التربية الإسلامية ضرورة حضارية
بقلم الأستاذ محمد الإدريسي بخات
لا شك أن التربية الإسلامية هي أساس التغيير؛ بل هي الحل الوحيد للإنسان المسلم من أجل سعادته دنيا وأخرى. وما تحققه هذه التربية لا يحققه التعليم حتى وإن كان دينيًا؛ لأن هذا الأخير ما هو إلا تلقين وتبليغ معلومات، أما التربية الإسلامية فتعتمد في تحقيق أهدافها على القدوة والسلوك والمثل الحي، ونجد القرآن الكريم يعتمد هذا الجانب ويركز عليه فيقول تعالى: ﴿.. كُونُوا رَبَّانِيّٖنَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الكِتٰبَ وبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ﴾ [آل عمران: 79]
فهي تربية القرآن وحدها التي تضمن التغير الجذري الشامل من أعماق النفس الإنسانية. قال تعالى: ﴿إنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ﴾ [الرعد:11] وأول منطلق تنطلق منه التربية الإسلامية هو أنها ترسخ في الأذهان العلاقة بين العباد وربهم فهي علاقة غاية ورعاية وحب يشترك فيه ويتمتع به كل المخلوقات، يغدقه عليهم رب العزة -جل جلاله-.. وهي علاقة عبادة وخشوع وخضوع وطاعة مطلقة وحب أيضًا يلتزم به العباد نحو ربهم الكريم.. وهي أيضًا ترسخ في أذهانهم أن العلاقة بين الخلق عمومًا هي تبادل المنافع في حدود ما يرضي الله – فالخلق كلهم عيال الله تعالى «وأحبهم إليه أنفعهم لعياله» كما جاء في الحديث الشريف.
وهكذا يتبين لنا أن النظرية الإسلامية في التربية تتصف بالتكامل والثبات، وهو ما يعوز جميع النظريات التربوية في الغرب – فهي تستمد منطلقها من الله رب العالمين.. ولا يخفى علينا ما تشع به كلمة (رب) من معاني التربية والرعاية والعناية والحب.. وتنصب في تطبيقها على النفع العام الشامل لكل الخلائق – وبذلك تتحقق الخلافة على الأرض لهذا الإنسان الذي كرَّمه ربه تكريمًا. ولنا من تراث أجدادنا – والحمد لله – ذخيرة طيبة وثروة غنية من التجارب الملتزمة بالإسلام، وليس لنا إلا أن نعود إليها فنقتبس منها ما يتلائم وعصرنا الحاضر وتطلعاتنا لمستقبلنا الزاهر – مع الحذر مما تسرب إلى ذلك التراث من تشويه مقصود أو غير مقصود.
فإذا كانت البلاد الإسلامية قد استوردت النظام التربوي الغربي لتطوير الجانب الحضاري المادي فيها، فإن الإنسان الغربي اليوم يعاني فراغًا مخيفًا ويحس بإحباط رهيب في جميع ميادين حياته – فقد حصل على التقدم الحضاري المادي الذي كان يسعى إليه، ولكن ما كان يحلم به من سعادة لم يتحقق منها شيء؛ بل لعله فقد منها الشيء الكثير.. واعتقد أن خيبة الأمل التي ترتبت على هذا التقدم بسبب ما ولده في النفوس من غرائز وأهواء عجز الناس هناك عن السيطرة عليها وكبح جماحها – هي التي أدت إلى ما نجده عند (روني أوبير) صاحب كتاب (التربية العامة) من تشاؤم أدى به إلى استعمال هذه التراكيب الكئيبة التالية: ( … عصر تضربه العواصف وفي مجتمع لا يدري بعد ماذا سيكون غدًا بل ماذا يريد أن يكون … ) وها هنا في الواقع تثوي عقدة (مأساة التربية المعاصرة..) في عصر طغت فيه مشاغل الساعة الحاضرة على كثير من العقول. وسيطرت عليها الحوادث الآنية السريعة. وعصفت بها زوبعة الأهواء الاجتماعية العامة. وسيقت إلى أن تسير في دروب لا تدري مؤداها …
إن أكبر خدمة يقدمها رجال الفكر إلى عصر (تعيس) ألا يقولوا له غير الأشياء التي قبلوها على عاتقهم، وهذه النغمة الكئيبة أصبحت اللحن الأساسي في كل كتب المفكرين الغربيين تقريبًا. إن أسوأ ما تثيره زيادة التعرف على الكون ونواميسه لدى الإنسان الغربي شعوران متناقضان تمامًا:
1- الشعور بضآلته وضياعه.
2- الشعور بالغرور والكبرياء.
فمن طغى لديه الشعور الأول:
يشعر بالتمزق والضياع والقلق والغربة.. وتجرفه موجات إدمان المسكرات والمخدرات أو الديانات والمذاهب الهروبية المزيفة. ومن طغى لديه الشعور الثاني: تأخذه العزة بكل إثم.. وتجرفه موجات الإلحاد والمذاهب الفاشية أو النازية أو العرقية أو الشيوعية.. إلخ..
وإلى عهد قريب كان العالم الإسلامي يعاني الخذلان والضعف؛ لأنه تخلى عن مبدأ إعداد ما يستطيع من القوة ولم يعد يأخذ بأسبابها فابتلاه الله باستعمار مكشوف أذاقه من الهوان والخسف ألوانًا. أما اليوم فقد أضاف إلى مصائبه ثالثة الأثافي بأن أضحى يشعر بالهزيمة في أعماق نفسه إزاء ما حققه غيره من تقدم مادي أخذ بأسبابه وتخلى هو عنها. وبدل أن يغير ما بنفسه فيغير الله ما به وجد من ينادي بأن مصيبته في دينه، فإن أراد تحقيق ما حققه غيره فما عليه إلا أن يهجر هذا الدين جملة وتفصيلًا ويتبنى نقيضه جملة وتفصيلًا. ورفع بعض من لا يحسون بالخطر إلا إذا نزل بساحتهم أصواتهم يولولون فزعين مذعورين بأن في هذا محوًا لكيان العالم الإسلامي وفناءه في الكيان الدخيل. فإذا ببعض من عميت منهم الأبصار والبصائر يواجهونهم شامتين متوقحين: وما في ذلك؟ فليكن!
تلك ضريبة التخلف والانحطاط، علينا أن نؤديها عن طيب خاطر أو وأنوفنا مرغمة.. وقد وقع الأمران لشعوب عديدة قبلنا ولن نكون الأخيرين أيضًا.. والحضارات تموت لتقوم على أنقاضها حضارات.. والبقاء دائمًا للأصلح والأقوى. ولكن لله رجالًا يظهرون في الأوقات الحرجة التي يمر بها هذا الدين. وأربعة عشر قرنًا من عمر حضارته كافية لتصدق نبوءة رسول الله –صلى الله عليه وسلم- بأن على رأس كل مئة عام يبعث الله للناس من يجدد لهم أمور دينهم وهذه الصحوة الإسلامية التي يعيشها عالمنا الإسلامي خير دليل على ذلك. ومن قلب أرض النور ترتفع اليوم وغدًا أصوات بعض هؤلاء الرجال يتنادون ليحتموا بالأمل والرجاء.. ندعو لهم بالتوفيق والسداد ونعتبر أنفسنا مجندين لتطبيق كل ما يدعوننا إليه من خير يصلح أمور ديننا ودنيانا.
(المصدر: مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند)