مقالاتمقالات مختارة

هل تراودك أفكار إلحادية؟ اقرأ هذا..

هل تراودك أفكار إلحادية؟ اقرأ هذا..

بقلم شريف محمد جابر

هل واجهتَ يومًا مأزقًا عصيبا في حياتك تشظّى له قلبك وصارت نفسك شتيتًا متناثرا؟  كالفشل في الدراسة، فقدان الأصدقاء والوحدة، الانفصال عن الزوج أو الزوجة، طلاق الوالدين، كارثة مالية، حرب أهلية. ثم هل لاحظت نفسك تتخذ منعطفًا حادّا في أفكارها أو سلوكها على إثر ذلك المأزق؟ كالتفلّت من التكاليف الشرعية (ترك الصلاة، خلع الحجاب وغيرها)، أو الإدمان على المخدّرات أو الخمر، أو الوقوع في انحرافات أخلاقية، وصولا إلى تداول أفكار وشبهات إلحادية. إذا كنت قد مررت بشيء من ذلك، فهذا المقال موجّه إليك..

إنّ أخطر أنواع الإلحاد هو هذا الذي ينطلق من أزمة نفسية مرّ بها الإنسان، وقد تكون أزمة عاطفية حادّة قلبتْ حياته عاليها سافلها، فصارت نفسُه هشّة جدّا وقابلة جدّا لشتى غوايات الشيطان، مما يجعل الأخير يُلقي بسهولة بأكبر أوراقه: الاستكبار عن عبادة الله. والإلحادُ بالمفهوم المعاصر يدخل في هذا المعنى، فهو في جميع تمظهراته إعلانٌ للتمرّد على الله عزّ وجلّ.

تكمن الخطورة في هذا النوع من الإلحاد أنّه يظهر في المجتمع بمظاهر قريبة من مظاهر إلحاد الغرور العقلي أو العلمي، والذي يكون منطلقا من الجهل بالله وبمفهوم الدين، والاغترار بالعقل وبالعلم الحديث، ومن ثم فإنّ إلحاد الأزمات النفسية الذي يبدو شبيها بهذا الأخير يُواجَه بنفس وسائل التصدّي والردود من قبل الدعاة بل والناس العاديين، وعادة ما تتميّز هذه الردود بالعدوانية تجاه الملحد، والسعي لـ “فضحه” و”إفحامه” بالأدلة العقلية على وجود الله وحكمته وتدبيره وإعجاز قرآنه!

الإشكالية أنّ هذا النوع من التصدّي لن يجد في الغالب محلّا قابلا في نفس مَن غزتْ فؤادَه الأفكارُ والهواجس الإلحادية (والتي كثيرا ما تُصاحَب بمشاعر العبثية والسخط واللاجدوى والرغبة بإطلاق الشهوات)، فالمحرّك الذي فجّر مظاهر الإلحاد فيه لم يكن محرّكا فكريا أو علميا، بل كان محرّكا نفسيا لا يزال ممسكًا بتلابيب قلبه، عنه تصدر انفعالاته وأفكاره تجاه العالم. ولهذا فإنّ الردود “العنيفة” ستثير في قلبه المزيد من السخط، وقد تُفجّر المزيد من الشبهات والاعتراضات حول الدين ومجتمع المتديّنين “الظلامي”!

والواقع أنه لا أحد منزّهًا عن الوقوع في مثل هذا النوع من الأزمات النفسية التي قد تقود إلى الأفكار الإلحادية، ولا حتى كاتب هذه السطور. ومن ثم فما أراه مجديا لمواجهة هذا النوع من الإلحاد أولا هو تعزيز علاقتنا الروحية بالله عز وجل، وتحديدا من خلال كتابه الذي قال لنا فيه {يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين}. يقول الحكيم الترمذي: “فإنّما سماه شفاء؛ لأنّ القلوب لما أصغت لحديث النفوس ووسواسها بالشهوات سقم الإيمان، فصار القرآن شفاء للإيمان من السقم. ورويَ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال لسلمان رضي الله عنه: “قل اللهمّ إني أسألك صحّة في إيمان”. فلا تكون الصحّة إلا من السقم، وسقم الإيمان ضعفه وخمود نوره حتى يضعف عن الوفاء به فعلا” (مخطوط ولي الدين، 770).

إنّ إيجاد علاقة روحية عميقة بيننا وبين آيات القرآن حين نقرؤه في بحبوحة الحياة أمرٌ مهم جدا أكّد عليه القرآن في أكثر من آية. لا يكفي هنا “الحفاظ على الورد القرآني” كما لو كان الأمر مجرد عدّ للصفحات ووضع إشارة “صح” بجانب جدول المهام اليومية! إنّ الشأن في التدبّر هو أن نرى القرآن يخاطبنا نحن في كل آية، وأن نحاول استحضار أعماق ذواتنا ونحن نتلو الآيات. هذا على مستوى التحصين. أما بعد الوقوع في الأزمة النفسية، فباستثناء الحالات المرَضية التي تحتاج إلى علاج نفسي وبموازاتها، ينبغي أن نذوّت فكرة مهمة جدا، وهي أنّ الإقبال على القرآن وعلى السجود الطويل والدعاء والابتهال والنجوى قد يكون في تصوّرنا ثقيلا جدا ونحن في خضمّ هذه الأزمة النفسية، بل قد تراودنا بعض الأفكار حين ينصحنا أحدٌ بذلك من جنس: “هذا لا يعلم ما نشعر به، إنه ينظّر ويظنّ الأمر سهلا وسيزول بسجدة أو جلسة تلاوة”!

وهذا حاجز نفسي، وكأنّ الشيطان هو من يردّد هذه الكلمات على ألسنتنا حينئذ ليصرفنا عن الدواء! والواقع أننا بحاجة حينئذ إلى تجاوز هذا الحاجز النفسي مهما شعرنا بالألم وعدم الراحة والكآبة الشديدة الرابضة على صدورنا، وأن نقرأ ما نشعر أنّه يخاطب حالتنا من سور القرآن. أن نجلس في هدوء، نتلو بصوت ذواتنا المسموع لنُسمع أنفسنا. أن نشعر للحظة بأنّ هذا القرآن هو كلام الله الأنيس الذي يُربّت على قلوبنا، وأنه سبحانه هو الملجأ الرحمن الحنّان الذي نُلقي إليه بكل آهاتنا وأوجاعنا ودموعنا باستسلام تام.. فها هنا الشفاء! ثمة تجربة نفسية وجدتها في نفسي وأحببت مشاركتها للفائدة، وهي أنني لم أجد نفسي خاملا منصرفا عن تلاوة القرآن، ثم أجبرت نفسي على التلاوة المتدبّرة لوحدي، إلا وندمتُ سريعًا على هذه المشاعر السلبية التي كانت تغمر قلبي، وشعرت بحلاوة لا مثيل لها. حلاوة تكاد تفوق حلاوة التلاوة حين لا يكون ثمة حاجز نفسي بينك وبين القرآن. حلاوة القلب الذي قفز فوق الحواجز وهرول إلى أحضان القرآن، فاستقبله استقبال الأنيس العطوف، وقلبَ حاله من السخط والتبرّم إلى السكينة والرضا!

 

وفي القرآن آياتٌ تمثّل كل واحدة منها أفقا رحبا دافئا للنفس، فلا يُمرّ عليها مرور الكرام، بل تُعاش ويَقتاتُ القلب من بركاتها ونفحاتها فيسلو عمّا كان فيه من همّ وحزن وكآبة. وذلك حين يقرؤها وهو يناجي بها ربّه. هل جرّبت يومًا أن تتضرّع إلى ربّك بهذه الآية {ربنا ولا تحمّلنا ما لا طاقة لنا به}؟ هل كنت حزينا كئيبا بعد فراغ عاطفي فتلوت {ربّ إني لما أنزلت إليّ من خير فقير} وشعرت أنك أنت الذي يخاطب الله عز وجل لا موسى عليه السلام؟ هل ضاقت بك الدنيا ورأيت السواد في كل شيء ثم تلوت {سيجعلُ الله بعد عُسْرٍ يُسْرا}، فرأيت كوّةً من النور في كلمة “يُسرا”، وانطلقتْ نفسُك مُشرقةً في أفقها راضية مطمئنّة؟ هل كرهتَ يوما نفسَك وشعرت أنك كائن بغيض لا قيمة له في هذه الدنيا، ثم تلوت {قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله} فغرقتَ في الرحمة؟!

هل شعرت بعجزك وضعفك يومًا وأنك أوشكت على السقوط والاستسلام، ثم هرعت إلى قوله تعالى {يريد الله أن يخفف عنكم وخُلق الإنسانُ ضعيفا}، فوجدتَ الركن الركين الذي حوّل ضعفك إلى قوة حين أدركت أنّ ضعفك طبيعي وأنك لست مسؤولا عن زحزحة الجبال؟! هذه وغيرها من الآيات والسور هي شفاء روحك المتعبة فكيف تحرمها الشفاء؟! وبدهيّ أن جلسة واحدة من التلاوة أو جلسات، وسجدة واحدة أو عشر سجدات لن تمحو ما علق بروحك من أوضار مهما كانت صادقة ومهما ذرفتَ من دموع، قد يحدث ذلك في حالات شفيفة نادرة في سجلّ البشر، ولكن المداومة على هذا “القرب” والدعاء والابتهال والنجوى في السجود، وعلى تلاوة القرآن بتدبّر وسكينة وانكسار لله عز وجل، هو الذي يفعل فعله العجيب في إعادة بناء النفس وتحصينها من آفات الخذلان والوحدة والهمّ والحزن والجزع والمرارة والوحشة، والتي قد تؤدي بالإنسان حين يستسلم لها إلى التفكير الإلحادي العبثي.

إنّ من أهمّ النقاط التي ينبغي التفكير فيها بواقعية هي أن تسأل نفسك: هل جاءتني هذه الأفكار الإلحادية بعد حادثة معينة؟ بعد أزمة نفسية؟ بعد كارثة اجتماعية/سياسية/اقتصادية؟ فإذا كان الأمر كذلك، فإنّ التفكير الواقعي الموضوعي يجعلك تحاول تسوية أوضاع نفسك المضطربة لا الهروب إلى الانعطافات الفكرية الحادّة والتي قد يكون أقصاها الإلحاد، وقد تحدث بدرجات أقل كالتخفف من التكاليف أو إدمان السجائر أو المخدّرات أو الخمر أو الانحراف الأخلاقي وغيرها من ردود الأفعال. ليس خيارًا عقلانيّا أن تستسلم لطائف الأفكار الذي يُطالعك وأنت جريح النفس وجيب الفؤاد!

(المصدر: مدونات الجزيرة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى