بقلم د. أحمد الريسوني
زارني مؤخرا أحد الأصدقاء، بعد عودته من زيارة مطولة إلى مصر. وبحكم اختصاصه وعلاقاته، فقد التقى وتحدث مع عشرات من العلماء المصريين، الأزهريين وغير الأزهريين. وكان مما لفت انتباه صديقي وآلمه واشتكى لي منه، أن عددا غير قليل من هؤلاء العلماء مهمومون ومشغولون بدرجة كبيرة بالعلاوات والإكراميات والبعثات، ومشغولون بهاجس البحث عن فرص ومنافذ إضافية للكسب والتمول، سواء داخل البلاد أو خارجها، وخاصة في دول الخليج … وكل هذا يستدعي منهم ويُكسبهم حِذْقا وبراعة وإسرافا في التزلف والتملق والتحيل …
كان هذا الحديث العابر بيننا حافزا جديدا لي لفتح هذا الموضوع وكتابة هذا المقال عن (العلماء ومشكلة التملق والتورق)، لا سيما وأن هذا الأمر ليس خاصا بمصر وعلماء مصر، بل هكذا الحال عندنا، وهكذا الحال حيث أنا…
التملق والتورق؟
أما (التملق) فلفظ مفهوم مستعمل بين الناس. والتملق والمَـلَق بمعنى واحد. وفي (اللسان): “رجل مَلِقٌ: يعطي بلسانه ما ليس في قلبه”.
وأما التَّـوَرُّق: فهو تعبير فقهي، مأخوذ من الورِق، وهي الفضة أو النقود الفضية. ويجوز اليوم أن نقول: التورق مأخوذ من الأوراق، أي النقود الورقية، أو الأوراق النقدية.
والتورق في اصطلاح الفقهاء عبارة عن معاملة مالية يلجأ إليها بعض الناس، بغرض الحصول بواسطتها على المال، دون تعامل ربوي صريح. وصورتها: أن الإنسان يريد المال، فيشتري السلعة وهو لا يريدها، ولكنه يريد أن يبيعها من أجل أن يسدد دينا، أو يشتري أو يبني بيتا، أو يتوفر على نفقات زواج وحفل … فهو يريد مالاً وليس هناك أحد يقرضه هذا المال، فيشتري مثلا سيارة بمبلغ معين، مقسَّط على فترة زمنية محددة، ثم يبيع السيارة نقدا ويقبض ثمنها، فيحصل على المبلغ المطلوب، وبهذا يكون قد قام بعملية تورق. وغالبا ما يكون البيع بأقل من ثمن الشراء.
والمسألة فيها نقاش فقهي قديم وحديث متجدد، وخاصة بعد دخول بعض البنوك في عهد ما يسمى بـ”التورق المنظم” واعتبارها له منتجا إسلاميا…
وليس هذا هو ما أريده الآن، وإنما أريد بلفظ “التورق”، معنى بسيطا هو: السعي إلى الحصول على المال والأوراق المالية. وأعني بصفة خاصة انشغالَ العلماء وانهماكهم في تحصيل “التورق”، بهذا المعنى.
وأما الجمع بين التملق والتورق في هذا المقال، فلأنهما يقترنان ويتلازمان عند من يمارسهما من العلماء وغيرهم من المثقفين والسياسيين والإعلاميين… فالتورق يستدعي التملق، والتملق يأتي بالتورق. وقد جرت العادة عند الأمراء: من زاد في التملق فزيدوه في التورق!.
التملق بين الشعراء والعلماء
قديما كان التملق والتورق حرفةَ طائفة دنيئة من الشعراء، على اعتبار أنهم {فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ} [الشعراء/225، 226].
وقد ذكر ابن رشيق القيرواني في عمدته أن العرب كانت تستهجن التكسب بالشعر وتأنف منه، “حتى نشأ النابغة الذبياني؛ فمدح الملوك، وقبِلَ الصلة على الشعر، وخضع للنعمان بن المنذر … فسقطت منزلته، وتكسَّب مالاً جسيماً، حتى كان أكله وشربه في صِحاف الذهب والفضة وأوانيه من عطاء الملوك … وذُكر أن أبا عمرو بن العلاء سئل: لِـمَ خضع النابغة للنعمان؟ فقال: رغب في عطائه وعصافيره” – (العمدة في محاسن الشعر وآدابه – ج 1 /ص 22 ⁄23).
ثم ما لبث هذا السلوك أن انتقل إلى بعض المتفقهة، وبعض العلماء المرتزقة، ممن ضعفت نفوسهم وانحطت ِهمَمُهم، فأصبح التورقُ غايتَهم والتملقُ مطيتَهم. وقد نقل البيهقي في (شعب الإيمان4/224)، عن الإمام الجليل أبي عبد الله الحليمي رحمه لله قوله: “والملَق من أفعال أهل الذلة والضَّعة، ومما يزري بفاعله ويدل على سقاطته وقلته مقدار نفسه عنده. وليس لأحد أن يهين نفسه، كما ليس لغيره أن يهينه”.
تبعات التملق والتورق
التملق والتورق ليسا مجرد آفة خلقية تقود صاحبها إلى الذلة والضعة وهوان النفس، بل إن التمسك بهذه الآفة والاسترسالَ فيها، وتعددَ الماشين عليها، يصبح خطرا على الدين وضررا على المسلمين. فإن هذا الطريق يؤدي بأصحابه إلى السكوت عن كثير من أحكام الدين، وإلى التوقف عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، عملا بالقاعدة العرفية “إذا كان الكلام من فضة فالسكوت من ذهب”، وهي خلافُ القاعدة الشرعية “الساكت عن الحق شيطان أخرس”.
والأدهى من هذا هو أن يصل بعض “علماء التملق والتورق” إلى حد تحريف الدين وتأويله وتطويعه، لإرضاء ذوي المال والسلطان ونيل عطاياهم. وفي هؤلاء قال الشاعر:
قل للأمير نصيحةً *** لا تَركننَّ إلى فقيهْ
إن الفقيه إذا أتى *** أبوابكم لا خير فيهْ
وقال أبو الفرج ابن الجوزي: “ومن تلبيس إبليس على الفقهاء مخالطتهم الأمراءَ والسلاطين، ومداهنتهم، وتركُ الإنكار عليهم مع القدرة على ذلك. وربما رخصوا لهم فيما لا رخصة لهم فيه، لينالوا من دنياهم عرضا، فيقع بذلك الفساد لثلاثة أوجه:
الأول الأمير، يقول: لولا أني على صواب لأنكر على الفقيه، وكيف لا أكون مصيبا وهو يأكل من مالي.
والثاني العامي، فإنه يقول: لا بأس بهذا الأمير ولا بماله ولا بأفعاله، فإن فلانا الفقيه لا يبرح عنده.
والثالث الفقيه، فإنه يفسد دينه بذلك” – (تلبيس إبليس — ص 148).
ومن النماذج التي سمعت عنها: أن أحد الأساتذة الأزهريين جاء مُعارا بجامعة أم القرى بمكة المكرمة، فغير عددا من آرائه الدينية، وأصبح يتبنى آراء جديدة كان ينتقدها من قبل. فقال له أحد زملائه: يا فلان، ألم تكن تعتبر هذا القول ضعيفا لا حجة له، فكيف صرت الآن تقول به وتدافع عنه؟! فقال: نعم هو قول ضعيف، لكن قواه الريال.
ومن الأضرار الناجمة عن آفة التورق والجريِ وراءها، أن بعض هؤلاء العلماء المتورقة يلِجُون كل باب يفضي إلى التورق والزيادة منه؛ فتتعدد وظائفهم والتزاماتهم وتتراكم، حتى لا يستطيعون القيام بأي واحدة منها على ما يرام. فتجد أحدهم موظفا عموميا، ثم هو خطيب جمعة، وواعظ محلي ودولي، وعضو ومستشار هنا وهناك وهنالك… ثم هو يبحث ويقول هل من مزيد …؟!
لو كان هذا السعي الدؤوب لله وفي سبيل الله، وخدمة للإسلام والمسلمين، ولو كان هذا أو بعضه يأخذ حقه من الإتقان والوفاء بشروطه ومستلزماته، لكان شيئا جليلا وعظيما…
بعض هؤلاء السادة إذا دُعوا إلى عمل في سبيل الله، ليس فيه إلا ثواب الله، جاؤوك بأعذار ثقيلة وأَيمان مغلظة … ولكن إذا دعوا إلى عمل جديد مُدِرٍّ للتورق رحبوا وتحفزوا وتسارعوا … فهم يغيبون حيث غاب المال، ويقبلون إذا لاح. فهم على خلاف الوصف الذي أطلقه النبي صلى الله عليه وسلم حين قال للأنصار رضي الله عنهم: “إنكم لَـتَـقِلُّون عند الطمع وتكثرون عند الفزع”.
ومن طرائف المتورقة أن إحدى المجلات العلمية أرسلت إلي بحثا للتحكيم، فلما قرأته فوجئت في آخره بفقرة تقول: “وقد كان أسلافكم يا مولاي …”، فضحكت وطويت الموضوع، بعد أن فهمت وتذكرت أن هذا البحث كان قد تم إلقاؤه ضمن الدروس الحسنية الرمضانية بالمغرب، وقد نال به صاحبه ما نال من وزارة الأوقاف، ثم أرسله للنشر لينال به مرة أخرى، ولكنه — لتعجله — غفل عن هذه الفقرة فبقيت كما كانت.!! وقد اتصلت برئيس تحرير المجلة، واعتذرت له عن القيام بالتحكيم، لأني قد عرفت صاحب البحث وقصة البحث، فلم أعد صالحا للتحكيم في هذه الحالة. ثم رأيت البحث منشورا فيما بعد.
واتصل بي يوما أحد الموظفين بمجمع الفقه الإسلامي الدولي بجدة، يسألني: الدكتور فلان الفلاني هل تعرفه؟ قلت نعم أعرفه، لكن عن بعد. قال: نحن نبحث عن رقم هاتفه لدعوته للمشاركة في دورة المجمع القادمة… فهل عندك رقم هاتفه أو تساعدنا للحصول عليه؟ قلت نعم أحاول. وفعلا حصلت لهم على رقم هاتفه من عند أحد زملائه … وبعد أيام قليلة اتصل بي الموظف يخبرني — وهو مسرور– أنهم قد اتصلوا بالدكتور الذي أتيتهم برقم هاتفه، وأنه قد أرسل إليهم بحثه بالإيميل، وهو — ما شاء الله — في مائة وعشرين صفحة …!!
نعم لقد وصل البحث قبل أن يتوصل صاحبه بالدعوة التي أرسلت إليه! ولم يكلف نفسه حتى القيام باختصار بحثه وملاءمته … إنها بضاعة جاهزة للبيع أو للإيجار لكل من يدفع.
وإذا كان أصحاب هذا السلوك مؤاخذين عليه وعلى نتائجه بدون شك، فإن الوزر الأكبر يقع على الحكام الذين يعتمدون سياسة التطميع والتطويع وشراء الذمم والألسنة في كل المجالات.
وها نحن نرى اليوم حتى التصوف، الذي كان دائما عنوان الزهد والتقشف والتقلل من الدنيا والتجافي عنها، قد أصبح يكلف الدولة ميزانيات كبيرة وأغلفة مالية كثيرة، تنفق وتوزع هنا وهناك، داخل البلد وخارجه، فأصبح التصوف أيضا منتجا للتملق مدرًّا للتورق. لقد كان السادة الصوفية منذ القديم يتَسَمَّون باسم “الفقراء”، لكنهم اليوم مدعوون لإعادة النظر في هذا الاسم، والاختيار بين تثبيته حقيقة، برفض مسار التورق والتكسب الذي أدخلوا فيه، وإما باختيار اسم جديد غير اسم الصوفية، وتبني وصفٍ جديد غيرِ وصف الفقراء؛ فالتصوف والتورق لا ينسجمان.
وكذلك النزاهة العلمية والتورق، لا يجتمعان…
المصدر: موقع الريسوني.