مقالاتمقالات مختارة

هل كان الشيخ المراغي أبرز السياسيين النخبويين؟

هل كان الشيخ المراغي أبرز السياسيين النخبويين؟

بقلم د. محمد الجوادي

إذا كان الشيخ محمد مصطفى المراغي هو أكثر علماء الأزهر تأثيراً في الأزهر في القرن العشرين فإنه في الوقت نفسه واحد من أكثر رجال الدولة تأثيراً في السياسة المصرية في القرن العشرين، فإليه في المقام الأول يرجع الفضل في صياغة وإقرار مبدأ حياد مصر في الحرب العالمية الثانية وعدم دخولها هذه الحرب، صحيح أن هذا المبدأ كان حصيلة لاختلاف رؤيتين متناقضتين نادت بهما قامات سياسية رفيعة، وبذلت كل منهما جهودها في تقضيل رؤيتها بالوقوف مع الحلفاء أو الوقوف مع المحور وضد الحلفاء إلا أن الشيخ المراغي بعقليته الواعية وقدرته الفقهية والقانونية وصياغته الواضحة لأفكاره كان صاحب المقولة الشهيرة التي حسمت الموقف لصالح الحياد وهى أن هذه حرب لا ناقة فيها ولا جمل، وبهذا أصبح صعباً على من يريدون الوصول في الحرب مع بريطانيا تطبيقاً لمعاهدة 1936 أن يقنعوا أحدا بهذا بل أصبح من الصعب عليهم أن يواصلوا الاقتناع، كما أصبح من المستحيل بالتالي أن تنتصر الفكرة الداعية إلي تأييد الألمان والطليان تحت دعوى أن عدو عدوى هو صديقي وأن وضع مصر عند انتصار الألمان أو المحور يمكن أن يكون أفضل منه عن وضعها عند انتصار البريطانيين.

أسارع فأقول إنني مع احترامي لمنطق الشيخ محمد مصطفى المراغي وللمنطق الذي أخذت به مصر في هذه الحرب فإنني أري أن عدم دخول هذه الحرب كان هو الذي قضى على مستوى متقدم من فرص المستقبل المهني والتدريب الميداني للجيش المصري والقوات المسلحة المصرية فلم يتح لها في تلك الحرب أهم فرصة للتدريب الحى والممارسة الحية في ميدان الحروب ومن ثم كانت قلة الخبرة والممارسة هي السمة الغالبة على هذه القوات في كل الحروب التالية.

ولو أن طائفة من ضباط قواتنا المسلحة نفروا وشاركوا في هذه الحرب من خلال صفوف الحلفاء أو البريطانيين لأحرز جيشنا خبرات عالية بالتنظيم والتدريب والتخطيط والتأهيل إضافة الى خبرات القتال، وأذهب في قولي هذا الى حدود بعيدة من الاقتناع النظري مستهديا بالنجاح الذي حققته إسرائيل التي لم تكن قد وجدت بعد من خلال مشاركتها في هذه الحرب بما سمى الفيلق اليهودي وهو الفيلق الذي كان نواة إنشاء الكيان الصهيوني الذي سمى بدولة إسرائيل.

 

أعود بسرعة إلى الشيخ المراغي الذي استطاع حسم هذا التوجه المهم فأنقذ مصر من مغبة أو عواقب دخول هذه الحرب ماديا ومعنويا، وكأنه كان واعياً لما تجاهلته الأدبيات السياسة التاريخية المصرية من أن الجيش المصري للأسف الشديد كان هو الذي حارب من أجل سلب القدس من دين المسلمين لمصلحة البريطانيين متحملا بهذا الوزر عباء أكبر خيانة للإسلام والعروبة، وإن كان الخجل قد دفع المؤرخين جميعا ولا يزال يدفعهم الى أن يتجاوزوا هذه الحقيقة المرة التي كانت قابلة للتكرار لولا الانتباه الذكي الذي فتح الله به على الشيخ محمد مصطفى المراغي.

لم يكن الشيخ المراغي وفديا وإن كان الزعيم مصطفى النحاس باشا هو أول من رشحه لهذا المنصب، ولم يكن اختيار الشيخ محمد مصطفى المراغي البعد عن الوفد اختيارا خاطئا تماما وإنما كان خاطئا جزئيا، ذلك أن الشيخ محمد مصطفى المراغي بالرغم من تفضيله اللعب مع عناصر الفريق المتحد أو المؤتلف ضد الوفد لم يذهب في ممارساته السياسية لأكثر من حدود الاختلاف الديموقراطي والعملياتي ولم يتدحرج في خصومة جوهرية للحركة الوطنية ولا للأغلبية، لكنه كان بحكم علاقاته أهل الوجه القبلي أقرب الى عائلات محمد محمود وخشبة ومحفوظ ووالى …. الخ، وهكذا وفى الإطار نذكر أن جعفر والى باشا نفسه تزوج ابنة الشيخ المراغي كما أن الأبن الأكبر للشيخ المراغي وهو أحمد مرتضى المراغي وزير الداخلية فيما بعد قد عمل في مطلع حياته وبمجرد تخرجه سكرتيرا لرئيس الوزراء محمد محمود باشا وهكذا.

كان انتماء الشيخ محمد مصطفى المراغي إلى مجموعة أو معسكر الأحرار الدستوريين أقرب ما يكون إلى أن يوصف على أنه انتماء طبقي هيأته العصبية، وهو انتماء مفهوم وصل في تداعياته الى أن الأزهر نفسه انقسم في بعض مواقف تأييده للشيخ المراغي الى صعايدة وبحاروة أي أبناء الصعيد أو الوجه القبلي والوجه البحري، وهو موقف بغيض وسخيف لكنه في رأيي يمثل ( رغم كراهيتي له ) مرحلة مهمة ومطلوبة من مراحل نمو الوعى السياسي والتنموي ولهذا فإنه سرعان ما يتهذب، وعلى كل حال فإن وجوده على السطح أفضل من تأجيل ظهوره، والحديث عن المعاناة منه أفضل من كتمانه، فهو موقف من مواقف المراهقة الفكرية التي لا يجوز تأجيلها متى حل وقتها.

لو لم يكن الشيخ محمد مصطفى المراغي قد أصبح شيخا للأزهر لكان تأثيره في الحياة العامة قد ناطح تأثير شيخ الأزهر، فقد كانت مقومات زعامته زاعقة صارمة صارخة عفية قوية، وكان أداؤه من أجل هذه الزعامة دؤوبا متصلا مؤثرا، وكان قادرا على تطوير نفسه وتدريبها وتأهيلها كما كان قادرا على أن يصنع لنفسه طابعها الخاص في الملبس والزى والحضور والقول والحكم على الأمور، وكان يعرف الناس جميعا ويعرفه الناس جميعا، وكان يجامل ويباغض، وكان يحسم ويصانع وكان يتصل وينفصل، وكان رأيه واضحا دون لبس، وكانت إنحيازاته وتوجهاته ساطعة لا تشى بالغموض ولا تعتمد عليه. كان شخصية نادرة لا شك في هذا.

من بين النصوص العديدة التي بين يديّ أفضل أن أحيل القارئ على نصوص الأستاذ محمد كرد على رئيس المجمع العلمي العربي في دمشق، فقد تميزت هذه النصوص بما يوافق الجوهر الحقيقي لشخصية الشيخ محمد مصطفى المراغي الحقيقية وبما يتوافق مع منهجي المعهود في النظر الى شخصية من وزن المراغي.

(المصدر: مدونات الجزيرة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى