذه العلاقة التي سيفرضها عليها تحرر الأفارقة من هيمنتها بدءا بالمغرب الكبير طوعا أو كرها.

سمعت تشخيص ماكرون لأدواء بلاده. وفهمت أنه يشعر بخطرين حقيقيين متعلقين بمسألة الإسلام السياسي لان المسائل الأخرى داخلية ولا تعنيني. لكنه يصف الدواء الخطأ.

فأما الخطر الأول فهو التعدد الثقافي الذي ترتب على وجود المهاجرين من المستعمرات السابقة وهو آت ولا يمكن إيقافه بالحلف مع أعداء الإسلام: فرنسا لا يمكن أن توقف التعدد الثقافي وفرض ما فرضته على شعوب سابقة صارت فرنسية لما كان بالوسع فرض الوحدانية الثقافية.

ومعنى ذلك أنه يميل إلى الفهم اليميني المتطرف ولن يفيده ذلك إلا بمثل ما يفيده احتراق نوتردام. قد يغير منحنى شعبيته لفترة قصيرة لكنه ليس علاجا لفرنسا بل هو فهم عقيم لسر قوة ألمانيا التي تتفوق على فرنسا بكونها ليس لها عقدة المستعمر الذي فقد إمبراطورية فعوضتها بـالتعاون مع العالم دون عقد.

صحيح أن ألمانيا لها يمين لا يقل تشددا عن يمين فرنسا. لكن دوافعه قديمة وليست ناتجة عن نزعة استعمارية وهي متجاوزة للإسلام السياسي لأنها نازية الأسلوب مع بقايا صليبية. لكنها ليست ذات حنين استعماري لأن علاقة ألمانيا بالإسلام مختلفة عن علاقة فرنسا به نظرا لدورها في إفريقيا وفي الشرق الأوسط وخاصة في سايكس بيكو.

فمحاولة نابليون في مصر لم تكن حصرا بسبب التسابق مع بريطانيا بل كانت كذلك لتحقيق مشروع قديم وضعه “لايبنتس” للإحاطة بالخلافة العثمانية وضربها بفضل المشرق العربي عنها. وذلك في صلة بالمسالة الشرقية وحماية مسيحيي لبنان وشيعتها خاصة ودورهم في القومية العربية وخيانة الخلافة معلوم.

وقد لا يكون ماكرون واعيا بهذه الخلفية. لكن مستعمليه-لأنه دمية للمافية الصهيونية التي تحالفت مع اليمين الأوروبي ضد المهاجرين المسلمين-لا يجهلونها لأنها كانت ولا تزال نفس المشروع الذي نفذته بريطانيا لما أفتكت من فرنسا السيطرة على المشرق العربي وخاصة مصر والشام.

ولهذه العلة نرى ماكرون يتحالف مع السيسي وحفتر ومع الثورة العربية المضادة ومع علمانيي الأكراد والأتراك والعرب عامة وعلمانيي المغرب الكبير بعربه وأمازيغه ضد الثورة لأنه يعلم أنها تعلن عن نهاية الدور الفرنسي في إفريقيا وفي المشرق خاصة وهو بغباء منقطع النظير يتحدى الجزائر وتركيا. ففرنسا خاصة هي صاحبة اتهام تركيا بالإبادة المزعومة للأرمن لما لهؤلاء من دور بين النخب الفرنسية شبيه بدور الصهاينة. ولا أحب الكلام على الصليبيات. لكن العلمانية اليعقوبية التي هي كاثوليكية متخفية ورثت شيئا من ذلك.

لكن ماكرون نسي أمرين:

1- فرنسا لم يعد لها الإشعاع الروحي الذي كان لها في ذلك الحين.

2- وفرنسا لم تبق إمبراطورية كما كانت لما أسست العلمانية اليعقوبية.

لذلك فهو يقع في خطأ تاريخي قاتل. والتيامن المتدرج للسياسة الفرنسية التي لم تعد ديغولية ليس علامة صحة بل هو انكماش سيزيد في عقد فرنسا بالقياس إلى ألمانيا. ولن يوصله إلا إلى تجاهل الخطر الأكيد والذي لا علاج له إلا ما اقترحت: فمن دون وحدة ندية بين ضفتي البحر الأبيض المتوسط ستكون أوروبا في وضع افريقيا بعربها وبغيرهم بين فكي كماشة المغولين الغربي والشرقي.

التنافس سيكون بين مغول الغرب أو الولايات المتحدة ومغول الشرق أو الصين وستكون أوروبا ونحن -في الهوى سواء- بين فكي هذه الكماشة التي ستأكل الأخضر واليابس لأن اليمين الأوروبي لم يفهم بعد أن بلادهم لم تعد قوة بمنطق العصر: فالعلوم والتقنيات لم تبق حكرا عليهم وحجمهم لا يمكنهم من دور عالمي.

لو كان كلامي موجها لماكرون لكتبته بلسانه. لكن ذلك ليس من همومي. همي هو تنبيه العملاء العرب الذين يعتمدون على تخريفه متصورين أنه يمكن أن يساعدهم حليفا يعتمد عليه كما فعل أجدادهم لما اعتمدوا على بريطانيا لخيانة الخلافة. الأمر اليوم ليس خلافة بل استفاقة تحرر واستكمال التحرير. وعودة الإسلام لدوره التاريخي حتم.

إنه أمر منطقه

إذا الشعب يوما أراد الحياة *** فلا بد أن يستجيب القدر

وهو ليس منطق شاعر بل هو منطق رب العالمين صيغ شعريا إذ إن هذا البيت هو مضمون الآية الكريمة {إن اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد:11] مقدما المعلول على العلة حتى يشرح معناها لمن حرفه من القائلين إن كل ما يحدث في التاريخ لا دور فيه لإرادة الشعوب تحريفا لدلالة القضاء والقدر في عصر الانحطاط.

فإن لم يفهم ماكرون ذلك فأمر لا يعنيني. ما يعنيني هو أن يفهمه شبابنا بجنسيه وأن يعود “شاهد العقل” لأدعياء الحداثة من النخب التي تدعي العلمانية والليبرالية ومن العملاء الذين يتوهمون أن الثورة يمكن أن يوقفها ماكرون أو ترومب أو بوتين أو ذراعاهما إسرائيل أو إيران: الله يريد عودة دور الإسلام في التاريخ. ولا مرد لعودته.