القُبَيسيّات .. ماذا عن العلاقة بين الآنسة والطّالبة (6)
بقلم الشيخ محمد خير موسى
في عموم الجماعات الدّعويّة تبقى الرّابطة الأوثق هي الرّابطة بين الشّيخ والمريد والمربّي والطّالب والقبيسيّات لسن بدعًا من ذلك فالعلاقة بين الآنسة والطّالبة هي التي تصوغ سلوك الفتاة وتشكّل وعيها وترسم بنيانها النفسي، وتحدّد طبيعة المُخرجات التي تنتجها الجماعة سلوكيًّا وفكريًّا وتربويًّا، وقد اتّسمت هذه العلاقة بسماتٍ عديدة من أهمّها.
من أهم ما تتسّم به لقاءات الآنسة بالطّالبات هو ترسيخ مبدأ طهرانيّة الآنسة؛ فهي من “أهل الله” ومن “أولياء الله” بخلاف الطّالبات اللّواتي عليهنّ اتّهام أنفسهنّ وتحميلهنّ مسؤوليّة أيّ ارتكاسٍ يقع في الحلقة أو في الجماعة.
فمن المشاهد المتكرّرة أن تأتي الآنسة فتكون نفسيّتها متعبة أصلًا وتشعر بضيق، أو يرتج عليها فلا تستطيع إعطاء الدّرس أو تنسى معلومة، فيكون التفسير دومًا باتّهام الطّالبات بأنَّ الله تعالى حرمكنّ بسبب معصيتكنّ أو بسبب وجود إحدى العاصيات بينكنّ، ولا يمكن بحالٍ من الأحوال تحميل الآنسة مسؤوليّة أيّ شيءٍ من هذا.
وقد غدا هذا الأمر ظاهرة عامّة في الحلقات ممّا دعا د. محمّد سعيد رمضان البوطي ـ رغم محبّته للقبيسيّات ودفاعه المستميت عنهنّ ـ إلى انتقاد هذه الظّاهرة أكثر من مرّة في دروسه.
وأذكرُ جيّدًا أنني سمعته يقول في دروسه: “إنّ هناك آنسات في أثناء الدّرس إن نسيت إحداهنّ أو أرتج عليها تقول لطالباتها إنَّ الله تعالى قد حرمكنّ بسبب معاصيكنّ، وإن فتح الله عليها نسبت الفضل في ذلك إلى إخلاصها، وهذا داءٌ خطيرٌ والأصل هو خلاف ذلك”.
ثمّ يقسم قائلًا: “والله إنني أجلس أتحدّث إليكم فيفتح الله عليّ بأفكار لم أكن أخطط لقولها هي أفضل ممّا كنت قد حضّرتُه وجهّزته، فأقول لنفسي: إنّ هذا بسبب إخلاص السّامعين الذين ساق الله لهم هذا الرّزق على لساني، وأحيانًا أكون قد جهّزت في نفسي فكرة فتطير من رأسي وأنسى ما أريد قوله فأقول لنفسي: إنَّ هذا بسبب معصيتي وتقصيري”
لكنّ عموم الآنسات القبيسيّات كنّ يركّزن على أنّ أيّ خلل يقع منهنّ في الإعطاء هو حرمان من الله تعالى للطّالبات وعقوبة لهنّ على تقصيرهنّ ومعاصيهنّ، فعلى حسب ملائكة الحاضرات يكون التّجلّي والإلهام كما كان يتمّ التّعبير عن ذلك.
هذا المنطق رسّخ في نفوس الطّالبات حالة من الطّهرانيّة للآنسة مع الشّعور الخفيّ بالدّونيّة التي تقتضي تحميل انفسهنّ أخطاء غيرهنّ.
“أهل الله” هذا المصطلح يطلق عادة على الآنسات في إطار التّزكية والتّبجيل، وأنّ هذه التّزكية ومعها ترسيخ مبدأ الطّهرانية، إضافة إلى قدرة الآنسات المشرفات على الإبهار والتّأثير؛ يؤدّي إلى التّعلّق القلبيّ بالآنسة تعلُّقًا يثمر التّبجيل الذي يصل حدّ التّقديس في بعض الحالات.
ولا بدّ من التّأكيد بأنّ هذا يختلف من بيئةٍ إلى بيئة؛ فبيئة الخليج عمومًا ليست من بيئات التّبجيل المبالغ فيه كما هو في بيئة الشّام، كما يختلف من آنسة إلى أنسة على حسب الاستعداد النّفسي للآنسة.
عموم آنسات القبيسيّات كنّ يرفضنَ أن تقبّل الطالبات أيديهنّ أو يحملنَ أحذيتهنّ أو يمارسن معهنّ طقوس التّبجيل لكنّهنّ بالمقابل لم يكنّ ينكرنَ ذلك، وهذا امتدادٌ لحالة التبجيل المبالغ فيه عند الطرق الصّوفيّة.
ومن مفرزات هذا التّبجيل شعور الطّالبة بأنّ علاقتها مع الآنسة أمتن من علاقتها مع الشّرع نفسه، واعتقادها بأنّ الآنسة هي بوابتها الحصريّة للوصول إلى الله تعالى، كما وصل الأمر إلى حالات حبٍّ مَرَضيّ وتعلُّقٍ غير سليم من بعض الطالبات كان يُعبَّرُ عنه بغيرةٍ شوهاء وتنافسٍ طفوليّ لكسب قلب الآنسة.
وممّا ترتّب على حالة التّبجيل هذه غيابٌ لأجواء الحوار الجدليّ والنقاش الاعتراضي مع الآنسات في الحلقات، وكان يشار بالبنان إلى الفتاة كثيرة الاعتراض أو الانتقاد ويتمّ التعامل معها بجفاء جليّ لتجد نفسها خارج إطار الجماعة شيئًا فشيئًا.
كما ترتّب على هذا التّبجيل محاولة الكثير من الطّالبات الاقتداء التّام بالآنسات الكبيرات، وقد تسبّب هذا ببعض الظواهر التي ألصقت بالجماعة ومن ذلك فكرة العزوف عن الزّواج
ففي الحقيقة ليست هناك توجيهات من القبيسيّات للفتيات بالعزوف عن الزّواج، ولكنّ حالة التبجيل المبالغ فيه للآنسات اللّواتي كانت الكثيرات منهنّ غير متزوّجات رغبةً منهنّ عند البعض ولعدم توافر فرصة الزّواج للبعض الآخر؛ جعل عددًا من الطّالبات يستشعرن بأنَّ هذا من الفضائل التي ينبغي تقليد الآنسة فيها، فلو كان الزّواج خيرًا ليسّره الله تعالى للآنسة التي هي من “أهل الله”
من الطّبيعيّ أن تكون طبائع الناس في الرّقة والغلطة، واللّطف والشّدّة، واللّين والفظاظة مختلفة، لكنّ ما أصبغت به سلوكيّات الكثير من الآنسات مع طالباتهنّ القبيسيّات هو الشّدّة والقسوة في السّلوك، وذلك من باب الحرص على سلوك الطّالبات وظنًّا منهنّ أنّ هذا السّلوك سيحفظ على البنات التزامهنّ وابتعادهنّ عن الميوعة والانحلال.
وهذه القسوة كانت تظهر في أوجها عند بلوغ أيّ معلومة أو وشاية على طالبة من الطّالبات في المجال السّلوكي كالعلاقة بين الجنسين ـ على سبيل المثال ـ التي تعدّها الجماعة من المحظورات التي لا يمكن التّهاون فيها.
هذه القسوة كانت تظهر على شكل شدّة في الكلام ومبالغة في التّوبيخ وتوصيفات جارحة كأن يقال للفتاة بأنّ نور الإيمان غادر وجهها وقد يصل الأمر إلى الهجر والقطيعة.
وهذه القسوة انعكست على سلوك الطالبات بحيث غدت العديدات منهنّ يمارسن السّلوك الجاف في حياتهنّ الاجتماعيّة خشية التعرض لقسوة الآنسة من جهة ولتشربّهنّ القسوة بالمحاكاة.
كما تسبّبت هذه القسوة بردّات فعل العديد من المنتسبات للجماعة لا سيما من كنّ في المستويات الأولى فهجرن الجماعة وربما عادينها بسبب ما تعرّضن له من قسوة في التعامل وشدّة في السّلوك.
كونها المشرفة والمربيّة والأقرب إلى الله تعالى ومحل الثّقة المطلقة؛ غدت الآنسة مستودع أسرار طالباتها، وغدت المستشارة المطلعة على أدقّ خصوصياتهن الأسرية والزّوجيّة.
ولم تكن هناك تعليمات صريحة غير أنَّ الجوّ العام غدا يُشعر الطالبة بأنّها لا يجوز أن تخفي شيئًا من خصوصيّاتها عن الآنسة، ويجب استشارتها في أخصّ الخصوصيّات.
وهذا أتاح للآنسات الهيمنة النّفسيّة على الطّالبات؛ ممّا أتاح لهنّ التّحكّم في كثيرٍ من الأحيان بقرارات طالباتهنّ المصيريّة المتعلّقة بالدّراسة أو بالزّواج أو العمل أو غير ذلك.
وكان يصل الأمر في هذه الهيمنة أن يكون قول الآنسة مقدَّمًا عند الفتاة على قول أمّها وأختها وأسرتها، فالآنسة هي الأقرب ورضاها هو أمارةٌ على رضا الله تعالى وسخطها دلالةٌ على الطّرد عن باب الله عزّ وجل.
إنّ هذه السّمات في العلاقة بين الآنسات والطّالبات عند القبيسيّات جعل الطّاعة للآنسات تكاد تكون طاعةً مطلقة، وفي كثيرٍ من الأحيان لم تكن طاعةً مبصرة، كما جعلت قدرتهنّ على توجيه الطالبات إلى مساحات معيّنة من الرّأي والتوجّهات عاليّة.
ولكن كيف هو حالهنّ في عالم السّياسة، وكيف كانت علاقة القبيسيّات بالنّظام السّوري في عهد حافظ الأسد؟!
هذا ما سنجيب عنه في المقال القادم بإذن الله تعالى.
(المصدر: الجزيرة مباشر)