مقالاتمقالات مختارة

هذه صفات “الذين اعتدوا في السبت”.. وهكذا نقلدهم نحن المسلمين!

هذه صفات “الذين اعتدوا في السبت”.. وهكذا نقلدهم نحن المسلمين!

بقلم سجى المسعودي

إن من أكثر قصص القرآن رُعباً قصة أصحاب السبت: اليهود الذين مسخهم الله قردة وخنازير لأنهم خالفوا أمره بأن اصطادوا يوم السبت، اليوم الذي حُرِّمَ عليهم الصيد فيه. “واَسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ” سورة الاعراف. القصة ببساطة أن الله تعالى أمر أصحاب القرية بأن يتَّخِذوا من يوم السبت عيداً لهم، يذكرون الله فيه ويتفرغون لعبادته ولا يمارسون فيه أي عملٍ دنيوي، وكان أهل القرية يعملون في صيد السمك، وبذلك كان الصيد مُحرماً عليهم يوم السبت.

وليبتلي الله عباده ويختبر إيمانهم، ويُميز المؤمن الذي يُسلم نفسه لأمر الله ويصبر لحكمه ممن يستكبر ويعصيه، كانت الأسماك تكثر على الشاطئ يوم السبت دوناً عن باقي أيام الاسبوع، “إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لاَ يَسْبِتُونَ لاَ تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُم بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ”. وهنا تحايل أهل القرية على أمر الله بأن وضعوا شباكهم ونصبوا الفخاخ للأسماك يوم الجمعة، فتأتي الأسماك يوم السبت وتقع في الفخ، ويجمعونها صباح الأحد، وبالتالي هم – ظاهرياً – التزموا بأمر الله تعالى ولم يصطادوا السمك يوم السبت!

ربما لو كانوا في عصرنا الحالي لخرج بعض المنتسبين إلى أهل العلم بفتوى تُجيز فعلتهم؛ على اعتبار أنهم لم يأخذوا الأسماك يوم السبت وبالتالي صيدهم حلال ولم يقعوا في المحظور، ولو نظرنا إلى القصة بغير تدبر لوجدنا أن العقوبة مبالغ بها بالنسبة إلى المعصية التي اقترفوها، فأصحاب القرية لم يرتكبوا تلك الفاحشة العظيمة التي تستوجب اللعن والمسخ، فاليهود قتلوا الأنبياء، وأكلوا الربا، وأكلوا أموالهم بينهم بالباطل، وكل ذلك أشد إثماً من أن يصطاد الإنسان ما أباح الله أن يصطاده كل يوم ما عدا يوم السبت.!

بينما المتدبر في القصة بعقلية، أكثر منطقية وأوسع فهماً وإدراكا لمقاصد الدين والحكمة من أوامر الله ونواهيه، فإنه يدرك أن هؤلاء القوم استحقوا ما نزل بهم من عذاب لأنهم ارتكبوا هذه المعصية عن طريق الاحتيال وجاهروا بها واستحلّوها فحق عليهم أشد العقاب ومسخهم الله قردة خاسئين. قال الإمام ابن كثير: “هؤلاء قوم احتالوا على انتهاك محارم الله بما تعاطوا من الأسباب الظاهرة التي معناها في الباطن تعاطي الحرام”.

بداية الزلل.. بدأت الفكرة عندما اشتهى أحد أهل القرية أكل السمك، فذهب إلى الشاطئ يوم السبت وأخذ بسمكة كبيرة من الماء وربط ذيلها بحبل مربوط إلى الشاطئ ثم ذهب إلى بيته، ولما طلع فجر الأحد كانت السمكة مازالت مكانها في الماء فأخذها إلى بيته وعمل على شواءها، ولما انبعثت رائحة الشواء في القرية أتاه الجيران يسألونه عنها فأخبرهم بما فعل، وهنا انقسم الناس في أمره إلى ثلاث فرق:

الأولى: استحسنت صنيع الرجل وفعلت مثله، بل وتفننت بابتكار المزيد من الحيل وطورت أفكاراً جديدة لنصب الفخاخ للأسماك والابقاء عليها في الماء حتى صباح الأحد؛ فالمعصية باب مُغلق إن تجرأ المرء على فتحه مرة فسوف يسهل فتحه كل مرة حتى تُستساغ المعصية وتطمئن لها النفس ويأتيها أمر الله بغتة وهي لاهية.

الثانية: استنكرت ما فعلته الفرقة الأولى ونهتهم عنه، وامتثلت لأمر الله تعالى وأدت واجبها بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

الثالثة: فئة لم تعصِ الله ولم تفعل ما فعلت الفرقة الأولى، لكنها سكتت عن المعصية ولم تنهَ عنها، بل وحاولت اسكات الدعاة والمصلحين من الفرقة الثانية وإحباط همتهم في الدعوة: “وَإِذَ قَالَتْ أُمَّةٌ مِّنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللّهُ مُهْلِكُهُمْ أو مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا”، هذه الفئة المثبّطة قد غفلت عن حقيقة أن الدعوة إلى الله تعالى والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هي واجب وفريضة اسلامية بغض النظر عن النتائج والثمار التي يجنيها المصلح. وأن اليأس والقنوط من إصلاح القلوب وتزكية النفوس منهيٌّ عنه وأن من يقول: هلك المسلمون فهو أهلكهم، اذ ورد في حديث أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أن رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: (إِذَا قَالَ الرَّجُلُ: هَلَكَ النَّاسُ فَهُوَ أَهْلَكُهُمْ) صحيح مسلم.

المجاهرة بالمعصية
أصَرّ العصاة على موقفهم، ولم تنجح محاولات المصلحين في أن تثنيَهم عن طغيانهم وفسقهم، بل ووصلت بهم الجرأة والتعدّي على محارم الله بأن اصطادوا الأسماك يوم السبت علانيةً وباعوها في الأسواق، فأتاهم أمر الله بالعذاب العظيم وهم آمنين مطمئنين غارقين بوهمهم بأنهم لم يقترفوا أي ذنب، “فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ أَنجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُواْ بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ، فَلَمَّا عَتَوْاْ عَن مَّا نُهُواْ عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ”.

إن ما يثير الرعب في القصة هو محاولة تدبّرها في ضوء واقعنا المعاصر الذي تكثر فيه العقليات المحلِّلَة التي تجتهد وتتفنن في التحايل على أوامر الله تعالى وتحليل الحرام والمجاهرة به على طريقة أصحاب السبت التي نهى عنها الرسول عليه السلام في الحديث الصحيح:( لا ترتكبوا ما ارتبكت اليهود، فتستحلوا محارم الله بأدنى الحيل”. فاستحلال محارم الله ماهي إلا سمة من سمات اليهود، وهناك من سار على نهجهم من المسلمين، وذلك في سائر أبواب المعاملات؛ فلا تكاد تجد معاملة إلا وفيها شبهة تعامل بالربا أو رباً صريحٍ والعياذ بالله.

حجاب المرأة المسلمة تحايلوا على شروطه وأحكامه وتفننوا في التخفيف من صفاته الشرعية تحت مسمى “مواكبة الموضة” بل وخففوا من حكمه حتى أسقطوا عنه مسمى الفريضة واعتبروه مجرد “حرية شخصية”.

هناك من يسميه بغير اسمه ليُضِل الناس فيقول عنه فائدة، أو عوائد بنكية، أو قروض استحلوها بحجة أنها تعين الناس على قضاء حوائجهم ولا غنىً لهم عنها، وماهي في الحقيقة إلا رباً، حتى لو تذرعوا بفتوى باطلة من بعض المنتسبين إلى أهل العلم وهو ليس منهم، فإن من أحلّ ما أجمع العلماء على تحريمه فهو مبطل لأن الاجتهاد لا يكون في خلاف الاجماع. يقول ابن تيمية رحمه الله: (فيا سبحانَ الله العظيم! أن يعودَ الربا الذي عظَّم الله شأنَه وأوجَب محاربة مُستحِلِّه ولعن آكلَه وموكله وكاتبَه وشاهديه أن يُستحَلَّ بأدنى سعيٍ بصورة عَقدٍ هي عبَث ولعب).

وتغيير الاسم لا يُغير المسمّى، لأن أحكام الشريعة الإسلامية تُؤخذ لمقاصدها الشرعية، وأيُّ حيلة يبتغي المرء بها التحايل بقصد تحليل الحرام أو تحريم الحلال عن طريق الاسم فهي مرفوضة، فالرذيلة المتعلقة بالرقص والغناء المبتذل قد سادت المجتمع تحت مسمى “الفن العصري”، والخمر قد ملأ الاسواق تحت مسمى “مشروبات روحية”، وحجاب المرأة المسلمة تحايلوا على شروطه وأحكامه وتفننوا في التخفيف من صفاته الشرعية تحت مسمى “مواكبة الموضة” بل وخففوا من حكمه حتى أسقطوا عنه مسمى الفريضة واعتبروه مجرد “حرية شخصية”.

واستحلّ المجتمع ترك الصلاة بحجة أن “الدين المعاملة” والخلق الحسن يغني عن العبادة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر صار يُسمَّى “تدخلاً في شؤون الآخرين”، وتشدُّداً مُبالغاً به في الدين! حقيقةً، لقد تساوى جرمُنا تماماً مع جرم أصحاب السبت المتمثل بالتحايل على أمر الله تعالى، والإقرار بالمعصية وصولاً إلى المجاهرة بها، وتمييع القضايا الشرعية باسم المصلحةِ واليُسر والتلفيق تارةً والمرونة والتطوّر الحضاري تارة أخرى.

ملخص الكلام أن حال مرتكب المعصية من دون حيلة أفضل من حال مرتكبها بحيلة، وحال مرتكب المعصية بحيلة أشد عقاباً وأسرع انتقاماً من الله عز وجل ممن يرتكبها من دون حيلة، فهذه القصة كافية لإبطال ما يتوهم بعض الناس أنه يمكن أن يفعل المعاصي بعد أن يُغَلِّفها بحيلة يسمونها شرعية، “يُخَادِعُونَ اللّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ ألا أَنفُسَهُم وَمَا يَشْعُرُونَ” (البقرة: 9).

وبذلك ندرك الآن أننا لسنا بمأمنٍ من أن يصيبنا ما أصاب أصحاب السبت من خسف ولعن، بعد أن تشبهنا بهم وامتثلنا لمنهجهم القائم على التحايل على أوامر الله، فقد ورد في الحديث الصحيح:” يشرب الناس من أمتي الخمر يسمونها بغير اسمها، تضرب على رؤوسهم بالمعازف القينات، يخسف الله بهم الأرض ويجعل منهم القردة والخنازير”. ويا لله العجَب! كيف يتورَّع أناس عن المعاملاتِ وكل ما هو محرم صراحة لكن لا يرونَ به بأسًا حينما يأتيهم الحرام من الأبوابِ الخلفية أو يُمَرَّر من تحتَ الطاولات التفاوضيّة ولسان حالهم: من له حيلة فليحتل؟!

(المصدر: مدونات الجزيرة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى