احذر مثلث الطغيان!
بقلم د. سيرين الصعيدي
القصص القرآنية فيها من الحكم الجليلة والمقاصد العظيمة ما يجعلك تقف على حدود القرآن، فتجد آثاره ممتدة للحاضر والمستقبل، فهو إن كان يقصّ قصص الأقوام الغابرة والقرون الماضية إلا أنه يلامس أحداث الواقع، ويحذر من تكرار الأخطاء الماضية، ويحذر من مغبّة الوقوع بها مستقبلاً إذا لم نتوخ الحذر في خطوات سيرنا في دروب الحياة، فمن سار على خطوات الفائزين فاز واستراح، ومن تتبع سبل الخاسرين خسر وخاب.
ولأنّ القرآن الكريم كلام الله الذي فطرنا، ويعلم ما فيه صلاحنا وفلاحنا، لم يترك لنا سبيلاً للخير إلا أبانه، ورغب به، ولا سبيلاً للشر إلا أفصح عنه وحذر من مغبة التعثر بعثراته والسقوط ببراثنه، حتى إذا أعدنا قراءة النص القرآني بشيء من الرويّة والتفكر والتدبر، وكأنه اليوم أنزل علينا، فنصغي له وكأنه يخاطبنا بذواتنا وأشخاصنا، فنتخذ من أنواره ومضات نور تضيء لنا الدروب، فنتجنب عثراتها وسقطاتها، وتكشف لنا عن حقائق الأشياء، فلا نغتر ونركن لأسباب واهية في حقيقتها لا تملك لنفسها استمراراً وديمومة، لكن بتعظيمنا لها وانتفاخنا بها أصبحنا بذلك كعجل بني إسرائيل خواره يصدر عن خواء.
فالأصل أن نتعامل مع هذه القصص لأخذ الدروس والعبر، فنجعل منها معايير ربانية نضبط بها بوصلتنا في سير حركتنا وسكوننا، ومن هذه القصص التي تسلّط الضوء على قضية الطغيان، قصة (فرعون وهامان وقارون) وهي قصة متجددة ما دامت السموات والأرض، فيتناول القرآن الكريم ثلاثة طواغيت بلغوا من العلو والاستكبار مما جعلهم مثلاً وعبرة لكل من سوّلت له نفسه أن يضع ولو خطوة واحدة على أي درب قد تؤدي لهذا العلو والاستكبار، فإن اشتركوا في نفس الجرم كان لا بد من اشتراكهم بعاقبة الجزاء.
ثلاثة أركان وأسباب ووسائل تؤدي للطغيان، إذا تفرّد شخص في واحدة منها فانفض كفيك منه، وقل عليه السلام، بل احرص على أن تتجنب أن تكون مسماراً يؤسس لعرشه، ولا تكتفِ بهذا القدر من المسؤولية، بل خذ الأمر على عاتقك أن تكون أول معاول الهدم تعمل في أركانه، وإذا اجتمعت في شخص فاعلم بل تيقن بأنه وباء خبيث يستشري في الأرض، لا يبقي عليها قطعة صغيرة إلا وشملها فساده وعتوه، فلوّث برها وجوّها وبحرها، ثم يجعله الله عبرة لغيره في عاقبته الوخيمة، ويذكر القرآن الكريم مثلث الطغيان في قوله تعالى: {وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ ۖ وَلَقَدْ جَاءَهُم مُّوسَىٰ بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ} [سورة العنكبوت، آية39].
تناولت هذه الآية رموز الطغيان الثلاثة، كل منهم كان ابتلاء لقومه وفساداً على أرضه، يتمثل فيهم قوله تعالى: {وَإِذَا تَوَلَّىٰ سَعَىٰ فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ ۗ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ} [سورة البقرة، آية:205]، فالطغيان القاسم والعامل المشترك -وإن تعددت أسبابه وطرقه- ومدار أي طغيان وأساسه إنما يعود لهذه الأسباب الثلاثة: (السلطان والوظيفة والمال)، وما الواقع الذي تعيشه الأمة اليوم إلا تصديقاً لهذا، وتكراراً للتاريخ وإن اختلفت الأزمان والشخصيات.
مدار أي طغيان وأساسه إنما يعود لهذه الأسباب الثلاثة: (السلطان والوظيفة والمال)، وما الواقع الذي تعيشه الأمة اليوم إلا تصديقاً لهذا، وتكراراً للتاريخ وإن اختلفت الأزمان والشخصيات
فأسباب الطغيان في قصة الرموز الثلاثة -والذي يأبى بعضهم إلا ترجمتها في سلوكه وتكراره لها في سيرته- هي:
السبب الأول: السلطان، وكان فرعون أسوأ مثل على هذا؛ إذ استخدم سلطانه في تركيع العباد واستعبادهم، بل وجعل نفسه إلهاً لهم من دون الله: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَٰهٍ غَيْرِي} [سورة القصص، آية:38] فاستخدم سلطانه بالعلو والاستكبار، فلا هداية لهم من دونه، قال تعالى: {قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَىٰ وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ} [سورة غافر، آية:29] فبدل أن يشكر النعمة يرفل فيها، وكم فرعون في زماننا! لا رأي ولا صوت فوق أو حتى يقابل صوته، آنسته نشوة الحكم وعرش السلطان أصله الطيني، وأنه لو استمر هذا العرش لغيره لما وصل إليه، فماذا كانت عاقبته بعد أن كان يخاطب قومه، قال تعالى: {وَنَادَىٰ فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَٰذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي ۖ أَفَلَا تُبْصِرُونَ} [سورة الزخرف، آية:51]؟! وماذا عساها أغنت عنه تلك الأنهار؟! فبعد أن كانت تجري تحته أجراها الله فوقه، وأين سلطانه وأركان عرشه من حاشية وجند كانوا له في الظلم عوناً؟! لقد أهلكهم الله إذ يقول عز وجل: {فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ ۖ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ} [سورة القصص، آية:40].
السبب الثاني: الوظيفة، وهذه صورة من صور الطغيان القديمة الجديدة الممتدة على طول التاريخ البشري، فكم من ظالم وطاغية طغى في الأرض وعربد وأهلك من الحرث والنسل؛ بسبب مركزه ووظيفته واتباعه لكبرائه ورؤسائه : {وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَاً} [سورة الأحزاب، آية:67]، فما أغنى عنهم رؤساؤهم شيئاً، ولا نفعتهم مناصبهم العظيمة بعد أن صاروا عظاماً، وتأمل ردّهم إذ يقول تعالى على لسانهم: {قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَىٰ بَعْدَ إِذْ جَاءَكُم ۖ بَلْ كُنتُم مُّجْرِمِينَ} [سورة سبأ، آية:32].
وصدق القائل: وسلاطينهم سل الطين عنهم والرؤوس العظام صارت عظاماً
السبب الثالث: المال، فكم من صريع صرعه وجندله بريق المال! فهذا قارون الذي قرن القرآن الكريم بينه -وهو إسرائيلي- مع فرعون وهمان -وهما مصريان-، واعتبر موسى مرسلاً للثلاثة في قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَىٰ بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُّبِينٍ (23) إِلَىٰ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ(24)} [سورة غافر]، ويبدو أن الجامع بينهم هو الطغيان والبغي والفساد والكفر والتكذيب، فالطغيان مهما اختلف لونه وجنسه ولسانه إلا أنه يتحد ويجتمع في غاية واحدة، وهي محاربة الحق في كل زمان ومكان، فما كان موقف الرموز الثلاثة من موسى ودعوته إلا أن استكبروا، فحقّ عليهم الجزاء الذي يكافئ كل منهم، لقوله تعالى: {فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنبِهِ ۖ فَمِنْهُم مَّنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُم مَّنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُم مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُم مَّنْ أَغْرَقْنَا ۚ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَٰكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [سورة العنكبوت، آية:40].
الطغيان مهما اختلف لونه وجنسه ولسانه إلا أنه يتحد ويجتمع في غاية واحدة، وهي محاربة الحق في كل زمان ومكان
أشار القرآن إلى كثرة كنوز قارون قائلاً: {وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ} [سورة القصص، آية:76] فاستكبر واستخدم المال في فتنة قومه، فلم يراعِ حق الله فيه، ولا حق العباد، ولا استمع لنصيحة الناصحين عندما شاهدوا علوه واستكباره إذ قالوا له: {إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ (76) وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ(77)} [سورة القصص]، فما كان جوابه إلا جواب مستكبر لم يشكر ولم ينسب الفضل والنعمة لمالكها ومنعمها الحقيقي وهو الله جل علاه، إذ قال: {قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَىٰ عِلْمٍ عِندِي} [سورة القصص، آية:78]، فيأتي الرد الرباني:{فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِن فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنتَصِرِينَ} [سورة القصص، آية:78].
فهذه نماذج قصها علينا الله ليس من قبيل المتعة والتسلية، وإنما لأخذ العبرة من سيرتهم، وسيرة السائرين في ركبهم، وأن العاقبة للمتقين: {وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا} [سورة الأعراف، آية:137].
فلا سلطان ولا وظيفة ولا مال دائم، الكل زائل، والوارث الحقيقي هو كما أخبرنا الله عز وجل: {إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ ۖ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [سورة الأعراف، آية:128].
(المصدر: موقع بصائر)