مقالاتمقالات مختارة

لماذا هذا الهجوم المتزايد على صحيح الإمام البخاري؟ (3-4)

لماذا هذا الهجوم المتزايد على صحيح الإمام البخاري؟ (3-4)

بقلم د. محمد عياش الكبيسي

المسألة ليست مسألة تقديس للبخاري، ولو كانت المسألة كذلك لاتجه الناس إلى موطّأ الإمام مالك إمام دار الهجرة، أو مسند ابن حنبل إمام أهل السنّة، بل لقدّسوا مرويّات البخاري نفسه في كتبه الأخرى، فالمسألة عند العارفين مسألة علمية منهجية، لا علاقة لها بالأشخاص مهما علا كعبهم، وعظمت منزلتهم.

إننا هنا ربما نكون بحاجة إلى أن نبسّط الأمر لغير المختصين، فنقول: إن البخاري لا يختلف أبداً عن هؤلاء الأعلام، وربما فيهم من تفوّق عليه في أكثر من مجال حتى في علوم السنّة نفسها، لكن منهجية البخاري في كتابه هذا هي التي ميّزت الكتاب، فالعلماء لهم مناهج مختلفة في تدوين السنّة، منهم من يجمع مرويّات كل صحابيّ على حدة، ومنهم من يجمعها بحسب الموضوعات، ومنهم من يجمع الأحاديث ولا يحكم عليها، ومنهم من يجمعها ويحكم عليها في مواضعها، كما فعل الإمام الترمذي، فهو يروي الحديث مذيّلاً بحكمه عليه، فيقول مثلاً: هذا حديث صحيح أو حسن أو غريب أو منكر، أما الإمام البخاري فقد أفرد الصحيح فقط في كتاب مستقل، وتبعه الإمام مسلم على ذلك، وهذا لا يعني أن الأحاديث الصحيحة عند البخاري أو مسلم أكثر منها عند الترمذي أو أحمد، الموضوع مختلف تماماً، كنت أشرح الأمر لطلابي بمثال تقريبي، لو قارنّا بين مجموعتين في مقرر واحد لأستاذين مختلفين، لكن الأستاذ الأول جاء بمجموعته كلها، والثاني جاء بالمتميزين فقط، فكيف سيكون حكمنا على المجموعتين وعلى الأستاذين؟
إن البخاري نفسه قد بنى كتابه الآخر في الحديث «الأدب المفرد» بمنهجية مختلفة ضمّت الصحيح وغيره، وهو كتاب عظيم الفائدة، لكن العلماء لم يرفعوه إلى مستوى كتابه الأول، بل فضّلوا عليه كثيراً من كتب السنّة، وهذا دليل واضح على أن المسألة لا علاقة لها بتعظيم الأشخاص أو تقديسهم.
وهنا لا بد من الإجابة عن سؤال قد يرد في هذا المجال: لماذا لم يأخذ بقية المحدثين بمنهجية البخاري ما دامت هي الأعلى والأفضل؟ ولماذا لم يلتزم البخاري نفسه بمنهجيته هذه في كتبه الأخرى؟ ولاختصار الجواب نقول، لو اقتصر المحدّثون على هذه المنهجية لفات الأمة خير كثير، فالأحاديث التي هي دون الصحيح لا تعني أنها باطلة أو مكذوبة، وقد يرتقي كثير منها إلى درجة الصحيح باعتضادها ببعضها، ثم إن شروط البخاري في الصحيح متشددة جداً حتى في مستوى الأحاديث الصحيحة، والعلماء قد يرون التشدد والاحتياط في أحاديث العقائد والأحكام المتعلقة بالحقوق والدماء والأموال، لكن هذا التشدد لا نحتاجه في الفضائل والنوافل، خاصة إذا كان لها أصل في الشرع ومتوافقة مع قيمه ومبادئه.

أما انتقادات الإمام الدارقطني لصحيح البخاري، والتي يدندن حولها هؤلاء المبطلون، فيا ليتهم قد قرأوها بالفعل، ويا ليتهم قد قرأوا أيضاً مناقشة العلماء لهذه الانتقادات، خاصة مناقشات الإمام ابن حجر العسقلاني، لنتأكد أنهم جادّون في البحث عن الحق والحقيقة.
إن انتقادات الدارقطني تثبت أن شهادة العلماء لصحيح البخاري جاءت بعد نقد وتمحيص ومناقشات تخصصية معمقة، وليس عن تقديس أو انبهار، يؤكد هذا أيضاً إجلال العلماء جميعاً للدارقطني على ما جاء به من انتقادات.

(المصدر: صحيفة العرب الالكترونية)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى