مقالاتمقالات مختارة

الكماليّون و”تنقية” التّركية من الكلمات العربيّة

الكماليّون و”تنقية” التّركية من الكلمات العربيّة

بقلم د. مصطفى الستيتي

ثمّة قَراران كبيران يتعلّقان باللّغة التّركية اتّخذتهما الحُكومة التّركيّة بعد المنعرج التّاريخي الذي سارت فيه تركيا مع تأسيس الجمهوريّة التّركية الحديثة بقيادة مصطفى كمال أتاتورك، كان القرار الأوّل يتمثل في ما سُمي بـ”الانقلاب الحرفي” أو ثورة الحُروف في بداية نوفمبر عام 1928م، وبموجبه وقع إلغاء الحُروف العربيّة وإحلال الحروف اللاّتينية محلها، وهذا ما تمّ بالفعل. أمّا القرار الثّاني فيتمثّل في حملة واسعةٍ لتنقية اللّغة التّركية من الكلمات التي اُعتبرت دخيلة عنها وخصوصًا العربيّة والفارسيّة. فكيف تمّت هذه الحملة، وإلى أيّ مدى نجحت في تحقيق أهدافها؟

اِستكمالاً للمُهمّة التي اعتَزمت الحُكومة الكماليّة في تركيا على تنفيذها بعد قيام الجُمهوريّة، والتي تهدف إلى إبعاد الشّعب التّركي عن كلّ ما يربطه بالعَالم الشّرقي، وقطع صلاته بهويّته وبدينه الإسلامي، كان ينبغي لها – حسب وجهة نظرها – القيام بعمليّات جراحيّة مُؤلمة داخل المجتمع التّركي. ومن بين أهمّ تلك الإجراءات إخراج الكَلمات العربيّة من اللّغة التركيّة ومنعها من التّداول. وفي هذا الإطار عُقد في مدينة اسطنبول في شهر أغسطس عام 1934م مؤتمرٌ لغويّ حضره مصطفى كمال أتاتورك نفسه، كما حضره مستشرقان من روسيا هما سامُولوفتش ومِيشِينُوفْ، وقد بسَطا فيه خُلاصة معلوماتِهما ومَباحثهما في اللّغة واللّهجات التّتارية والتّركية القَديمة في بلاد التّركستان والقوقاز، وعرضا خبراتهما لمساعدة الأتراك على “تَطهير ” التّركيّة من شَوائب العربيّة، وإيجاد  بدائل أخرى.

والغاية من هذا المؤتمر هي تنفيذ إحدى الغَايات المقصودة من البرنامج الوطنيّ في تُركيا الحَديثة، ويتمثّل في قطع تُركيا الحَديثة عن كلّ ما يربطها بتراثها العثمانيّ “التّقليدي البَالي”. وقد ألّف المؤتمر في اجتماعه السّابق لجنةً عهد إليها أن تتّصل بالفلاّحين الأتراك في الأرياف والجِبال، والاختلاط بسكّان تلك المناطق وأخذ الكلمات التّركية القديمة عنهم باعتبار أنّ لغتهم ما تزال نقيّة لم تخالطها الكلمات الدّخيلة، كما تبحث اللّجنة في ماضي اللّغة وأصُولها عن كلمات يُمكن الاستغناء بها عن الكلمات العربيّة والفارسية المستعملة حتّى ذلك الوقت.

وناقش المؤتمر كذلك كيفيّة إيجاد حلّ لهذه المسألة، وهي تعتبر مشكلةً حقيقيّة لأنّ نسبة الكلمات العربيّة في التّركية في ذلك الوقت كانت تتجاوز الـ60 %، وإذا تمّ إخراج الكلمات العربيّة يُصبح التّعامل بالتّركية شبه مستحيل. كما عمل المختصّون في اللّغة على البحث في اللّغتين الفرنسيّة والانكليزية عمّا يسدّ الفراغات، ويقوم مقام الكلمات العربيّة التي سوف يقع الاستغناء عنها.

وبما أنّ اللّغة تشبه الكائن الحيّ في تشكّلها وتطوّرها فهي لا تقبل الكلمات الدّخيلة بشكل اعتباطيّ، فهي تلوكها وتُحاول هضمها، فإذا لم تستسغها تلفظها وتلقي بها خارج دائرة الاستعمال. وأفضل مثال على ذلك لفظة “تَانْـــري أُولُو” التي تَعني الله أكبر، فقد فُرض تداولها لسنين في الأذان عندما تمّ تغييره إلى التّركية، ومع ذلك ما إن رجع الأذان بالعربيّة حتّى اِختفت هذه العبارة لأنّ اللّغة نفسها لم تستسغها، وكذلك الإنسان التركي لم يَهضمها.

ومن الطّريف أنّ أسماء أهم الصّحف التركيّة ما تزال عربية ولم تتغيّر حتى اليوم مثل “جمهوريت” و “ملّيت” و “حرّيت”. كما أنّ كلمتين من أصل ثلاث كلمات في اسم الحِــــزب الذّي أسّسه أتاتـــــورك وهو “حزب الشّــــعب الجُمهـــوري” ) Cumhuriyet Halk Partisi) هما كلمتان عربتان، ولا ندري هل عجز الكماليون عن إيجاد بديل لهاتين الكَلمتين أم أُبقِي عليهما حنينًا لذكريات المؤسّس الأوّل.

وبالنّسبة إلى الكلمات التي تمّ اقتراضها من الفَرنسية مثلاً فقد عمل الكماليّون على إدخال كلمة “مَرسي Merci” الفرنسيّة بدل “تشكّرلر” التي لها علاقة بالكلمة العربية “شُكر”، بيد أنّ المحاولة باءت بالفشل إذ ظلّ النّاس يستخدمون الأصل العربيّ، وبقيت “مَرسي” لا تُقال إلاّ في دائرة ضيّقة جدّا بين النّخب المتأثرة بالثّقافة الفرنسية، واقتصرت الكلمات الجَديدة على المصطلحات العلميّة والقَانونيّة إلى حدّ كبير. أمّا المصطلحات الدّينية فقد ظلّت كما هي لم يمسّها أيّ تأثير رغم المحاولات المستميتة.

وما حصل من تغيير في الكلمات التركيّة إنّما حصل بشكل طبيعيّ تقريبًا مع ظهور عُلوم جديدة وما يرتبط بها من مصطلحات في شتّى مجالات المعرفة، ومصطلحات هذه العلوم تُؤخذ تقريبًا كما هي عليه في أصلها أو تُستحدث لها مصطلحات خاصّة بها. إذن فرغم الجُهود الكبيرة التي بُذلت لتنقية التّركية من “الشّوائب” العربيّة فقد فشِلت هذه العمليّة بشكل كبير، والأتراك أنفسُهم بحكم عدم معرفتهم بالعربيّة ليس بوسعهم التّمييز بين ما هو عربي وما هو تُركي. ولذلك من الطّرائف التي حدثت مع أحد الأساتذة الأتراك المنحازين لتوجهات أتاتورك أنّه نصح طلاّبه بعدم استخدام كلمة “إنساني” insani  لأنها عربيّة وأن يستخدموا بدلاً منها كلمة “بشري” beşerl ظنّا منه أنّها تركيّة.

وهكذا فقد فرّ هذا الأستاذ من العربيّة إلى العربيّة، وهذا دليل على ثراء هذه اللّغة من ناحيةٍ وقبول جِسم اللّغة التركيّة للكلمات العربيّة دون عوائق أو تعسّف. واليَوم رغم مرور  ما يقرُب من مائة عامٍ على “الانقِلاب الحرفيّ” وعلى حملة تنقيَة التّركية من الكلمات العربيّة فإنّ التّركية ما تزال تحتفظ في كيانها بنحو أربعين بالمائة من الكلمات العربيّة، بل ويوجد إقبال واسع جدّا من جميع طبقات الشّعب التركي على تعلم اللّغة العربيّة نفسها.

(المصدر: ترك برس)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى