مقالاتمقالات مختارة

هيروغليفية الإلحاد!

هيروغليفية الإلحاد!

بقلم أمين خربوعي

الإلحاد، ذلك الصنم الأكبر الذي زخرفه المفكرون الغربيون وأرادوه ملة جديدة تتبعها البشرية جمعاء، كمعتقد جديد بأفكار قديمة عاش حقبته الذهبية منذ عصر الأنوار إلى أواخر القرن العشرين، أساسه إنكار وجود الله تعالى كفكرة أفيونيّة يجد فيها كل ساخط عزاءً متوهماً لمختلف التضاربات التي يعيشها فكراً وشعوراً، فتناسلت الأطروحات وأُلفت الكتب الداعية إليه كباطلٍ جديد يحارب كل دينٍ يقول بكونٍ مخلوق، وإله خالقٍ، مستغلاًّ بعض الحيَل العقليّة والسفسطات الذهنيّة لكي يستجلب الأتباع ويستزيد، قائلاً: هل من مزيد!

ما قد يغيب عن أذهان كثيرين، ويخفى عن فطنة عديدين، أن العقل مثلما هو أداةٌ للوصول إلى الحقّ، والتناغم الفكري، وتحقيق السعادة والرخاء البشريّ، هو أيضاً وسيلةٌ للوصول إلى الباطل، والغوص في طريق الحيرة والشكّ، بما فيه تيهٌ وشقاءٌ للبشريّة في أخطر تجليّاتها! فهو أشبه بسلاحٍ ذي حدّين، إن استعمله الفرد فيما هو مسخّرٌ له نفع وأفاد، وإن استُعمل في غيره ضرّ وأباد.

إن المذاهب الفكريّة كلها دون استثناء، تدّعي وصلاً بالعقل، وكلٌّ منها تقول بأن العقل موصلٌ لها، وطريق لاعتناقها وتنادي بالعقلانيّة (La Rationalisation) في التفكير، وتصدع الرؤوس بها! وهي في حدّ ذاتها مختلفةٌ متضاربةٌ عقائدَ ومناهجَ، والتناقض صفة لا عقليّةٌ في الأصل، فما الحاصل؟

إن للعقل آلياتٍ في الحجب والاستبعاد، والكبت والإخفاء، لا يتفطّن إليها المفكّر، ولا يلقي إليها الإنسان بالاً؛ لأنه مخادعٌ كبير ينجح في إخفاء مضمراته، التي هي في واقعها خليطٌ بين الأحكام المسبقة والأوهام اللاعقلية، والمغالطات المنطقيّ؛. فهو تسرّب اللاعقلي إلى مبادئ العقل، واختباءٌ للّاوعي داخل الوعي، فيقدّم نفسه على أساس عقلياتٍ بديهيّةٍ غير قابلةٍ للشكّ، حينها، وحينها فقط، يصبح العقل ذلك الصّنم الأكبر!

وفي ذلك يقول الفيلسوف الفرنسي إريك ديفور (Éric Dufour):

(إن العقل أقل معقولية، بمعنى أنه ليس جوهراً خالصاً، نقيّاً من شوائب اللامعقول.. وليس مفهوماً خالصا متعالياً على التجربة والحدث.. وليس مفهوماً شمولياً متطابقاً مع الواقع.. وإنما هو نوع العلاقة التي يقيمها مع لامعقوله..).

وما الإلحاد إلا مذهبٌ وقع فريسةً لهذا التجلّي الفظيع للاعقلي (L’irrationnel) في ثنايا العقلي الواضح!

هي عبادة المعقولية (le culte de la rationalité)، كما اصطلح عليها الفيلسوف الألماني فريديرك نتشه، التي وقع الغرب ضحيّتها واستولى على العقل الحداثي كنتيجة من نتائج المذاهب الفكرية، فكان السبب الرئيس لأزمة الحداثة.

حينما يكون العقل صنماً ومعبوداً من دون الله، يتم تقديسه والاطمئنان إلى خداعه ومخاتلاته، فيصبح من السهل أن تنجرف البشريّة إلى غياهب الضلال، مثلما فعل الغرب سابقاً ولا يزال!

إن مجال العقل في الحقيقة هو مجال الطبيعة فقط؛ لأن العقل في تركيبته له نزعة مادية، والمخلوق من المادة لا يمكن أن ينفذ إلى ما وراء المادة لذلك العقل مهمّته هي الانتقال من الشعور إلى المادي إلى الشعور الغائي لها، وهذا باعتراف الفلاسفة الكبار، أمثال: إيمانويل كانط، وسبينوزا، وديكارت، فلا يمكن للعقل أن يتصور غيبيات لا يفقه أساساتها ومكنوناتها، وبهذا كانت الغيبيات ليست من مجالات العقل جملة وتفصيلا؛ فوظيفة العقل الكبرى هي: البحث عن الله في الطبيعة، وليس إدراك كنه الخالق.

لكن الروّاد الملاحدة من فلاسفةٍ وغيرهم تنبّهوا إلى ضعف هاته الأساسات، وعرفوا أن الإلحاد هو يقينٌ فيما لا يقين فيه، ودوغمائية جديدة مليئةٌ بالتناقضات الفجّة والمحارات العقليّة، فنزعوا في أطروحاتهم إلى الغموض، وغلّفوها بعلوّ الأسلوب اللغوي، وابتداع اصطلاحات فلسفيّة لإدهاش الناس، مثلما فعلت قديماً الفلسفة السوفسطائية بزعامة بروتاغوراس، فأصبحت هيروغليفية جديدة لا يفقهها أكثر الناس، وحتى إن فهموا فكرةً أو فكرتين غابت عنهم بقيّة الأفكار!

لقد نحت الفلسفة الإلحادية منذ نشأتها منحى إثارة الاستشكالات في ما لا منحى لإثارته، لأنه يحلو لها أن تشكك الناس في كل شيء، وأن تثير الشبهات في كل موضوع، كما سماها نتشه (فلسفة الصباح)، وعبّر عليها دولوز: (تعقيد لما هو واضح لا إيضاح لما هو معقد).

فبعد انهيار الأيديولوجيات الفلسفية القديمة وفقدان الفلسفة أساسها لم يبق لها سوى وظيفتها النقدية ونزعتها الريبية التساؤلية، بحيث تتساءل حول كل شيء بما في ذلك التساؤل نفسه!

لكنهم في المقابل تنصلوا من تقديم بديل للناس يشفي عليلهم ويروي غليلهم، ومنهم من عبّر عنها صراحة كالفيلسوف فيرنانت: (وليس أمعن في الخطأ من مطالبة الفيلسوف بأن يقدّم إلينا عن الكينونة صورة مبسطة ساذجة، أو أن يصيغها على صورة معادلات رياضية سهلة، في حين أن الفلسفة لا تبدأ حقا إلا حينما يلتقي الإنسان باللامعقول، ويشعر بالتناقض، وحينما يشعر بالعبث، وأن الوجود يخرج عن المنطق).

تلك إذن هي الفلسفة الهيروغليفية للإلحاد اليوم، تشكك الناس في كل شيء دون تقديم بديل واضح.

نتشه وإنسان السوبرمان!

حينما أعلن نتشه (موت الإله) كتعبير مجازي لسقوط المسيحية من الفكر الغربي وقف كثيرٌ من الملاحدة عاجزين عن فهم صياغة نتشه النواحية عليه، حتى إن كثيراً من الملاحدة العرب يقفون عاجزين عن تفسير مقتطفات من كلام نتشه الغامض في هذا الصدد، حيث يقول: (لقد مات الإله، نحن من قتلناه، كيف نعزي أنفسنا بموته؟ نحن قتلة القتلة، دماؤه لا تزال في سكاكينا، من سيطهرنا من هاته الدماء؟ بأي ماء سنتطهر من هذا الذنب؟ أي لعبة مقدسة سنصنعها بعد هذا؟ عظم هذا الفعل أليست أكبر منا؟ ألسنا مجبرين على أن نكون آلهة بسيطة)؟ (عن كتاب العلم المرح لنتشه).

كثيرٌ من الناس استغربوا هذا الكلام؛ لأن نتشه يتحدث وكأنه فعلاً قام بالفعل، كنوعٍ من الهلوسة الفكريّة، وبدأ يندب حظه ويبكي حسرةً على هذا الفعل! وما هذا الغموض كله إلا لكي يؤسس لفكرة دوغمائية يزخرفها لمتتبعيه، عسى أن ترسخ الفكرة بهذا الوهم الكاذب!

بل إن نتشه جعل من الإنسان إلها والعياذ بالله، وسماه (السوبرمان)، وفي وصف هذا الإنسان ألّف أفكاراً غامضة أيضاً، يقول فيها بأن السوبرمان رجل فوق البشر، ومهمته أن يُمدّ الناس بعقائدهم!

وهنا تعمّد نتشه الغموض في هذا المصطلح؛ ليخفي حقيقة أن (السوبرمان) ما هو في الحقيقة إلا طاغوت مأخوذ من الديانة الإغريقية القديمة، التي زعمت أن هناك أنصاف آلهة جديدة ثارت على الآلهة القديمة وحلّت محلّها، إن نتشه يقول للملاحدة بشكل غامض: خذوا عني معتقداتكم بشكلٍ وثوقيّ دوغمائي!

وكانت كتب نتشه دوماً متسمة بالغموض والتضارب؛ وهذا أدى به أواخر حياته إلى أمراض نفسيّة التحق على إثرها بمصحة للأمراض العقلية، وقد دفع هذا إنريخ بوداخ بعد وفاة نتشه إلى تأليف كتاب عنونه (انهيار نتشه)، أرفق فيه آراء الأطباء النفسيين حول الفيلسوف!

ولعلّ فقدان عقله ومحنته في المستشفى نتيجة فلسفته المتضاربة خير ردّ على وهمية تأليه إنسان السوبرمان؛ فصاحب الفكرة لم يستطع عقله تحمّل مبادئها، فكيف بملحد من عامة الناس!

الشمول الهيروغليفي

لما كانت مهمة الإلحاد الهجوم على الأديان الشموليّة كان عليه أن يشغر الفراغ الذي سيشعر به أتباعه بعد تخليهم عن الدين، فخاض الملحدون مجازفة التكلّم في كل شيء، بل في أي شيء، فاقتحم رواد الإلحاد العلمي المعاصر ميدان الفلسفة والأخلاق، الفكر وعلم مقارنة الأديان، وعلم الاجتماع والنفس، وأرادوا تأسيس إلحادٍ شموليّ كان في حقيقته حاملاً جهالات، وتوهمات، وانحطاط في التصورات، والعقلاء اتفقوا في باب الاختيار على أن المختار لا يغير معتقده إلا إذا ترجح عنده فساد القديم وصلاح الجديد، بمعنى: أن المختار ما غيّر قناعاته إلا عند رجحان مذهبه الجديد وتفوقه على الأول. ولا يخفى أن المذاهب الفكرية المعاصرة يُراد لها أن تحل محل الأديان والشرائع، فلزم من ذلك تغطية الأولى كل أدوار الثانية، دوراً دوراً، ووظيفة وظيفة، فتكون وظيفة الدين في حالته الشمولية حسب علم الاجتماع ملخصة في ست وظائف كبرى:

–  الوظيفة التفسيرية: أي تفسير ظواهر الكون، والإجابة عن التساؤلات الوجودية المحيطة بالإنسان، حول حكمة الخلق، والتعريف بالخالق، ودور الإنسان في الحياة، وما بعد الموت، ودفع العدمية.

–  الوظيفة التلقينية: وهو تلقين الناس فسلفة الدين في الحياة والمجتمع وغيره.
– الوظيفة التطمينية: أي تطمين الأتباع على مصيرهم بعد الموت، ومعرفة المُنجي من المُهلك، وتحذير المخالفين.

–  الوظيفة التأديبية: وهو ما يتعلق بالأخلاق والعبادات والمعاملات.
–  الوظيفة التشريعية: سن القوانين الكفيلة بحماية حقوق الفرد والجماعة، ومعرفة الحلال والحرام.

–  الوظيفة التناغمية: تحقيق الاستقرار للفرد والجماعة، وضمان الوحدة التناغم الثقافي بين أفراد الدولة.

فباءت محاولات الملاحدة بالفشل تباعاً، ومثال ذلك الملحد داوكنز، الذي شرع الاغتصاب وبدأ يعيث فساداً في الفكر الأخلاقي، وأن الحياة على الأرض قد تكون نتيجة كائنات فضائية ذكية!

وقد كان كتابه (وهم الإله) عامراً بجهالات فلسفيّة، وقلة أدب أخلاقية، بعيدة عن الأكاديمية؛ وهذا ما جعل عدداً من المفكرين يتهمونه بالجهل والسطحيّة وسفالة الأخلاق، من أمثال سكوت هان، الذي قال: (إن الكتاب لاذع، جارح، مليء بالغضب، ولا يُصنَّف كعمل فكري موضوعي، إنك تشعر وأنت تقرؤه بأنك أمام محاولة يائسة من شخص يعصف به الضيق؛ لأنه لم يستطع التخلص من معارضيه الذين لا يزالون يملؤون الساحة، إن الكتاب يبدو كهذيان شخص ملأه الغرور والزهو بعد أن أفرط في شرب الخمر، فأخذ يبعثر سبابه الحاقد).

ولمّا حاول اقتحام ميدان الردود العقلية الفلسفية على الدين أتى بالعجائب والمنكرات؛ وهذا جعل الفيلسوف آلفن بلانتنجا يقول عنه:

(تحصل عدد من استدلالات دوكنز الفلسفية على درجة صفر إذا طُرحت في امتحانات الفلسفة في المدارس الثانوية).

إن الإلحاد سقط في فخ الشموليّة التي هي أصلاً لا تناسب بنيته التفكيريّة، فأساساته السطحية في نقد الأديان، وأساطيره التأسيسيّة لا ولن تجعل منه ذلك الفكر الذي سيحقق للإنسان ذلك التناغم الذي يصبو إليه؛ فهو عاجز عن القيام بوظائف الدين، ويغرق الناس في عدمية مادية مهلكة،ليكون توصيفه الدقيق أنه نحلة فكرية مهلهلة لا ضابط لها ولا وحدة.

إنّ الإنسان الحديث لا يريد معتقداً ضعيفاً يتكلم في كل المجالات عن جهل ودون حكمة، ولا يريد طرحاً غامضاً لا يفقه مكوناته وأفكاره؛ لأنه ذلك الكائن الذي يحدوه نزوعٌ نحو المقدَّس، ونحو عقيدة صافية لا غموض فيها ولا غبش، وتتشوَّف نفسه إلى الإله الخالق، ولا يهنأ بالُه إلا بالإجابة عن تلك الأسئلة الوجودية: (هذا اللغز الذي يستحث عقولنا: ما العالم؟ ما الإنسان؟ من أين جاءا؟ من صنعهما؟ من يدبرهما؟ ما هدفهما؟ كيف بدءا؟ كيف ينتهيان؟ ما الحياة؟ ما الموت؟ ما القانون الذي يجب أن يقود عقولنا في أثناء عبورنا في هذه الدنيا؟ أي مستقبلٍ ينتظرنا بعد هذه الحياة؟ هل يوجد شيء بعد هذه الحياة العابرة؟ وما علاقتنا بهذا الخلود؟ هذه الأسئلة لا توجد أمةٌ، ولا شعبٌ، ولا مجتمعٌ، إلا وضع لها حلولاً جيدةً أو رديئةً، مقبولةً أو سخيفةً، ثابتةً أو متحولةً).

فالنُّزوع الديني لن يكون مرحلةً عابرةً من التاريخ الإنساني، ولا مدة منقضيةً في مسيرة الإنسان الكونية، بل هو سمةٌ متأصّلة في فكر البشرية وتجربتها، في عصرٍ يفرض الإسلام فيه نفسه على كل عاقلٍ سوي، بحججه المنطقية، ومزاياه الرقراقة؛ وهذا ما يؤهّله لأن يكون دين البشرية الخاتم بامتياز.

أما الإلحادُ، فهو مجرد ردّ فعلٍ محكومٍ بأنانيّةٍ وبرودة مقيتةٍ، كما قالت الفيلسوفة مادام دي ستايل:

(الإلحاد لا يوجد إلا في البرودة، والأنانية، والوضاعة).

(المصدر: موقع المثقف الجديد)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى