مقالاتمقالات مختارة

مدخلٌ إلى فَهم أنواعِ إلحادِ مَا بعدَ الثَّورات

مدخلٌ إلى فَهم أنواعِ إلحادِ مَا بعدَ الثَّورات

بقلم الشيخ محمد خير موسى

ما زلتُ مؤمنًا بأنَّ تحرير المفاهيم وتفكيكَ أيّة ظاهرة هو نصفُ فهمها، وهو السبيل الرئيس للولوجِ إلى أسبابها وصولًا إلى علاجها.
فتجليةُ المفهوم وبيان أنواعه يعطي المرء المهتمّ قدرةً على الجمعِ بين المتشابه وإن اختلفت صورته الظّاهرة، والتّفريقِ بين المختلفِ وإن تشابهت صورته المعلنة.
ولهذا فلستُ معنيًّا في هذه المقالة الموجزة بتفصيل القول في أسباب الإلحاد أو علاجه، فهذا التفصيل يحتاج إلى مقالاتٍ تاليةٍ بإذن الله تعالى.
ولا بدّ أن أؤكّد أنّني سأقصر القول على مفهوم الإلحاد وأنواعه التي تمايزت بشكلٍ واضحٍ أكثر من أيّ وقتٍ مضى منذ بدء المواجهة الشّرسة مع أنظمة الاستبداد وانطلاق الرّبيع العربي، وهذا لا ينفي بحالٍ وجود الظّاهرة أو أنواعها قبل ذلك بكثير.
•  مفهوم الإلحاد
الإلحادُ في لغةِ العربِ هوَ الميلُ والانحراف، وهذا ما بيّنه ابن فارس حيثُ يقول: “اللّام والحاء والدّال أصلٌ يدلّ على ميلٍ عن استقامة، يقال: ألحدَ الرّجل إذ مال عن طريقة الحقّ والإيمان، وسمّي اللّحد لأنه مائلٌ في أحد جانبي الجدث، يقال: لحدتُ الميت وألحدت، والملتحد: الملجأ، سمّي بذلك لأن اللاجئ يميل إليه”
والإلحادُ بهذا المعنى الذي هو الميلُ عن الحقّ إلى الباطلِ والضّلال هو المعنى الذي تدلّ عليه النّصوص القرآنيّة.
وهوَ تمامًا غير المعنى الذي ينصرفُ إليه اللّفظُ عند إطلاقه اليوم فعلينا عند الحديث عن الإلحاد التّعامل مع المعنى الذي يدلّ عليه اللّفظ في واقع اليوم لا في لغة العرب.
وعندما يطلقُ الإلحاد اليوم فإنّه يُرادُ به: “إنكارُ وجود الله تعالى أو إنكارُ صفةٍ أو أكثر من صفاته”
وبناءً على هذا التّعريف فإنّه يمكننا أن نقسم الإلحاد الذي يعيشُه الشّباب اليوم إلى قسمين رئيسيين هما:
الإلحاد المطلق: وهو إنكارُ وجود الله تعالى؛ وهنا أودّ الإشارة إلى أنّنا عند مجالسةِ أحدٍ ممن يحمل هذا النّوع من الإلحاد علينا أن نستكشف ما إذا كان ينفي وجود الله تعالى أو لا يعتقدُ وجود الله تعالى.
صحيحٌ أنّه لا فرقَ بين الحالتين من حيث النّتيجة ولكن الفرق بينهما من حيث القوّة والضّعف، فالذي ينفي وجود الله تعالى يتلبّسُ بإلحادٍ أقوى درجةً ممن لا يعتقدُ وجود الله تعالى، وهذا مهمٌّ في بناء مرتكزات الحوار مع كلّ نوع.
القسم الثّاني هو الإلحاد الجزئي: وهو الاعتقاد بوجود الله تعالى مع إنكار صفةٍ أو أكثر من صفاتِه، بحيث يعتقدُ الملحدُ من هذا الصّنف بوجود الله تعالى لكنّه ينكرُ صفةً من صفاتِه كالعدل مثلًا أو القدرة، فهناكَ من الشّباب من يقول: الله تعالى موجود لكنّه غير عادل، أو هو موجود لكنّه غير قادر، ويدلّل على قوله هذا بأمثلة الواقع من انتشار الظّلم أو تجبّر الطّغاة أو الفروقات بين الجنسين.
ومشكلةُ هذا الإلحاد أنّه إلحاد صامتٌ في غالبِه، يتصارع داخل نفوس الكثيرين ولا يظهر للعلن إلّا يسيرًا بسبب ظروفٍ اجتماعيّة بالغة التّعقيد في كثيرٍ من الأحيان.
•  أنواع الإلحاد
بعد تحريرِ مفهوم الإلحاد لا بدّ من فهم أنواع الإلحاد ليمكننا التّعامل معها، وقد ظهرت تقسيماتٌ عديدٌ لأنواع الإلحاد، غير أنّني أرى أنّ أنواع الإلحاد ليست شيئًا ثابتًا فهي تختلفُ باختلافِ البيئاتِ والأزمنة، ولهذا فإنّني أقسّم الإلحاد إلى ثلاثةِ أنواع:

 •  النّوع الأوّل: إلحاد الأيديولوجيا
وهذا الإلحاد قوامُه “الفكرة”، ويمكننا تسميتُه إلحاد الفكرة، وهو في الحقيقة أقلّ أنواع الإلحاد انتشارًا بين الشّباب في مرحلة ما بعدَ الثّورات.
وقد كان هذا الإلحاد أكثر حضورًا في عموم القرن الماضي لا سيما في مرحلة تمدّد الشّيوعيّة والقوميّة والحرب الباردة.
وهذا الإلحاد قائم على القناعة الفكريّة ابتداءً، والموقف السّلبي من فكرة الإله والدّين التي تمّ التّأصيلُ لها على أنّها أفيون الشّعوب وسبب تخديرِها وخضوعها واستعبادها، وأنَّ الذين يواجهون الغطرسة الأمريكيّة والصّهيونيّة والإمبرياليّة هم الذين خلعوا عنهم هذه المعتقدات كلّها.
•  النّوع الثّاني: إلحادُ التّرف
وهذا الإلحاد قوامُه “البحثُ عن اللّذة” وهو منتشرُ في البيئات المترفة، ووسط الشّباب الذي غرق في ثقافة الاستهلاك حتّى أذنيه ولم يعش شيئًا من آلام الواقع وصدماته العنيفة.
وهذا النّوع من الإلحاد قائم على القناعة بأنّ الدّين غدا يشكّل حائلًا بين المرء وتحصيل لذّاته النّفسيّة والجسديّة فينزعون لكسر القيد الذي هو الدّين من خلال إنكاره.
•  النّوع الثّالث: إلحادُ الأزمة
وهذا النّوع من الإلحاد قوامُه “ردّة الفعل” فهو إلحادُ ردّة فعل على أزماتٍ صاعقةٍ غير مسبوقة وخيبات أمل عميقة عصفت بالشّباب على المستوى الشّخصي والجمعي بعد الثّورات.
وهذا النّوع من الإلحاد هو الأكثر انتشارًا وظهورًا بين شباب بلاد الأزمات العاصفة التي تعرّضت -وما تزال- للاحتراق بنيران المستبدّين ومن ساندهم من رعاة الثّورات المضادّة.
فالمجازر والاعتقال والمطاردة والتّهجير والتّدمير وفقدان كلّ شيء فجّر في الشّباب أسئلةً كبيرةً متعلّقةً بأصل الإيمان بالله تعالى.
ومن طبائع الأزمات المزلزلة أنّها تفجّرُ في الإنسان الأسئلة العميقة وأسئلة القلق والجدوى؛ وقد بيّن الله تعالى في القرآن الكريم صورًا من تفجُّرها، ومن ذلك قوله تعالى: ” أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّىٰ يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَىٰ نَصْرُ اللَّهِ ۗ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ” البقرة:214
فإذا كان الرّسول صلّى الله عليه وسلّم ومن معه من الصّحابة الكرام قد سألوا حين مسّتهم البأساء والضّراء متى نصر الله؟ فليسَ شيئًا مستغربًا إذن على الإطلاق من الشّباب الذين عصفت بهم الأزمات وطوّحت بهم النّكبات أن يسألوا أين الله؟!
ليسَ غريبًا أن يشعر الشّباب الذي ذاق في السّنوات الماضية ما تشيبُ له الولدان أن يشعر باللّاجدوى والعدميّة ليصلَ إلى الإلحاد تعبيرًا عن الرّفض وشعورًا منه بتخلّي الجميع ـ حتّى الإله ـ عنه.
وقولُنا “ليسَ غريبًا” ليسَ فيه تبريرٌ للفعلِ أو استساغةٌ له بل هو محاولةٌ لفهم ما يجري ومن ثمّ مواجهة أنفسنا بمسؤولياتها بدلًا من الهروب من المسؤوليّة بإنكار وجود الظّاهرة أو الاستعلاء عليها.

 •  تعليقان ضروريَّان على الأنواع الثّلاثة
التّعليق الأوّل: من الأهميّة بمكان أن نعلم إذن أنّ أنواع الإلحاد تتنوّع بين الحالة الفكريّة والحالة النّفسيّة، وكون إلحاد التّرف واللّذة وإلحاد الأزمة وردّة الفعل هما حالة نفسيّة ابتداءً فذلك لا يبيحُ لأحدٍ تسفيه هذه الأنواع ووصفها بالأمراض النّفسيّة ووصف أصحابها بالمرضى النّفسيّين، ووجود الحالة النّفسيّة الدّافعة لهذا النّوع من الإلحاد أو ذلك لا يعني بالضّرورة وجود مرض نفسيّ، كما أنّ وجود الإيمان لا ينفي وجود المرض النّفسيّ بالضّرورة أيضًا.
التّعليق الثّاني: فيما يتعلّق بإلحاد التّرف وإلحاد الأزمة فهما يبدآن حالةً نفسيّة لكنّهما ينتهيان حالةً فكريّةً عند عدم احتوائهما.
فإنّ من تكون عنده ردّة فعل حادّة رافضة توصله إلى إنكارِ وجود الله تعالى؛ فإنّه سرعان ما يعمل على إلباس ردّة فعله هذه ثوب الفكرة، فيبحثُ في عالم الأفكار عمّا يؤيّد موقفه ويعضده، فهو إلحادٌ نفسيّ ابتداءً وفكريّ انتهاء.
•  أين تكمن الكارثة؟!
تكمن الكارثةُ حقيقةً في طبيعة التّعامل مع أنواع الإلحاد وذلك من عدّة جهات أهمّها:
الكارثة الأولى: دواءٌ واحدٌ للأمراض كلّها
وتكمن هذه الكارثة في التّعامل مع أنواع الإلحاد الثّلاثة بالطّريقة ذاتها، فيكون الحال كما لو أنّ طبيبًا أعطى مرضاه جميعًا العلاج نفسه، فلا هو أحسن التّصرّف ولا المريض شفي.
لذلك تكمن أهميّة تفكيك أنواع الإلحاد في فهم آليّات التّعامل والعلاج مع كلّ نوع، فمنهم من يحتاجُ تعاملًا فكريًّا مع جرعات نفسيّة ومنهم من يحتاجُ تعاملًا نفسيًّا مع جرعاتٍ فكريّة، ولا قيمة للعلاج بدون تشخيص سليمٍ سويّ.
الكارثة الثّانية: سياسة وضع الكُنَاسة تحت السّجّادة.
حيثُ ما يزال الكثيرون يعتقدون بأنَّ الحديث عن الظّاهرة يسيءُ للإسلام، فيعمد على إنكارِها حينًا وشتم المتحدّثين عنها حينًا آخر.
ويستخدم هؤلاء سياسة تغطية ما يتم كنسه ووضعه تحت السّجادة لإيهام أنفسهم وغيرهم بنظافة البيت وجماله.
وهذه السياسة مآلُها تجذّرُ الظّاهرة وتحوّلها على جائحة لن ينجو منها أحدٌ حينها.

(المصدر: رابطة علماء أهل السنة)

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى