مقالاتمقالات مختارة

قصة الذبيح… وبيع الأقصى الجريح

قصة الذبيح… وبيع الأقصى الجريح

بقلم عامر الخميسي

ليس هناك مسوغ للقول أبدا أن الذبيح هو إسحاق للأدلة الظاهرة في القرآن التي تؤكد لنا أن الذبيح هو إسماعيل عليه السلام ففي سورة الصافات (فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ * فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ….) وذكر الله الذبح كله ثم قال بعد أن ذكر الذبح (…. إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاء الْمُبِينُ* وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ  قال وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيّاً مِّنَ الصَّالِحِينَ)

وقواعد القرآن تقتضي أنه لا يمكن أن يعيد الله البشارة مرة ثانية فالمُبَشر به أولا غير المُبَشر به ثانيا لأن الله قال( فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ ) ثم بعد أن أكمل قصة الذبيح قال (وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيّاً) ولا يمكن أن يكون إعادة للقضية فالواو واو عطف والعطف يقتضي المغايرة وهذا ما أكده الشنقيطي في الأضواء.

ثانيا:  أن الذبيح هو إسماعيل لأن الله قال( فَبَشَّرْنَاهَا) والمخاطب هنا سارة (بِإِسْحَاقَ وَمِن وَرَاء إِسْحَاقَ  يَعْقُوبَ)

ووجه الدلالة أنه يستحيل قطعا  أن يبتلي الله إبراهيم بذبح إسحاق وهو قد أخبره مسبقا وبشره أن من ذرية إسحاق يعقوب.

فلا يصح هنا معنى للابتلاء لأن إبراهيم  سيعرف أنه لن يموت حتى ولو ذبحه لأن الله قال  (فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِن وَرَاء إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ) ومعلوم أن إسحاق أيضا كان لا زال غلاما على رواية أهل الكتاب وناداه بالبنوة ولم يتزوج بعد

 فكيف يذبحه ويموت ولم ينجب بعد  يعقوب…؟؟.

ومن يذهب أنه إسحاق بعد هذا الدليل فقد وقع في تناقض عجيب..

ولهذا ذهب أئمة التفسير وجماهيرهم من أنه إسماعيل وهو الصحيح ولا غبار عليه وممن قال بهذا القول عبد الله بن عمر وأبو هريرة ، وأبو الطفيل عامر ابن واثلة، وهو قول سعيد بن المسيب، والشعبي، والحسن البصري، ومجاهد، والربيع بن أنس، ومحمد بن كعب القرظي، والكلبي .

وقال ابن عادل : ” وقال الإمام أحمد : الصحيح أن الذبيح هو إسماعيل وعليه جمهور العلماء من السَّلف والخلف”.

وذهب إليه من المفسرين :

ابن عطية وابن كثير والبيضاوي وأبو حيان والنسفي وأبو السعود وابن عاشور والسعدي والشنقيطي.

ثالثا: ومن الدلائل أيضا قوله تعالى : (وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ)

والنافلة هي الزيادة، أي أن إسحاق ليس هو إجابة إبراهيم على طلبه بل إسماعيل هو إجابة دعوة إبراهيم، أما إسحاق فقد كان هبة من الله زيادة على الطلب.

فإبراهيم كان قد دعا ربه أن يهبه من الصالحين ،فاستجاب له ووهب له إسماعيل فكان بكره ووحيده باتفاق أهل الإسلام وأهل الكتاب أما عند أهل الإسلام ومعلوم من الأحاديث الصحيحة أن إبراهيم ترك هاجر وابنها إسماعيل في مكة وانطلق مع سارة إلى الشام ولم تكن قد رزقت بولد..

وتقول النصوص التوراتية في هذا الشأن كما في الإصحاح السادس عشر والحادي والعشرين والثاني والعشرين:

 (فولَدت هاجر لأبرام ابنًا، ودعا أبرام اسم ابنه الذي ولَدته هاجر: “إسماعيل”،)

( كان أبرام ابن ست وثمانين سنة لمَّا ولَدت هاجر إسماعيل لأبرام).

 (وكان إبراهيم ابن مائة سنة حين ولِد له إسحاق ابنه.)

وإسماعيل معناه( إسماع: أي سمع، وإيل :معناه الله) كما في اللغة العبرية وهذا يدل أن الله استجاب لإبراهيم ووهب له إسماعيل كما في قصة الذبيح..

 ثم عندما ابتلاه الله وأمره أن يذبح إسماعيل صبر ثم شكر على الفداء فوهبه الله إسحاق  ويعقوب نافلة.

رابعا: ومن الدلائل الجلية أيضا ما وصف به إسماعيل من أنه حليم وإسحاق أنه عليم  ففي سورة الصافات في قصة الذبيح، قال تعالى‏:‏ ‏{‏‏فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ‏‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 101‏]‏، والحلم يتناسب مع التؤده والحكمة والتسليم والطاعة، بينما وصف إسحاق أنه عليم كما في سورة الذاريات ‏{‏‏فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ‏}‏‏ ‏[‏الذاريات‏:‏ 28-29‏]‏‏.

 والعلم يتناسب مع النبوة ولا يكون العلم إلا بعد التجربة والدراسة وقد بشر إبراهيم بأن إسحاق سيكون من ذريته الأنبياء ومن يتوارثون العلم.

خامسا : ومن الدلائل أيضا أن إسماعيل وصف بالصبر في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏‏وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِّنَ الصَّابِرِينَ‏}‏‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 85‏]‏، وورد  أيضا وصف الصبر في قصة الذبح  فإنه قال في الذبيح‏:‏ ‏{‏‏يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ‏}‏‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 102‏]‏، والصبر يتناسب مع قصة الذبيح وهذا مما يؤكد لنا أن الذبيح هو إسماعيل، ووصف اللّه تعالى إسماعيل أيضًا بصدق الوعد في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏‏إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ‏}‏‏ ‏[‏مريم‏:‏ 54‏]‏؛ لأنه وعد أباه من نفسه الصبر على الذبح فوفى به‏.‏

سادسا: ومما يدل على ذلك‏:‏ أن قصة الذبيح كانت بمكة، والنبي صلى الله عليه وسلم لما فتح مكة كان قرنا الكبش في الكعبة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم للسادن‏:‏ ‏”‏إني آمرك أن تخمر قرني الكبش فإنه لا ينبغي أن يكون في القبلة ما يلهي المصلي‏”‏‏‏.‏ ولهذا جعلت منى محلا للنسك من عهد إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام، وهما اللذان بنيا البيت بنص القرآن‏. ‏‏ ولم ينقل أحد أن إسحاق ذهب إلى مكة، لا من أهل الكتاب، ولا غيرهم، لكن بعض المؤمنين من أهل الكتاب يزعمون أن قصة الذبح كانت بالشام، فهذا افتراء‏.‏ فإن هذا لو كان ببعض جبال الشام لعرف ذلك الجبل، وربما جعل مَنْسَكًا كما جعل المسجد الذي بناه إبراهيم وما حوله من المشاعر‏ منسكا وهذا مجمل ما أورده  شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى.

سابعا: ومن الدلائل الظاهرة لكل  ذي عينين أن جميع شعائر الحج من طواف وسعي ورمي للجمرات وذبح ونسك متعلقة بمكة وليس بالقدس، فما المسوغ بعد هذا للِي ظواهر هذه الأدلة؟.

وقد ثبت أن قريشاً كانت تعلق قرنين على الكعبة على أنهما للكبش الذي فدي به إسماعيل فما الداعي إلى متابعة أهل الكتاب في تحريف القصة وتجريف معناها؟

ومما يؤكد لنا أن الذبيح هو إسماعيل أن  الذبائح والقرابين والهدايا والضحايا صارت سنةً في أتباعه وذريته إلى يوم القيامة كما قال الله تعالى:( إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ [آل عمران:68]  فالذين وقفوا مع الخليل هذا الموقف هم أولى الناس بإبراهيم ، وممن بعدهم (وهذا النبي) وهو رسول الله ، (والذين آمنوا): وهم المسلمون.

فإن قال قائل ربما أمر بذبح إسحاق بعد أن حصل له نسل فالرد على هذا أنه لم يكن لإسحاق ولد بالاتفاق إلا بعد شيخوخته والقرآن والكتب السابقة نصت أنه غلام وبهذا يظهر عوار قول من يقول أنه إسحاق ثم إن الشريعة من لدن آدم إلى موسى كان القربان بالولد الأول والأكبر وعلى هذا فمحال أن يكون الذبيح هو إسحاق..

ثم مادام أن الولد الأول يكون القربان وأن الولد هو إسماعيل بإجماع الكل ألا ترى أن قصة الذبح متصلة به في سياق واحد فما الداعي للتهرب من هذه النصوص؟

وبهذا نصل أنه باطل ما ذهب إليه أهل الكتاب من أن الذبيح هو إسحاق من كتبهم ونصوصهم  فقد ورد في ( سفر التكوين 22 ) النص الآتي 🙁 وَحَدَثَ بَعْدَ هذِهِ الْأُمُورِ أَنَّ اللهَ امْتَحَنَ إِبْرَاهِيمَ، فَقَالَ لَهُ: يَاإِبْرَاهِيمُ!. فَقَالَ:هأَنَذَا.  فَقَالَ:خُذِ ابْنَكَ وَحِيدَكَ، الَّذِي تُحِبُّهُ،، وَاذْهَبْ إِلَى أَرْضِ الْمُرِيَّا، وَأَصْعِدْهُ هُنَاكَ مُحْرَقَةً عَلَى أَحَدِ الْجِبَالِ الَّذِي أَقُولُ لَكَ).

وهذا نص صريح واضح في أنه إسماعيل وقد حرفه أهل الكتاب فأضافوا إسحاق بعد وحيدك وهذا لا يستقيم لأن إسماعيل ولد قبل إسحاق فافتضح أمرهم فإضافة إسحاق نص ظاهر في التحريف ؛ لأن إسحاق ليس وحيده ، وإنما وحيده إسماعيل ، وهذا يدلل بأن قصة الذبيح إسماعيل كانت قبل ولادة إسحاق.

قال المرداوي في (الإنصاف 10/ 410):

(الذَّبِيحُ إسْمَاعِيلُ عليه السَّلَامُ على أَصَحِّ الرِّوَايَتَيْنِ).وقال في (الفروع 6/ 288).

(وَهَلْ الذَّبِيحُ إسْمَاعِيلُ؟ اخْتَارَهُ ابن حَامِدٍ، وابن أبي مُوسَى، وهو أَظْهَرُ؛ قال شَيْخُنَا: وهو قَطْعِيٌّ).

وقد استوفى أدلة القول بأنه إسماعيل  العالم الكبير الفراهي في كتابه الفريد (القول الصحيح فيمن هو الذبيح) وقد استدل بأدلة كثيرة من القرآن والتوراة لتبحره في علوم أهل الكتاب والعبرانية فهي على الرغم من تحريفها لم يستطع المحرفون طمس الحقيقة، وتبعه الشنقيطي في الأضواء.

وقد أورد ابن القيم في هذا معنى لطيفا حيث ذكر أن الله تعالى لما اتخذ إبراهيم خليلا؛ والخلة تتضمن أن يكون قلبه كله متعلقا بربه ليس في شعبة لغيره، فلما سأله الولد وهبه إسماعيل فتعلق به شعبة من قلبه، فأراد خليله سبحانه أن تكون تلك الشعبة له ليست لغيره من الخلق، فامتحنه بذبح ولده، فلما أقدم على الامتثال خلصت له تلك الخلة وتمحضت لله وحده، فنسخ الأمر بالذبح لحصول المقصود وهو العزم وتوطين النفس على الامتثال.

ومن المعلوم أن هذا إنما يكون في أول الأولاد لا في آخرها، فلما حصل هذا المقصود من الولد الأول لم يحتج في الولد الآخر إلى مثله، فإنه لو زاحمت محبة الولد الآخر الخلة لأمر بذبحه كما أمر بذبح الأول، فلو كان المأمور بذبحه هو الولد الآخر لكان قد أقره في الأول على مزاحمة الخلة به مدة طويلة ثم أمره بما يزيل المزاحم بعد ذلك، وهذا خلاف مقتضى الحكمة فتأمله..ا .ه.

وقد أمر الله تعالى إبراهيم أن ينقل الجارية هاجر وابنها إسماعيل عن سارة ويسكنها في ذلك الوادي الذي ليس به زرع ولا ماء ولا أنيس لتخف الغيرة عن سارة، فكيف يأمر الله سبحانه وتعالى بعد هذا بذبح ابن سارة وإبقاء ابن ضرتها؟!

ثم إن إبراهيم عليه السلام لم يسافر بإسحاق إلى مكة أبدا، ولم يفرق بينه وبين أمه كما توافرت كل النصوص على هذا، وكيف يأمره الله تعالى أن يذهب بابن زوجته فيذبحه بموضع ضرتها في بلدها ويدع ابن ضرتها فهذا مما يزيد الغيرة ويشب النار في القلب ولا يصدق عقلا..

ومن ردها من العلماء بحجة أنه لا يوجد حديث صحيح ينص على أن الذبيح هو إسماعيل فالظاهر أنه مع علمه وجلالة قدره لم يتدبر نصوص القرآن ولم يجمع بينها وأما كون الطبري قال بهذا القول فليس الطبري بحجة ومتى ما صح الدليل وظهر الرأي فلا يجوز العدول عنه..

وقد أورد ابن جرير طرقا كثيرة يعضد بها بعضا في كونه إسماعيل منها ما رواه بسنده قال: حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال :أخبرني عمر بن قيس، عن عطاء بن أبي رباح، عن عبد الله بن عباس أنه قال: المفدي إسماعيل ، وزعمت اليهود أنه إسحاق وكذبت اليهود .

وعلماء المسلمين القدامى بحثوا هذه المسألة وجعلوا المقام مقام بحث وليس مفاضلة بين النبيين الكريمين إسماعيل وإسحاق  كما يعتقد النصارى واليهود، فإسحاق نبي كريم ولا يستغرب صبره ،لكن المسألة إنما هي بحث عن الحقيقة فحسب، فجاء اليهود وحرفوا القصة وادعوا أن معنى الذبح هو العهد الذي أعطاه الله لذريته لامتلاك الأرض المقدسة لكونهم شعب الله المختار.

*وبناء على هذا فإثارة القضية في هذا الوقت بالتحديد ونشرها على أوسع نطاق والتفاعل معها على أنه إسحاق تمييع لقضية القدس وفلسطين وبيع للأقصى الجريح وأن اليهود لهم الحق في امتلاك شعب فلسطين وأنهم شعب الله المختار وأن الله عهد إليهم بهذا خاصة مع تقارب الكثير من حكام العرب والمسلمين وفتحهم أحضانهم وبلادهم لاستقبال رؤساء الموساد ومن تلطخت أيديهم بدماء إخواننا الفلسطينيين وهو طريق بدايته التطبيع ونهايته الذلة والمهانة أفلا تعقلون؟.*

(المصدر: الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى