مقالاتمقالات مختارة

وصايا النبي صلى الله عليه وسلم الضائعة

وصايا النبي صلى الله عليه وسلم الضائعة

بقلم د. سيرين الصعيدي

المتدبر لسيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم والقارئ لها ببصيرته ويقظة قلبه يشعر بجلال قدره صلى الله عليه وسلم، ويلمس الرحمة المتفجرة من قلبه بأمته كما الينبوع يفيض ماء، فيعيد الحياة في عروق طال عليها الظمأ والذبول، فإن كان الماء قوام حياة الأبدان فإنّ ما جاء به المبعوث رحمة للعالمين فيه معاني الحياة الحقيقية للأرواح والأبدان على حد سواء .

وكثيرة هي الدلالات والدروس والعبر التي من الممكن أن يقف عليها القارئ بوعي لسيرة الرسول الكريم وإن خلت في الزمان إلا أنها حاضرة ماثلة أمامنا، وكأن شذراتها استبقت الزمان والمكان، فتلقي بظلال أهميتها على الجليل من الأمور؛ ليشدد النبي صلى الله عليه وسلم في وصية المسلم في أمور إن ضيّعها يكون قد أضاع نفسه، ومما قد يستوقف المتأمل في سيرة المصطفى مشهدان قد جمعا فضل الزمان والمكان وهما:

المشهد الأول- حجة الوداع:

وقد وقف في عرفات خطيباً في تلك الجموع الحاضرة وكأنه صلى الله عليه وسلم يخاطب كل الأجيال اللاحقة من أمته التي ما زالت تشهد له بتبليغ الرسالة، ومن البنود المهمة التي تناولها في آخر خطبة له وفي حجته الأخيرة “وصيته بالنساء خيراً” فعن سليمان بن عمرو بن الأحوص قال: حدثني أبي أنه شهد حجة الوداع مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحمد الله وأثنى عليه وذكر ووعظ ثم قال: (استوصوا بالنساء خيرا) (رواه ابن ماجه)، ولا عجب بذلك وهو الذي شهد الظلم الذي كان يحيق بالمرأة في أزمان الجاهلية، بل كان الإسلام أول محرر للمرأة على وجه الحقيقة عندما كفل لها أول حق لها في الحياة، قال تعالى: {وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ(8) بِأَيِّ ذَنبٍ قُتِلَتْ(9)} [سورة التكوير]، ثم تكفل لها بباقي الحقوق كإنسانة لها من الحقوق وعليها من الواجبات، مثلها مثل الرجل، ولا عجب من ذلك والله جل شأنه يقول: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ} [سورة النساء، آية:1] ويقرر صلى الله عليه وسلم: (إنما النساء شقائق الرجال) (رواه أبو داود)، ولعله صلى الله عليه وسلم يحذر من مغبة الظلم الذي سيطالها، وإهمالها، واستباحة حرماتها عندما تنتكس الأمة في فطرتها، وتغشاها الجاهلية بحلتها الجديدة.

الإسلام أول محرر للمرأة على وجه الحقيقة عندما كفل لها أول حق لها في الحياة

المشهد الثاني- آخر دقائق من رحلة حياته، فقد كان آخر كلامه قبل أن يلحق بالرفيق الأعلى ما رواه علي رضي الله عنه قال: “كان آخر كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلاة الصلاة” (رواه أبو داود)، بل إنه صلى الله عليه وسلم تجاوز آلامه؛ لينهض من فراش مرضه، وينظر للناس وقد اصطفوا لصلاة الفجر يوم الاثنين، وأشار لأبي بكر الصديق بيده أن أتموا صلاتكم، وكأنه صلى الله عليه وسلم أراد بذلك أن يطمئن في آخر نظرة إلى أصحابه إلى الحق الذي تركهم عليه، والهداية التي أرشدهم إليها، ولا سيما أنهم من بعده دعاة وحملة هذا الدين للأجيال المتعاقبة من بعده.

والمتفكر في وصيتيه (الصلاة والنساء) في آخر عهده من الحياة سيجد حتماً أنّ ذلك ينطوي على الحِكَم ما لا يخفى على عاقل، فليس عبثاً أن تكون الصلاة والنساء في صميم وصيته وبؤرة اهتمامه.

فالصلاة ركن أساس في هذا الدين الحنيف، وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (رأس هذا الأمر الإسلام، ومن أسلم سلم، وعموده الصلاة، وذروة سنامه الجهاد) (رواه الطبراني)، ولا يخفى على مسلم أهمية الصلاة ومكانتها، فهي الصلة بين العبد وربه، والتي إذا أقامها وأحسن قيامها كانت الحصن المنيع الذي تتكسر على عتباته سهام الفاحشة والمنكر، لقوله تعالى: {اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ} [سورة العنكبوت، آية:45].

وفي الصلاة يقف الناس سواسية بين يدي سيدهم ومولاهم، تخر جباههم طواعية بذل وانكسار بين يدي من بيده ملكوت السماوات والأرض، لا فرق بين غني وفقير، وصغير وكبير، وسيد وعبد، ففي الصلاة تتحقق معاني العبودية في النفس الإنسانية التي طالما غرّتها قوتها، وتتأدب بين يدي فاطرها، وتتطهر من أدران تثاقلها وجنوحها للطين الذي منه خُلقت.

فلا عجب أن تكون هي آخر وصية من النبي الرحيم لأمته وآخر عهده بها، وليتأمل كل مسلم فينا هل صان هذه الوصية؟ هل حافظ على هذا العهد الذي بلغنا عبر كل هذه الأجيال؟! أم ترانا نستحضر البسمة الشريفة على محياه صلى الله عليه وسلم ونحن نحسن وقوفنا بين يدي ربنا خمسة أوقات في اليوم والليلة؟! أم ترانا شملنا قوله تعالى: {فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا} [سورة مريم، آية:59]؟!

أما الوصية في النساء -وذلك لما يدركه صلى الله عليه وسلم من دور للمرأة ولما تمثله من أهمية في المجتمع، ولما لها من مكانة بالغة الأهمية- فهي ثغر من ثغور هذه الأمة إن تركت بلا تعهد وعناية ضلت وأضلت، واخترقت الأمة من مأمنها، فهي إن كانت نصف المجتمع فلا شك أنّ لها حظاً وافراً وكبيراً في تربية وتنشئة النصف الآخر.

المرأة ثغر من ثغور هذه الأمة إن تركت بلا تعهد وعناية ضلت وأضلت، واخترقت الأمة من مأمنها، فهي إن كانت نصف المجتمع فلا شك أنّ لها حظاً وافراً وكبيراً في تربية وتنشئة النصف الآخر

ويجيب واقع حالنا عن صميم السؤال: هل أدينا حق وصية المصطفى وقمنا بواجبها خير قيام؟! نعم فواقعنا خير شاهد على تفريطنا بوصية نبينا، شهدنا له بتبليغ الأمانة وما قمنا بالشطر المتوقف علينا فيها، فإن قال قائل: وهل انتشار المساجد وتزايد أعداد المرتادين لها من مصلين بين ساجد وراكع إلا دلالة على حفظ العهد والوصية؟! لكنّ واقع الحال أننا نؤديها حركات خالية من معانيها ومضامينها، وإلا ما التفسير لانتشار هذه الفوضى في حياتنا، وكل هذا النكوص والتقهقر إلى ذيل الأمم والهَوي من انحطاط لآخر أشد منه انحطاطاً.

والمتأمل حال نسائنا يدرك بأن الوصية المتعلقة فيهن ليست أفضل حالاً بسابقتها، فقد فرطنا فيها أشد تفريط، فقد تُركن فريسة سهلة لتتجاذبهن يد الغرب تارة والشرق تارة أخرى، فأول من ضيع الوصية النساء أنفسهن، إذ جعلن من أفكارهن وأجسادهن سلعة تباع وتُشرى؛ ليتبع في تفريطهن بهذه الوصية من يقال عنهم القوامون، فماعرفوا القوامة إلا فيما لهم من حقوق وتجاهلوا فيما يترتب عليهم بها من واجبات.

فإذا ذكرت القوامة ارتبط في أذهان الكثير منا الصراخ والشتائم، حتى إذا تعلق الأمر بالقيام بواجباتهم من تعليم وتأديب لنسائهم وتنشئتهن على أمر الله ورسوله ثقبوا أذنيك بصيحات حقوق المرأة، وصدّعوا رأسك بالمساواة والحريات، وهم يعلمون يقيناً بأنها كلمات حق أريد بها باطل، فما استُبيحت بلادنا إلا بعد أن استباحوا نساءنا، وما جثم على ربوع أوطاننا الذل والهوان إلا عندما قطعنا حبل الصلة الممتد لنا من السماء بإضاعة الحقيقة المتجلية بإقامة الصلاة ، فكانت النتيجة تمزقنا في اتباع الشهوات.

(المصدر: موقع بصائر)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى