الحُكْمُ الرّاشِد.. معالم في المعرفة والممارسة
بقلم حرزالله محمد لخضر
يشكل مفهوم الحكم الراشد مقاربةً سياسية حديثةً في إدارة المجتمعات من منظور الحكامة والرشادة، فهو يرتكز على قيمِ ومؤشراتِ الجودة السياسية الهادفة إلى الاستثمار الأمثل في الموارد المادية والبشرية والمعرفية للدولة، بأعلى مستوى ممكن من الكفاءة والشفافية والفعالية، عن طريق إقرار سيادة القانون والنزاهة والتناوب على الحكم وتفعيل مبدأ الرقابة والمحاسبة والمساءلة. وإذا أردنا تحديد مفهوم الحكم الراشد فيمكننا أن ننطلق من مستويين:
فمنظومة الحكم الراشد ترتكز على إلزامية تكريس قيم العدل والديمقراطية والتداولية وحقوق الإنسان والرشادة السياسية، والنَّأْيُ عن مظاهر التسلط والفساد السياسي وشمولية الحكم وكل الذرائع المفضية إليه.
فالعملية السياسية يجب أن تكون في نطاق المؤسسات الشرعية للدولة الحديثة، أي أن تُمَارَسَ السلطة في إطارها الشرعي، وهذا يعني تجنب أسلوب الانقلابات أو تزوير الانتخابات أو احتكار الحكم بديمقراطية شكلية، فالحكم الراشد يسعى لمأسسة نظام الحكم بآلية انتخابية نزيهة مع الفصل المتوازن بين السلطات.
كما يمكن تحديد طبيعة دور الحكم الراشد وآلياته وفق ثلاث مؤشرات رئيسية هي:
1- الأهداف: تهدف منظومة الحكم الراشد إلى إرساء معالم الحرية والرفاه الاقتصادي والاجتماعي، وترشيد الإنفاق، والعدالة الاجتماعية، والمساواة في توزيع الموارد، والشفافية والمساءلة.
2- الآليات: فالحكم الراشد يعتمد آلياتٍ للحكم تقوم على الانتخابات، التداول على السلطة، شرعية الكفاءات، استقلالية العدالة، حقوق الإنسان، المشاركة السياسية، تشجيع منظمات المجتمع المدني، الحرية الإعلامية، الرقابة على عمل الحكومة.
3- الأشخاص: فلا بد من الاعتماد على شرعية الكفاءات والشخصيات الجديرة والنزيهة التي تحظى بالثقة والمصداقية الشعبية والشرعية القانونية والمشروعية السياسية، وتمكين النخب ذوي المهارات المعرفية والخبرات الناجحة وأصحاب الإختصاص من تقلد مناصب الحكم سواء في السلطة التنفيذية أو التشريعية أو القضائية.
وتتأسس مرجعية الحكم الراشد على قيم معيارية أساسية أهمها: محاربة الفساد، فعالية الحكومة، جودة التشريعات وتطبيقها، سيادة القانون، مساءلة ومحاسبة المسؤولين، التنافسية والمساواة، الرؤية الاستراتيجية في اتخاذ القرار، تكريس قيم المواطنة. ومن المقومات التي يرتكز عليها نظام الحكم الراشد: الإنفتاح السياسي والإعلامي، المشاركة السياسية الفعالة، النظام الانتخابي التنافسي، العقلانية في اتخاذ القرارات (فالقرار الخاطئ له تكلفة باهضة) استقلالية القضاء، حرية الإعلام والتعبير، كفاءة الإدارة، الفعالية الاقتصادية؛ أي الاستخدام المستدام للموارد الطبيعية وحماية البيئة، اللامركزية (توزيع السلطة المركزية على الأقاليم المحلية).
ومن مظاهر ونتائج الحكم الراشد: الاستقرار السياسي، كفاءة الحكومة، قلة الفساد للتعرض للمساءلة والمحاسبة، ارتفاع الدخل الفردي ومستوى الرفاه، جودة التعليم وتراجع نسب الأمية. إن توطين أسس الحكم الراشد كثقافة إدارية وآلية سياسية وقانونية لعمل النظام السياسي من خلال عملية الانتقال الديمقراطي وضمان شفافية النظام الانتخابي واستقلالية العدالة والقضاء وتفعيل دور المؤسسات الرقابية واستقلالية المجتمع المدني وفعالية الأحزاب السياسية كقوة اقتراح ومراقبة، وتفعيل حرية الصحافة والإعلام في كشف الحقائق ونقد المسؤولين وسياساتهم، يعتبر ضرورية وجودية وحتمية عصرية لفعالية الأنظمة السياسية في عصر العولمة وما أفرزته من تنافسية وانكشافية إعلامية للمجتمعات، ويستوجب ذلك تأسيس مناخ سياسي وقانوني وثقافي وأخلاقي واجتماعي ملائم لإحلال مبادئ الحكم الراشد في النظم العربية المعاصرة، ويتأتي ذلك بأخلقة الحياة السياسية من خلال:
1- التأسيس لشرعية ونزاهة العملية الإنتخابية من خلال تطوير آلياتها ومؤسساتها ومرجعياتها القانونية، لأن الإنتخابات تعتبر الأداة الرئيسة للتعبير عن الإرادة الشعبية في اختيار من ينوب عن الشعب في تسيير شؤونه وتشريع الأنظمة والقوانين التي تلامس معيشته اليومية.
2- وهذا يستوجب تطوير النظام الانتخابي بوضع آلية انتخابية فعالة ودقيقة تعكس بصدق توجهات الناخبين وإرادتهم، من خلال التوظيف الكفء للتكنولوجيات والبرمجيات الرقمية الحديثة، لأن شرعية وفعالية الأنظمة السياسية تتم عبر نزاهة العملية الإنتخابية بكافة مراحلها وضمانها لمبدأ التمثيل الحقيقي الذي سيفضي إلى التداول على السلطة دوريا.
3- ضرورة تحقيق التوازن بين السلطة التنفيذية والتشريعية، مع سيادة واستقلالية السلطة القضائية، أي وضع حدود واضحة للسلطات الثلاث ومنع تغول رأس السلطة التنفيذية(الرئيس) لأن هذا من أكبر عوامل جمود النظام السياسي وفساد الحكم.
4- الفصل التام للسلطة القضائية وسيادتها وعلويّتها على باقي السلطات والمؤسسات والأشخاص،لأنها تمثل الحصانة من أي انحراف للنظام السياسي أو للمسؤولين، وهي صمام أمان واستمرارية الدولة، وتتحقق استقلالية وعلوية السلطة القضائية من خلال إبعاد أي شبهة للتداخل بين السلطة التنفيذية والقضائية فيما يتعلق بصلاحيات التعيين، وذلك باتخاذ إجراءات هامة منها:تجريد رئيس الجمهورية من صفة “القاضي الأعلى للبلاد”، واعتماد آلية الانتخاب للقضاة ووكلاء الجمهورية والنواب العامُّون وكل المناصب السيادية للسلطة القضائية أو تعيينهم من قضاة المحاكم العليا المنتخَبُون من نظرائهم، وأن ينحصر دور وزير العدل المعيّن في الصلاحيات التنسيقية واللوجستية.
5- ضرورة تبني معايير الكفاءة والجدارة في تولية المناصب السيادية والتحاكم إلى الرأي العلمي في تسيير الشأن العام، بعيدا عن أَضْرُبِ الممارسة الشعبوية والمجاملات الحزبية، فالدول الحديثة تستند إلى مراكز البحث وغرف التفكير الإستراتيجي والعقول الخلاقة والأفكار غير التقليدية وثقافة التحسين المستمر، وهي قيم ومعايير الجودة والتنافسية.
6- تطوير القطاع التعليمي حتى يصبح رافدا للمجتمع والاقتصاد ومنتجا للثروة الحقيقية للشعوب وهي المعرفة”رأس المال المعرفي”ببعدها القيمي والحضاري والإقتصادي والسياسي.
7- تفعيل المحاسبة والمراقبة الشعبية الدائمة على كل مؤسسات الدولة والإحساس المُتّقد والمستمر بالمسؤولية الجماعية تجاه الوطن، وعدم السماح بتراكم الفساد والتمكين لأهله، والقضاء على مظاهر الرداءة السياسية وثقافة الزبونية والشخصنة والولاء المطلق وصناعة المتسلطين بالتزلف والتملق، والتحول نحو ثقافة الجودة والكفاءة ومعالجة الأفكار.
8- ضرورة استعادة السيادة الشعبية عبر المشاركة الفعالة في الموعيد الإنتخابية وتوكيل الشرفاء والعلماء والأكفاء ودعمهم للوصول إلى مختلف مراكز القرار في الدولة.
9- التأسيس لثقافة المواطنة الفاعلة والإيجابية والتي تعتبر من أخص ركائز الحكم الراشد والتنمية بمختلف أبعادها، أين يكون الفرد فيها محور نجاح كافة المشاريع التنموية والإصلاحية.
10- الوعي بأهمية التعليم والمورد البشري والاستثمار في رأس المال المعرفي والفكري في صناعة الفعل الحضاري والرشد السياسي وتطوير مستوى التفكير والأداء والذكاء المجتمعي، وإيجاد ممارسات مجتمعية حضارية تركز على مناقشة البرامج والأفكار بدل الأشخاص.
11- التأسيس لمجتمع مدني مستقل وفاعل ورافد للمشاريع التنموية للدولة؛ وقادر على طرح البدائل والأفكار الجيدة في مختلف القطاعات، فميزة المجتمعات المعاصرة هو إطلاق الإرادات والمبادرات المجتمعية لتنمية الإبداع الجماعي والمساهمة في المشاريع التنموية التفصيلية التي لا يمكن للدولة أن تستوعبها وتستغرقها، فالمجتمع المدني القوي هو داعم حيوي وعنصر أساس في نجاح السياسة العامة وممارسة الرقابة الشعبية بكفاءة.
(المصدر: مدونات الجزيرة)