القدوات في زمن الهزائم
بقلم أ. محمد إلهامي
كان من حُسْن حظ العقاد -كما قال ذلك في مذكراته- أن بداية عمله في الصحافة كانت في صحيفة يصدرها الأستاذ “محمد فريد وجدي”، وهو اسم معروف في عالم الفكر والصحافة في مطلع القرن العشرين.
يقول العقاد بأن فريد وجدي كان مثالا في الصدق والنزاهة والوطنية، وفي التمسك بالحق الذي يعتقده، وأنه لهذا اضطر فيما بعد لإيقاف الصحيفة عن الصدور رغم العروض المغرية التي عُرِضَت عليه، من جماعة “تركيا الفتاة” لتكون هذه الصحيفة لسان حالها في مصر، أو من الخديوي نفسه.. إلا أنه أبى أن يكون ناطقا بلسان أحد وأن يتهدد استقلاله.
أغلق الصحيفة، وباع مكتبته الشخصية ليسدد أجر كل عامل في الصحيفة مليما بمليم، ولا ينقص من حقوقهم شيئا.
تذكرتُ هذا الموقف، لأني كثيرا ما ألقى شبابا من اللاجئين في اسطنبول، من سائر البلاد العربية، وهذه شريحة جريحة، يكاد ألا يكون لدى واحد منهم معاناة كبيرة، فمنهم من وصل بعد رحلة مطاردة وخطر، ومنهم من تحمل ذاكرته مقتل أخيه أو أبيه أو صديقه، ومنهم من هُدِمت بلده ونُهِبت داره، ومنهم من لا يزال غير آمن على أهله وقد فرَّقت الأوضاع بينهم!
على أني حين أستمع إليهم أشعر أن الجرح الأكبر الذي أصابهم إنما هو “انهيار القدوة”..
هذا الزلزال الكبير الذي أصاب بلادنا العربية، تمكن به الكثيرون من معايشة حال “الرموز والقدوات” التي كانوا قبل ذلك يفدونها بأرواحهم غير مترددين، ثم اطلع منهم فيما بعد هذا على أمور صُدِم بها، أهون هذه الأمور أن هذا الرمز لم يكن على نحو ما تصور من الكفاءة حتى إنه لا يصلح لإدارة شأن صغير بينما كان يتخذ قرارات ضخمة في مواقع حساسة، وأسوأ هذه الأمور ما وقع فيه بعضهم من فساد مالي أو أخلاقي أو نحو ذلك.
انهيار القدوة ليس شيئا هينا، ذلك أن المرء إذا لم يجد الفكرة متمثلة في أشخاص، فإن الشيطان يذهب به إلى ازدراء الفكرة نفسها، وإلى انتقاص المثال نفسه.. فغالبا ما يقترن انهيار القدوة بانهيار الفكرة كلها، وقليلٌ من الناس من يصمد ويفكر ويميز، إن الصدمة والغضب والمفاجأة تسرقه عن تذكر الأمثلة الحية الصالحة التي رآها ليتضخم في وعيه وضميره هذه الأمثلة التي انهارت.
وفي هذا المقام أود أن أقول أمورا مختصرة:
1- في زمن الهزائم يخرج أسوأ ما في الناس، هذا من طبائع الناس، ولا يصمد في هذه المحن إلا الأفذاذ الكبار، وهم ندرة بين الناس. لهذا فيجب أن نعلم أن ما نراه من الناس في زمن المحنة ليست طبيعتهم السوية.
2- علينا أن نكثر الدعاء لأنفسنا ولإخواننا أن يثبتنا الله على ما يرضاه حتى نلقاه، فما من أحد إلا وفي نفسه من أمراض القلوب ومن الذنوب ما يمكن أن يخذله الله به ويفضحه به بين الناس.
3- ينبغي على من يسر الله سبيلا للعلم والتربية والإعلام والمال والعلاقات أن يجتهد ليُظهر للناس خير ما في الناس، فكم من أهل فضل وصلاح وخير لا يُعرفون ولا يُستفاد منهم، ما بينهم وبين هذا إلا أن يُعرف الناس به إعلامي ما، أو يُمَكِّنه من التدريس والتربية صاحب علاقات أو صاحب أموال، أو أن يشير إلى متبوع معروف مشهور فيفتح للناس هذا الباب المغلق من الخير.. وليس كل الناس يحب -أو حتى يجيد- أن يُعَرِّف بنفسه أو ينهض بنفسه لموهبته، فقد وزع الله المواهب والطاقات.
(المصدر: صحيفة الأمة الالكترونية)