جامع كتشاوة عنوان للثقافة الإسلامية في الجزائر
إعداد فاطمة طاهي
جامع كتشاوة، هذا الصرح الديني الذي لا يزال صامدا شاهدا على تاريخ الجزائر العميق، مقاوما المستعمر الفرنسي، الذي أراد طمس هويته وحضارته، واقفا مصرا على انتمائه الحضاري الإسلامي، هو أحد المساجد 13 الموجودة بقصبة الجزائر العاصمة، التي يعود تاريخ تأسيسها إلى الحقبة العثمانية، اليوم تفتخر به الجزائر ليكون متحفا مفتوحا بمدينة قصبة الجزائر الحضارية، “كتشاوة” من أجمل المساجد، كيف لا؟ وهو الذي يصفه الرحالة أبو القاسم الزياني في كتابه (الترجمانة الكبرى) قائلا:”فلو رأته السليمانية بالقسطنطينية لسلبها، ولو كلمته آية صوفيا ما أجابها، ولو قابله الجامع الأزهر لتعجب من حسنه وانبهر، ولو ناظرته مساجد الشام وحلب لاعترفوا بفضله، ولو سمعت بتشييده بيعة الأشبونة لتهدمت، ولو شاهدته كنيسة روما العظمى لأسلمت”.
جامع كتشاوة…الموقع وأصل التسمية
يعتبر جامع كتشاوة من أشهر الجوامع التاريخية، التي يعود بناؤه إلى العهد العثماني، وبالضبط في سنة1021هـ/1612م، بمدينة القصبة بحي ساحة الشهداء، وتسمية “كتشاوة” تعود إلى السوق الموجود في الساحة المحاذية للمسجد، والتي كانت عبارة عن سوق يباع فيها الماعز، فكان الأتراك يطلقون عليها اسم سوق الماعز، وباللغة التركية “كيجي” تعني السوق، و”اوى” تعني الماعز، وفي هذا السياق يقول الباحث في تاريخ الجزائر في الفترة العثمانية، الأستاذ حمزة زكار: أن الأصل في الكلمة هي “كجاوة” وليس “كتشاوة”، كما يضيف أن بعض الروايات توحي بوجود مسجد صغير تعود نشأته إلى عام وتم توسيعه عند قدوم العثمانيين، ورواية أخرى تقول: أن كلمة “كتشاوة” نسبة لزاوية كانت موجودة قريبة من مسجد كتشاوة تسمى بزاوية كتشاوة.
تأسيس جامع “كتشاوة”
ذكر الأستاذ حمزة زكار، الباحث في تاريخ الجزائر في الفترة العثمانية، أن بناء هذا المسجد يعود إلى الفترة العثمانية، على يد والي الجزائر خير الدين بربروس، وهو قائد أحد أكبر الأساطيل العثمانية، وذكرت أقدم الوثائق أن تأسيس جامع كتشاوة يعود إلى سنة 1021هـ/1613م، في عهد مصطفى كوسا الثالث، الذي حكم في فترة 1019هـ، 1021هـ/1611م، 1613م، حيث أشار إلى أن المسجد كان مذكورا آنذاك، ولكن لم تذكر معلومات أخرى عنه، ثم شيد مكانه مسجد “كتشاوة” من طرف حسن باشا سنة 1209هـ/1794، 1795م خال مصطفى باشا، والذي حكم مدينة الجزائر من 1791 إلى غاية 1798، ثم قتل من طرف الجيش الانكشاري في مسجد السيدة، الذي كان يقابل قصر الجنينة في ساحة الحكومة.
تجديد جامع كتشاوة…حسان باشا مجدده
كما حدثنا الباحث حمزة زكار، عن اللوحة التذكارية لجامع كتشاوة الموجودة في المتحف الوطني للآثار القديمة، فيها كتابات على مادة الرخام تبين تاريخ تجديد جامع كتشاوة، الذي كان سنة 1209هـ، من طرف حسان باشا، وحسب الأستاذ حمزة زكار، أن هذه اللوحة تفيدنا بأن هذا المسجد يعد من المساجد الجامعة التي تقام فيها صلاة الجمع والأعياد، إضافة إلى الصلوات الخمس، كما تبين لنا هذه الأبيات منظر الجامع الذي كان يسر ويعجب كل من رآه، وجاءت الكتابات على شكل أبيات شعرية، يذكرها الباحث وهي كالآتي:
حبذا جامع يرام بالمنا من مبلغ القصد * وتبسم بروق الختام من أفق العهد
بناه سلطاننا الرضي عظيم القدر * حسن باشا بالبهاء عديم المثل والند
قد أفتى لتشييد أساسها، على التقى * ثقل فخاره من مال تجلى، عن العد
وحاز بهجة لدى الناظرين أرخ * لما كملت كالسعد وباليمين والمجد
ومن المآثر الطيبة لحسان باشا هو تجديد جامع كتشاوة، وهو حفيد الداي محمد عثمان، تولى عدة وظائف مدنية وعسكرية، كان قائدا للجيش الجزائري في عهد جده، وبعد وفاة الداي محمد عثمان ترأس الحكومة الجزائرية في 12 ذي القعدة 1205هـ/ 13 جويلية 1791م، أنفق على تجديد جامع كتشاوة أموالا طائلة، فجلب له مواد البناء الجيدة ولاسيما صواريه الرخامية التي أمر بصنعها في إيطاليا، واعتمد في تجديده على الصناع الماهرين وفي مقدمتهم النجار الشهير، المعلم أحمد بن ألبلاطي، أمين نقيب النجارين بالعاصمة، هو الذي باشر بنفسه صنع تاج باب المسجد المحزم المنقوش لجامع كتشاوة أثناء التجديد، والخطاط الشهير إبراهيم جاكرهي في عملية النقش والزخرفة وكذا في الكتابة.
أبو القاسم الزياني يمدح جامع “كتشاوة”
قال الرحالة الأديب أبو القاسم الزياني رحمه الله في كتابه العجيب الترجمانة الكبرى:”وفي يوم الجمعة توجهت مع أصحاب لي حملوني على الصلاة في المسجد، الذي أسسه حسن باشا بعد سفرنا للحجاز، وأقام به الجمعة، فدخلته وشاهدته وصلينا الجمعة، وأخبروني بما أنفق عليه من الأموال، وما جلب له من أصناف الرخام والمرمر، وما أوقف عليه من الرباع والضياع، ما لا تسمح نفس أحد بإنفاقه، إلا من وفقه الله، ومن الغد رجعت إليه منفردا، وتأملته موضعا موضعا، وميزت فيه من أنواع الصنع واختلاف الأشكال ومناسبة الموضوعات من كل نوع، إلى أن أحصيت جميع مواضعه، وكأنه نصب عين في الغيبة، وأنشأت فيه رسالة، ولفقت أبيات على قدر وسعي في مدحه ومدح بانيه وتجزيته على ما قام به من رسم معالم الدين، واتباع سنة المهتدين، وتطهير تلك البقعة التي كانت قبل ذلك تبرنة يباع بها الخمر ويجتمع فيها الأشرار…وصيرها مسجدا جامعا لأهل الخير والدين والعلماء الأعلام، وأنفق عليه من الأموال ما لا تسمح نفسه بإنفاقه، وعمره بالحلال، الذي هو من خالص أرزاقه، ورتب فيه أهل الهندسة والفلسفة من كل صنعة، وأتقنوا بناءه سعة ورفعة، وجعل أسفل هذا المسجد دكاكين وقهاوي، أوقفها على المسجد المذكور الذي ذخره ليوم البعث والنشور، وحقق قبلة هذا المسجد أهل العلم والفتوى، وأوقف على عمارته من لا شك أنه من أهل الخير والتقوى، وجمع له من أنواع المرمر والرخام من بلاد الأتراك والأروام من كل قائم ومبسوط ومربع ومخروط ومدرج ومشجر ومنقوش ومسطر وخدود وقدود وقيام وقعود وأعتاب وأبواب، وخصص ومحراب، وفي وسط قبة عظيمة مرتفعة في الدلك، يفزع من لمعان أنوارها في البحر السمك قائمة على سواري كالصداري مجردات عواري، كالجواري يحاكين في بياض اللون البرد النازل من الكون، كأنهن في القيام حور مقصورات في الخيام، وجعل لهذه القبة سراحيب بأنواع البلور الذي لم ير في عصر من العصور، يكاد سنا برقه يذهب بالأبصار، ودار بهذه القبة قبب على شكل منمق كأنهن جدول موفق… وداخلتني من القشعريرة والخشية ما أنطقني الله بما يتقبله من الأدعية.
أبو القاسم الزياني يمدح حسان باشا
وفي حوارنا مع مدير الثقافة الإسلامية بوزارة الشؤون الدينية والأوقاف، الدكتور أمحمد قريق احسن، والذي قدم لنا أقوال أبو القاسم الزياني في مدح حسن باشا مجدد جامع كتشاوة:”فإنه حفظه الله من أمراء العدل ومن أهل المروءة والفضل، لما جلس على كرسي الخلافة السعيد سوى بين القريب والبعيد، وانتصف للمظلوم من الظالم، وأعز المسكين والشريف والعالم وقمع أهل الزيغ والفساد، وكفى عادياتهم في البلاد، وأجرى أحكامه على القانون الشرعي والمذهب الحنفي، وأجرى الصدقات على الفقراء والأيتام والمعونة لأهل الحرمين في كل عام، فشمل عدله الرعايا سهلا وحيالا، وشاعت مكارمه أفرادا وجملا، ثم حصن ثغور المسلمين بالصفائل والأبراج، وعمرها بالمدافع والمهارز على طبقات تحاكي الأدراج…كما أتبع أبو القاسم الزياني في مدحه لحسان باشا بأبيات شعرية قائلا:
شيدت ذا البيت أشرف الملوك ومن * أحيا الجهاد ببر الترك والعرب
ما مثله مسجد بالنقيء عمره * للأتقياء وأهل العلم والأدب
أبقاه دينا على أهل الزمان لمن * يرغب أن يقتدي في الخير والقرب
فخر السلاطين بين الورى حسن * أبشر فقد فزت بالفردوس والرتب
إن جئت روضة شوقا على ظمأ * فاقصد إلى منهل أرخته واشرب
وعلمت أن معمره ممن أصلحهم الله وسرهم وأن لله رجالا لو أقسموا على الله لأبرهم.
المصادر المالية وأوقاف جامع كتشاوة..مؤسسة سبل الخيرات
كما تحدث مدير الثقافة الإسلامية بوزارة الشؤون الدينية والأوقاف، الدكتور أمحمد قريق أحسن، عن المصادر المالية التي كانت تسير شؤون جامع كتشاوة، والتي كان يعتمد عليها المسجد في تغطية نفقاته واحتياجاته هي الأوقاف، وقد كانت ترعى هذه الأوقاف لجامع كتشاوة في العهد العثماني مؤسسة سبل الخيرات الخاصة بأوقاف المساجد الحنفية، ويضيف أن هذه المؤسسة تأسست على يد شعبان باشا، والتي تعود إلى سنة 1073هـ/1662م، حيث كانت خاصة بأتباع المذهب الحنفي، أي مذهب الطبقة الحاكمة في تلك الحقبة العثمانية، كما يضيف الدكتور محمد قريق أحسن، أن أكثر أوقاف جامع كتشاوة كانت مقدمة من طرف حسن باشا، الذي أعاد بناء هذا الصرح الديني، وعمل على توسيعه بشكل ملفت للنظر، وقد اطلع الشيخ عبد الرحمن الجيلالي على وثيقة الوقف بخط الداي مختومة بخاتمه، المؤرخة في شهر شعبان 1210هـ/1796م، التي فيها تفصيل لأوقاف جامع كتشاوة وبيان مصارفها، وفيها أيضا مختلف الوظائف التي كانت تمارس بهذا المسجد، حيث ذكر الشيخ عبد الرحمن الجيلالي، رحمه الله أن عدد الموظفين قد بلغ سبعا وأربعين موظفا.
جامع كتشاوة…جامع حنفي في العهد العثماني
وذكر أيضا مدير الثقافة الإسلامية، الدكتور أحمد قريق أحسن، أن ظهور المذهب الحنفي في الجزائر كان بعد مجيء الأتراك، الذين عملوا على نشر مذهبهم الذي كان منتشرا بالشرق، حيث جاؤوا بالفقهاء الحنفية من بلادهم وأقاموا مناصب القضاء والإفتاء في المساجد بالجزائر، فساد بذلك المذهب الحنفي المغربين الأدنى والأوسط، تونس والجزائر.
الإفتاء والقضاء بجامع كتشاوة في العهد العثماني
ومن جهة أخرى، أشار الأستاذ زكار حمزة، باحث في تاريخ الجزائر في الفترة العثمانية أن الفتوى في العهد العثماني كانت على مذهبين: مذهب الإمام أبي حنفية ومذهب الإمام مالك، وكان المذهب الحنفي هو المذهب الرسمي لأن الأتراك كانوا أحنافا، ويضيف أن في مسجد كتشاوة كان إمام حنفي والذي سمي من طرف الحكام العثمانيين بالقاضي الحنفي أو بشيخ الإسلام مثلما كانوا يسمونهم في اسطنبول، أيضا كان القضاء في الجزائر بمقتضى المذهب الحنفي، وحسب المتحدث أن في الفترة العثمانية كان في الجزائر قاضيان أحدهما للمذهب الحنفي والآخر للمالكي، وكان في جامع كتشاوة قاض حنفي، عكس الجامع الكبير، الذي كان يحتوي على قاضيين ومفتيين: مالكي وحنفي.
أشهر علماء وأئمة جامع كتشاوة في الفترة العثمانية
جاء في بعض الوثائق حول جامع كتشاوة عن إمام للجامع يسمى، محمد بن سعد البكوش كان إماما بمسجد كتشاوة وهذا ما نقله ابن المفتي بجامع كتشاوة، “وكذلك سيدي سعيد البكوش مجهول عندنا وابنه محمد كان إماما بمسجد كتشاوة المقابل لعين تبيع بالماء”.
الدور الديني والتعليمي لجامع كتشاوة
كما قال الباحث حمزة زكار، أن جامع كتشاوة في الفترة العثمانية كان يولي أهمية بالغة لتحفيظ كتاب الله عز وجل والفقه والتفسير، وتعلم اللغة العربية بمختلف فنونها من نحو وصرف وبلاغة، وبهذا الصدد يضيف الأستاذ حمزة زكار، أنه بعد تعليم القرآن واللغة العربية والحساب في المساجد في الفترة العثمانية، كان الطلبة يخيرون بين مواصلة الدراسة أو إعطاء دروسا للطور الابتدائي، وهناك من يختار حرفة أبائهم، أما الطلبة الذين يفضلون إكمال الدراسة، يستكلف بهم بيت المال أو المؤسسات الخيرية، ويتم إرسالهم إلى مصر أو إلى اسطنبول، كما يذكر المتحدث أشار الأستاذ إلى وجود 12 جامعا في الفترة العثمانية يدرسون الطور الجامعي أي التعليم ذا المستوى العالي، كجامع السفير، جامع شعبان خوجة، وجامع حسان ميز ومريد، جامع خضر باشا، جامع البراني، جامع الجديد، وجامع الكبير، جامع سيدي رمضان، جامع علي بتشين، وجامع السيدة، كما يضيف أن مؤسسات الأوقاف كانت تأتي بالمدرسين من العالم الإسلامي وتتكفل بمصارفهم وبالطلبة، ويقول الباحث في تاريخ الجزائر حمزة زكار:”أن الفترة العثمانية جعلت من الجزائر صفر أمية”.
الكتابات التأسيسية لجامع كتشاوة…شواهد مادية
تعتبر الكتابات التأسيسية التي كانت في جامع كتشاوة من الشواهد المادية، التي يمكن الاعتماد عليها، حيث قد أفادتنا بمعلومات لم نكن لنحصل عليها من مصادر أخرى، حيث أتاحت لنا فرصة التعرف على شخصية حسن باشا وعلى بعض الشخصيات الأخرى، وعلى أهم الانجازات والأعمال التي قاموا بها، وبالتالي لابد من العناية بهذه اللوحات وصيانتها.
شكل جامع كتشاوة قبل طمسه من قبل الاستعمار الفرنسي
يخبرنا الأستاذ حمزة زكار، أن جامع كتشاوة كان ذا شكل مربع، وكان مظهره في الحقبة العثمانية عبارة عن قبة واسعة ذات ثمانية جوانب تحيط بها أروقة، هذه الأروقة قوامها أربعة أعمدة رخامية مستديرة ومازال بعضها يدعم جناح الجامع حاليا، كما كان يوجد رواق مزدوج في الجانب المواجه لجدار القبة، التي يخبرنا عنها الزياني من خلال وصف إعجابه لهذه القبة “وجعل لهذه القبة سراجيب بأنواع البلور الذي لم ير في عصر من العصور، يكاد سنا برقه يذهب بالأبصار، ودار بهذه القبة قبب على شكل منمق كأنهن جدول موفق من ثنائي ورباعي وخماسي وسداسي وسباعي ومقربص ومشجر، وقاطع مقطوع ومسطر…وفوق ذلك من الأسباغ كان لونا غريبا… وكتبوا أسماء الله وآياته وأنبياء الله وخلفائه تعظيما بالذهب الإبريز الصبان، وليس الخبر كالعيان، وأدار بهذه القبة شد روانا من العود مموه بأنواع الأطلية الفائقة بالألوان…”، وتقوم بيت الصلاة على 16 عمودا ويوجد منها ستة محفوظة في المتحف الوطني للآثار القديمة، وحسب الأستاذ حمزة زكار أنه توجد بجامع كتشاوة سدة كالعادة في المساجد الحنفية، التي تحدث عنها أبو القاسم الزياني قائلا:”… وأمامه كشك يجلس به المؤذنون وأهل الألحان والقراءات، ومن له وظيفة بالمسجد كالموقت والراوي لحديث الإنصات…”، وفي وصفه أيضا لجمال وحسن المنبر يقول:”وجعل لهذا المسجد منبرا من الرخام اشقاق مؤلف من سبعة أصناف، من مرمر وجزع وزبرجد وودع وفيرونج وفاروز، كأنه اللواء المشروز، أبدع فيه كل خارط صنعة الخرط، وكل ناقش زاد على الشرط وكل مسطر حقق ما سطر وكل مشجر أبدع فيه ما شجر، فهو كالأمير والتاج على رأسه…”، ويقول الباحث حمزة زكار، أن مئذنة جامع كتشاوة كانت من الطراز المغربي أي على شكل مربع، ويضيف أن الخطاط الشهير إبراهيم جاكرهي” هو الذي قام بالزخارف والنقوش، وأيضا في كتابة بعض الآيات القرآنية عند إنشاء المسجد في العهد العثماني، وحسب الأستاذ حمزة زكار أن حسان باشا قد استعمل في بناء هذا المسجد مواد البناء الفخمة، التي لم تستعمل في المساجد الأخرى، حيث طلب المرمر من إيطاليا وسكيكدة، مشيرا أن مدينة سكيكدة في تلك الحقبة كانت تصنع أجود أنواع المرمر وهو المرمر الأبيض، حيث كان يطلبه السلطان العثماني في تركيا، الذي أرسل إلى الداي في الجزائر يطلب منه إرسال هذا النوع من المرمر من أجل مسجد باسطنبول، كما ذكر الأستاذ، بعض مبلغي مسجد كتشاوة من بينهم الشيخ سفينجة وأيضا محي الدين بشطارزي هذا الأخير الذي كان مبلغا ومؤذنا، إذ كان يقوم للأذان من دون مكبر صوت، كما كانوا يقدمون قصائد دينية، كانوا قبل ذلك يؤدون أغاني أندلسية، فجيء بهم إلى جامع كتشاوة، ومن خلالهم جاء الأذان الجزائري.
تحويل كتشاوة إلى كاتدرالية في عهد الاستعمار الفرنسي واستشهاد 4 آلاف جزائري
شهد جامع كتشاوة أحداثا تاريخية قاسية أدت إلى انهيار جزء كبير منه، ما إن احتل المستعمر الفرنسي أرض الجزائر، أمر الجنرال الدوق دوروفيغو القائد الأعلى للقوات الفرنسية، بإخراج جميع المصاحف الموجودة في جامع كتشاوة إلى ساحة الشهداء أين قام بحرقها، من أجل تحويل الجامع إلى كنيسة، قائلا:”يلزمني أجمل مسجد في المدينة لنجعل منه معبدا للمسيحيين”، وأمام عزم وإصرار الجزائريين على الدفاع عن جامع كتشاوة، حيث اعتصم أزيد من أربعة آلاف جزائري داخل المسجد فداء له، فكان مصيرهم الاستشهاد في سبيل الله والوطن، إذ لم يتردد الدوق دوروفيغو عن زهق أرواحهم، قتل ما يفوق عن أربعة آلاف جزائري، هم شهداء الجزائر، شهداء كتشاوة، شهداء الساحة التي تسمى اليوم على فدائهم وتضحيتهم بـ” ساحة الشهداء”، وفي سياق ذي صلة يقول الأستاذ حمزة زكار، أن فرنسا كانت تستهدف جامع الجديد لتحوله إلى كنيسة عوض جامع كتشاوة، لكن محمد بكر باي الصغير الشرشالي وهو أول طبيب في المرحلة الاستعمارية قد ضغط على صديقه الفرنسي حتى لا يتحول جامع الجديد إلى كنيسة، فوقعت أعين الاستعمار بعد ذلك على جامع كتشاوة، وقد استخدم مسجد كتشاوة قبل تحويله إلى كنيسة إسطبلا ومستودعا للسلاح ومسكنا لرؤساء الأساقفة إبان الاحتلال الفرنسي، وبعد تدميره عام 1844، أنشئت مكانه كاتدرالية بعد أن أدخلت فيه تعديلات،كما أعادوا بناء الواجهة، فكان البناء الجديد خليطا من الفن البيزنطي والروماني والإسلامي، وأما المآذن التي رفعوها فقد قيل أنهم قلدوا بها شكل جامع “قايت باي” وجامع محمد الناصر بالقاهرة، ولم يبق من جامع كتشاوة الأصلي والذي يعود للفترة العثمانية إلا القليل جدا كالمنبر والأعمدة الرخامية، وسميت الكاتدرالية بسان فيليب، وقد أرسلت الملكة “اميلي” زوجة لويس فيليب الهدايا الثمينة للكنيسة الجديدة، أما الملك فقد أرسل الستائر الفاخرة وبعث البابا “غريغور السادس عشر” وكذا تماثيل للقدسين وفي هذا الصدد أضاف الأستاذ حمزة زكار، أن الفرنسيين ترددوا في وضع الصليب خوفا من ردة فعل الشعب الجزائري، إذ لم يوضع حتى غاية الستينات.
جامع كتشاوة بعد الاستقلال…أول خطبة ألقاها الشيخ البشير الإبراهيمي
في هذا الصدد، يذكر لنا الدكتور أحمد قريق أحسن، بأن بعد استقلال الجزائر في 1962 أقيمت أول صلاة جمعة، وهي الجمعة الأولى التي تلت مباشرة استقلال الجزائر، وكان خطيبها العالم الجليل الجزائري الشهير الشيخ البشير الإبراهيمي، أحد مؤسسي جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، شهد الجامع اكتظاظا كبيرا من المواطنين إلى جانب مسؤولي الدولة وبعض الوفود الإسلامية، كلهم لأداء الصلاة بجامع كتشاوة، والاستماع لخطبة العلامة البشير الإبراهيمي، كما نقلت خطبته مباشرة عبر أثير الإذاعة الجزائرية، وقد قام الجزائريون بعد الاستقلال بإعادة إدماج القاعدة الرخامية للمنبر، كما أعيدت القبة إلى مكانها الأصلي، وحسب أرقام وزارة الشؤون الدينية، يقول مدير الثقافة الإسلامية، الدكتور أحمد قريق أحسن، أن عدد المساجد التي تعود إلى الفترة العثمانية قبل الاحتلال الفرنسي كانت 300 مسجدا، ولم يتبق منها بعد الاستقلال سوى 13 مسجدا يعود للفترة العثمانية من بينهم جامع كتشاوة، ومسجد علي بتشين، مسجد عبد الرحمن الثعالبي، ومسجد السفير…
جامع كتشاوة بعد الترميم
كما حدثنا مدير الثقافة الإسلامية، الدكتور أمحمد قريق أحسن، عن عملية تأهيل وترميم جامع كتشاوة، حيث ذكر أنه بعد غلق جامع كتشاوة في 2013 بسبب ظهور ميل في صومعته بنحو 30 سنتمترا، أعلنت مؤسسة تيكا التركية في 2013 عن نيتها في تولي عملية الترميم، وذلك بالتعاون مع مؤسسات وعلماء أثار جزائريين، مشيرا إلى أن هذه التجربة سمحت للجزائريين من الاستفادة من خبرة تركيا في مجال ترميم المساجد، ويضيف أن عملية الترميم شملت المآذن والقبة المركزية للواجهة الرئيسية، بالإضافة إلى التدعيم الداخلي للجزء الفارغ للمدرج، وأيضا تدعيم فتحات الواجهات، كما أصبح جامع كتشاوة مزودا بمصعد كهربائي لذوي الاحتياجات الخاصة، كما أن الخطاط التركي حسين قوطلو، الحائز على جائزة الرئاسة التركية للثقافة والفن عام 2016، هو الذي أشرف على الكتابة والرسم بجامع كتشاوة، وقد تم إعادة تدشين جامع كتشاوة يوم الاثنين 26 فيفري 2018، بحضور الرئيس التركي رجب أطيب أردوغان، واليوم جامع كتشاوة أصبح من أهم المعالم السياحية التي تعود إلى الفترة العثمانية، يعد متحفا مفتوحا وقبلة للسياح والزائرين والمسافرين من أجل التعرف عن قرب بهذا الصرح التاريخي، الموجود بالمدينة القديمة بقصبة الجزائر، وعلى صعيد آخر يقول الباحث في تاريخ الجزائر في الفترة العثمانية، الأستاذ حمزة زكار:”تيكا رممت الجامع وليس الكاتدرالية، لأن الأرض هي أرض وقفية لحسان باشا، وفي القانون أن بناء على ملك الغير باطل، وما بني على باطل فهو باطل، وأعيد أن تيكا رممت الجامع”.
(المصدر: مجلة البصائر)