الإمام الشوكاني ودعوته الإصلاحية
بقلم فاطمة حافظ
ثمة اعتقاد شائع أن الحياة الفكرية في العالم الإسلامي قد أصيبت بالتوقف والجمود منذ قرون بعيدة، وأن الإسهامات الفكرية للعلماء المسلمين قد نضبت ولم يعد أمامهم سوى اجترار مؤلفات أسلافهم بالشرح والتحشية والاختصار، غير أن هناك من الشواهد ما يؤكد تواصل العطاء الفكري الإسلامي دون انقطاع بما في ذلك الحقبة الحديثة، وفي السطور التالية أتناول سيرة أحد دعاة التجديد الإسلامي في القرن الثالث عشر الهجري وهو الإمام الشوكاني اليمني (ت: 1250ه/1834م) وأسرد بإيجاز لمعالم دعوته الإصلاحية.
حياته ومصنفاته
ولد محمد بن علي بن محمد الشوكاني في هجرة *شوكان في جنوبي شرق صنعاء عام (1173ه/1760م)، وهو ينتمي لأسرة من الأسر اليمنية العريقة، فجده الدعام بن إبراهيم كان أحد رؤساء اليمن وزعمائه في أواخر القرن الثالث الهجري، وقد ارتحل والده في شبابه إلى صنعاء طلبا للعلم ، وقرأ وتتلمذ على يد علمائها وبرع في علم الفقه والفرائض والحديث والتفسير، وفي أواخر أيام طلبه أصبح ذا مكانة علمية مرموقة فدرس وأفتى وولي القضاء في خولان ثم صنعاء.
وفي كنف ذلك الأب العالِم نشأ الشوكاني، وكانت عناية والده به كبيرة لكونه أكبر أبنائه ولم يكن له سوى ولدين، وقد حفظ القرآن وجوده على يديه ثم حفظ بعض المتون في اللغة والفقه والمنطق والحديث، ثم شرع في طلب العلم على يد شيوخ صنعاء وعلمائها كالشيخ الحسن بن اسماعيل المغربي والشيخ عبد القادر بن أحمد، ويذكر الشوكاني في ترجمته لنفسه أنه لم يكن يكتفي بطلب العلم وإنما كان يدرس بعض الكتب أثناء الطلب، وكلما فرغ من قراءة كتاب على يد أحد شيوخه قرأه على بعض التلاميذ حتى بلغت دروسه ثلاثة عشر درسا في اليوم، منها ما يأخذه عن شيوخه ومنها ما يأخذه عنه تلاميذه، ويذكر أيضا تأثره بكتابات كل من ابن حزم الاندلس وابن تيمية حتى أنه لا يعلم -كما يقول- بمن شابههما أو قاربهما.
تفرغ الشوكاني للتدريس والإفتاء والتأليف وهو في العقد الثالث من عمره، وقد مكنته أحواله المعيشية المتيسرة من الاشتغال بالعلم دون سواه فأحرز مكانة علمية رفيعة في وقت قصير، وتأهل بذلك لتولي منصب القضاء فقبله على مضض لإيثاره التدريس والتصنيف، وظل يرتقي إلى أن تولى منصب “قاضي القضاة” وهو منصب يلي الإمامة مباشرة، وفي هذه الأثناء اضطلع ببعض المهام لصالح الدولة منها تدبيج الرسائل باسم الإمام المنصور والإمام المهدي إلى الأمراء والحكام كابن سعود ومحمد علي والسلطان العثماني، كما خرج في بضع حملات عسكرية لإخماد الفتن الداخلية في اليمن.
وعلى الرغم من هذه الانشغالات كان الشوكاني غزير الإنتاج كثير التأليف لم يترك أي علم دون أن يتناوله فقد كتب في: الحديث والتفسير والفقه والأصول والتاريخ والتراجم والأدب والنثر والشعر، وعلى هذا بلغ مجموع مصنفاته (278) جلها لم يزل مخطوطا، والمطبوع منها يربو على الأربعين.
ومن أشهر مؤلفاته (فتح القدير) وهو في علم التفسير، وقد جمع خلاله بين منهجي التفسير الشائعين؛ التفسير بالرواية والتفسير بالدراية، و(نيل الأوطار من أخبار منتقي الأخبار) وهو في السنة النبوية وشرح من خلاله كتاب “منتقى الأخبار” الذي جمع السنة على أبواب الفقه، وحرص فيه على تحرير النزاع الفقهي، وجمع أقوال المذاهب المشهورة، و(إرشاد الفحول إلى علم الأصول) و(السيل الجرار المتدفق على حدائق الأزهار) وهما في علم الأصول، وقد أودعهما خلاصة منهجه في التجديد الفقهي ونبذ التقليد وضرورة الانفتاح على المذاهب الأخرى، ومن مصنفاته الذائعة (أدب الطلب ومنتهى الأدب) وهو في كيفية طلب العلم وآدابه وأصناف المتعلمين، و(البدر الساطع بمحاسن من بعد القرن السابع) وهو في التاريخ والتراجم، و(الدواء العاجل في دفع العدو الصائل) وهي رسالة شخص فيها أحوال اليمن في عصره من مختلف النواحي، وضمنها رؤاه الإصلاحية في كيفية إزالة الخلل الاجتماعي.
دعوته الإصلاحية
عاش الإمام الشوكاني في مرحلة تاريخية عصيبة كان من أهم معالمها الحملة الفرنسية على مصر، وتطرق الخلل إلى أركان الدولة العثمانية، والفتن الداخلية في اليمن، وقد صحبها أزمات دينية وفكرية كالتعصب المذهبي، وسيادة التقليد، وانتشار التصوف البدعي، وهي القضايا التي تناولها في مؤلفاته وبرز من خلالها معالم رؤيته الإصلاحية التي يمكن إجمالها في العناصر التالية:
أولا: الدعوة إلى الاجتهاد وترك التقليد: وعليها مدار مشروعه الفكري، فصداها يتردد في جميع مصنفاته حتى لا يكاد يخلو منها كتاب، وقد تناولها ضمن مؤلفاته الفقهية كالسيل الجرار وإرشاد الفحول، ولا يكتفي بذلك بل يفرد لها رسالة بعنوان (القول المفيد في أدلة الاجتهاد والتقليد)، ويتطرق إليها في تفسيره (فتح القدير) فكان لا يمر عن آية تنعي على المشركين تقليدهم آباءهم إلا ويطبقها على مقلدي أئمة المذاهب الفقهية ويرميهم بأنهم تاركون لكتاب الله وسنة نبيهم، كما عرج عليها في كتابه (أدب الطلب).
وقد أسس الشوكاني رفضه للتقليد على جملة من الأسباب بعضها ديني من قبيل مخالفة بعض الصحابة ما ذهب إليه أبو بكر وعمر في بعض المسائل، وكذا دعوة الأئمة الصريحة ألا يقلدهم أحد من دون معرفة دليلهم، وبعضها الآخر دنيوي ويتعلق بتداعيات التقليد السلبية على الوحدة الإسلامية، فقد فشت بدعة التقليد الشيطانية -كما يصفها- بين أهل الملة وسولت لهم “الاقتصار على تقليد فرد من العلماء وعدم جواز غيره، ثم توسع في ذلك فخيل لكل طائفة أن الحق ما قاله إمامها وما عداه باطل.. ثم أوقع في قلوبهم العداوة والبغضاء، حتى أنك تجد من العداوة بين أهل المذاهب المختلفة ما لم تجده بين أهل الملل الأخرى”.
ثانيا: الدعوة إلى نبذ التعصب والتوفيق بين المذاهب: كان الشوكاني داعية إلى نبذ التعصب المذهبي، وله في ذلك جهود كبيرة منها رسالته المعنونة (إرشاد الغبي إلى مذهب أهل البيت في صحب النبي) والتي رد فيها على غلاة مذهب الزيدية – الذي ينتمي إليه- الذين سبوا صحابة رسول الله، ودلل فيها بثلاثة عشر طريقة على عدم جواز ذلك، فتعصب ضده المتعصبون وبينهم بعض أساتذته، وكادوا يمنعونه عن التدريس فلم يأبه بهم وأصر على رأيه، ومنها مخالفته للمذهب الزيدي في بعض مسائل من مثل: وجوب غسل الرجلين، وبطلان صيغة الآذان “حي على خير العمل”، ومنها كذلك الانفتاح على التراث الفقهي السني وآراء المذاهب وأدلتها “ومؤلفات أهل الإنصاف الذين لا يتعصبون لمذهب ولا يقصدون إلا تقرير الحق”.
ثالثا: الإصلاح التربوي: لاقت الدعوة إلى التربية اهتماما كبيرا من قبل الشوكاني، وقد تحدث عنها بصورة إجمالية في عدد من مؤلفاته، لكنه أفرد كتاب (أدب الطلب) لمناقشتها تفصيلا، وقد انفرد الشوكاني عن غيره من المصنفين في مجال التربية في مسألتين:
– المسألة الأولى، تصنيفه الرباعي لأرباب العلم وأولها طبقة العلماء والمجتهدون في علوم الشريعة وثانيها طبقة أهل التخصص الذين يرومون معرفة أحكام التكليف على وجه الاستقلال، وثالثها طبقة غير المختصين الذين يريدون إصلاح ألسنتهم وتقويم أفهامهم لفهم معاني الشرع، ورابعهم طبقة المختصين بعلوم أخرى كالحساب والطب والزراعة وما إلى ذلك، وهذه الطبقة الأخيرة لم يسبق لأحدهم التطرق إليها من قبل على نحو ما فعل الشوكاني الذي تحدث عنها، وصاغ لها المنهج الدراسي الملائم لها.
-والمسألة الثانية، انفتاحه على العلوم من خارج الدائرة الشرعية، فهو يقول ” لا بأس على من رسخ قدمه في العلوم الشرعية أن يأخذ بطرف من فنون هي من أعظم ما يصقل الأفكار ويصفي القرائح، ويزيد القلب سرورا وانشراحا، كالعلم الرياضي والطبيعي والهندسة والهيئة والطب.. وبالجملة فالعلم بكل فن خير من الجهل به ولا سيما من رشح نفسه للطبقة العلية والمنزلة الرفيعة”، ولما كان هو من أهل هذه الطبقة فقد حقق لنفسه ما أراد من الانفتاح على العلوم المختلفة ولم يقصر جهده على العلوم الشرعية كما صرح في كتابه (أدب الطلب).
* الهجرة مصطلح يمني، يعني المركز الذي يتوفر عليه بعض الفقهاء والعلماء للعلم والتعليم.
(المصدر: إسلام أونلاين)