الشيخ محمد أمين آر الميراني .. آخر علماء العثمانيين (1909 – 2013)
ترجمة بقلم العلامة خليل عبد الرشيد
وقد توفي في أول شهر تموز 2013 عن عمر ناهز الخمس سنوات بعد المئة، رحمه الله وغفر له وأسكنه فسيح جناته.
إنه لمن دواعي فخري وتواضعي أن أجلس لأنقل جزء من حياة معلمي الذي قضيت 8 سنوات أتلقى العلم منه، والذي صقل شخصيتي وعلمني ونصحني وأعطاني الإجازة، والذي أصبح لاحقا الأب لحياتي الروحية، الشيخ محمد أمين ار.
الشيخ محمد أمين ار ولد في عام 1909 في قرية كولويان (التي سميت حديثا كالاش) في إقليم دياربكر في الجنوب الشرقي لما يسمى الآن تركيا التي كانت في ذلك الوقت الامبراطورية العثمانية. عائلة الشيخ أمين تنتمي الى قبيلة كردية تدعى ميران. أبوه، الحاج ذوالفقار، كان مزارعا غنيا ولديه عظيم اهتمام بالعلم والتعليم، وحصل أن يكون مالكا لبعض الثروات. لم يكن هناك مدرسة في قرية كولويان ولكن الحاج ذو الفقار وظف مدرس خصوصي ليعلم ابنيه الصغيرين، محمد واخوه الأكبر علي. بعد ذلك وبينما ابنيه يداومان على تعلم القراءة والكتابة بالحروف العربية -في ذلك الوقت كانت هي الحروف الرسمية للغة العثمانية والولاية- توفي الحاج ذو الفقار. وكان شيخ المستقبل كان قد فقد أمه حواء بينما كان لا يزال طفلا يافعا بعمر 3 أو 4 سنين فترك يتيماً -كرسول الله صلى الله عليه وسلم-. وإلى هذا اليوم الشيخ أمين يسافر إلى قبر أمه وأبيه في قرية كولويان على الأقل مرة في العام.
في هذا الوقت، كان الشيخ محمد أمين لا يزال عمره 10 سنوات، والدولة العثمانية كانت لا زالت قائمة كواحدة من الدول الكبرى في العالم ممتدة من شمال افريقيا الى اليمن ومن البلقان الى حدود بلاد الفرس. واجهت الدولة العثمانية هجمات منظمة من جهات عدة من الشرق والغرب. كما اضطرت إلى استنزاف مواردها المالية المترامية بالفعل للدفاع عن وحدة أراضيها. وبسب الحرب وتدهور الوضع الاقتصادي والصعوبات الاقتصادية الناجمة كانت شديدة في أنحاء البلاد، مر الفتى محمد أمين في ما تبقى من حياته بظروف قويمة جدا، أولا تحت عناية زوجة أبيه وبعدها تحت عناية أخيه الأكبر. وقد ساهم في دعم عائلته عن طريق رعي الأغنام في الجبال العالية المحيطة بالقرية. في كل الأحيان، رغبته التي أشعلها كل من أبوه ومعلمه السابق في تعلم القراءة والكتابة، كانت قد استمرت ونمت. وقد تعود على خدش الكلمات والجمل بالحجارة على الصخور المسطحة أثناء رعيه للأغنام في أنحاء الجبال لعدم امتلاكه قلم أو ورقة. هذا الشئ ساعد في تحسين مهارات القراءة والكتابة لديه بالرغم من الحرمان الكبير، الأمر الذي أدى لظهور أسطورة في قريته بأن الخضر -رفيق موسى والشخص الطاهر الذي يأتي لمساعدة الناس المحتاجين- زود الفتى محمد أمين بالدروس في منامه.
كان شغفه للمعرفة عظيم جدا لدرجة أنه كان يبكي بمرارة متوسلا من الله أن يساعده في تعلم قراءة القرآن الكريم. لم يضع أي فرصة ليبحث عن أي شخص يعتقد أن بمقدوره مساعدته. كان يرتحل على الأقدام لأيام عديدة في بعض الأحيان ليزور أصحاب المعرفة المجاورين لقريته. تعلم أخيرا كيفية كتابة الحروف وقراءة الكتب بالحروف العثمانية. كما بالنسبة للغة العربية والمعرفة بالتخصصات الاسلامية التقليدية، فلم يكن أحدا في ذلك الوقت في المنطقة قادر على تقديم نفسه لهذا النوع من العلم. لذلك هو بحث بقدر ما استطاع عن الكتب. رغم انشاء جمهوية تركيا الحديثة، والغاء الحروف العثمانية التقليدية وحظر استخدامها بجانب التعليم الاسلامي والقرآني، فبدأت العائلات بالخوف من عواقب تعليم القرآن لأولادهم حتى في خصوصيتهم داخل بيوتهم. كما يستذكر الشيخ محمد أمين ”… في ذلك الوقت كل شئ كان محرما في تركيا. حتى قراءة وتعلم القرآن كانت محرمة في تلك الأيام. لم يكن شيئا سهلا كما اليوم. لقد كانت أوقات صعبة جدا علينا، لذلك فقد عزمت للبحث عن العلوم الدينية في سوريا في أقرب فرصة أتيحت لي.” ولكن هذا لم يحصل. فبوصوله الى المدبنة الحدودية (غازي عنتب) كان محمد أمين قد حظر من العبور إلى سوريا. فعزم بدلا من ذلك على الذهاب إلى (أدنا) وبعدها إلى اسطنبول. لم يكن يعرف أحدا في اسطنبول وكان يحتاج للمال بأسرع وقت، ولذلك ذهب الى (بورصة) مشيا على الأقدام حيث عمل هناك كخادم عند إحدى العائلات الغنية ليكسب ما يعينه على العيش.
وفي عمر 25 خرج محمد أمين في أولى رحلاته المتعددة للحج إلى البيت الحرام في مكة. ومع عودته من هناك، كانت رغبته في البحث عن العلم المقدس لم تنقص، فتعهد بالذهاب في رحلات واسعة في شرق الأناضول باحثا عن المعلمين ليطلب منهم أن يعلموه. بعد ذلك صمم مجددا أن يعبر إلى سوريا للبحث عن معلم يستطيع إرشاده. في ذلك الوقت كانت الحرب العالمية الثانية قد بدأت وبالرغم من أنه نجج في اجتياز الحدود إلى سوريا، إلا أنه كان قد اعتقل على يد قوات الأمن التي اتهمته بأنه جاسوس. وتمت تبرئته واطلاق سراحه بواسطة السلطات بعد أن قضى بعض الوقت في السجن، ورجع بعدها إلى تركيا وبالتحديد إلى ديار بكر. وهناك استطاع أن يدرس المناهج التأسيسية للعلوم الإسلامية التقليدية التي تعتمد معظمها على اللغة العربية. وشملت هذه العلوم: المنطق الاقتراحي(علم المنطق) – الدلالات التاريخية (علم الوضع) – الاستخدامات التصويرية (الاسعارة) – آداب النقاش والجدال (المناظرات) – المعاني الأدبية (المعاني) – البلاغة (البيان) – الاستخدام المكرر (بادي) – أساسيات العقيدة الإسلامية (علم أصول الدين) – منهجية أصول الفقه (أصول الفقه) – الفقه الإسلامي لكل من المدارس الفقهية الحنفية والشافعية – وعلم النفس الروحية الإسلامية (التصوف). والمعلم الذي قضى معه الجزء الأكبر من هذا الوقت كان (الملا رسول)، زميل الدراسة للمشهور بديع الزمان سعيد النورسي. والشيخ محمد أمين كان قد قابل سعيد النورسي لاحقا ودرس معه بايجاز أيضاً. في عام 1951، أكمل الشيخ أمين أخر دراساته بانتهائه من دراسة علم اللاهوت الخطابي (كلام) وحصل على اجازة كاملة في كافة المجالات والتخصصات الاسلامية العقلانية والتقليدية التي تشكل المنهج لأعظم علماء العلوم الاسلامية التقليدية في عهد الإمام الغزالي في القرن الحادي عشر والثاني عشر. بالإضافة إلى ذلك فقد حصل الشيخ أمين على الاجازة في علوم تفسير القرآن (التفسير) والقوانين الدينية للميراث (الفرائض) وعلوم الأحاديث النبوية (أصول الحديث).
كرس الشيخ محمد أمين كامل حياته مقتديا على خطى معلميه بتعليم الانضباط الداخلي والخارجي للطالب، ومنح الاجازة لأولئك الذين يكملون تعليمهم بنجاح تحت جهوده التي ما زالت مستمرة إلى يومنا هذا. والمركزية في هذا هو موقعه ضمن السلسلة (الاسناد) المتصلة التي تمتد الى الرسول محمد صلى الله عليه وسلم. وبحسب العرف القائم بين علماء المسلمين أمثاله، فانه بدوره يمر على المعرفة المنقولة إليه من معلميه ويورث مكان في هذا السلسلة (الاسناد) الغير منقطعة للطلاب في القرن الواحد والعشرين. حتى لو كانت صدفة نادرة إلا أنه صحيحا أن اسناد متصل مثل هذا ظل مستمرا الى يومنا هذا. الشيخ محمد أمين لديه 6 اولاد و40 حفيدا. ابنه السابع توفي وهو طفل صغير. بعد تقاعده من الخدمة كإمام لسنين عديدة في مدن عدة فانه يعيش حياته بالعبادة الدينية. لديه القليل من وقت الفراغ ولكنه يستغله في قراءة ومراجعة القرآن الكريم والتأمل في تعليقات كبار العلماء على التساؤلات التي تحدث له أثناء قراءته. الشيخ أمين ينام قليلا حسب تقديره، تقريبا 3 ساعات خلال الليل وساعة او اثنتين قبل الظهر ان أمكن. ودائما ينام متوضأً اقتداء بسنة النبي صلى الله عليه وسلم، وواضعا في اعتباره أنه من الممكن أن يموت في نومه فانه يريد أنه يلقى ربه طاهرا. يستيقظ بحوالي الساعة الثالثة صباحا لصلاة التهجد ويبقى مستيقظا في حالة تأمل حتى دخول وقت آذان الفجر. وبعد ذلك يبقى في مكان الصلاة ويقرأ القرآن حتى طلوع الشمس، ويبقى بعدها لمدة أطول قليلا، وأخيرا يصلي ركعات تطوعية.
يقضي بقية الصباح في الكتابة العلمية، وأحيانا يستقبل الزوار. الشيخ أمين يكتب فقط باللغة العربية، ودائما يكون متجها ناحية القبلة ومتوضا. عندما ينقطع عمله لبعض الأسباب، فانه يتوضأ ويصلي ركعتين قبل اكمال كتاباته، مظهرا من الخشوع العميق ونموذجا قبل كل شئ للممثلين للتقاليد العلمية الاسلامية ولكن نادرا ما نواجه في يومنا الحاضر قبل المسئولية الجسيمة لنقل المعرفة.
بيته المتواضع في أنقرة بتركيا شاهد على التدفق المستمر من الضيوف، وعلى أنه لا يرفض أي طالب للعلم أبدا، بغض النظر عن مستواه. الشيخ أمين وضيوفه يجلسون على أرضية من السجاد في غرفة مصطفة برفوف من الكتب من الأرض حتى السقف. الطلاب والزائرون يقدم لهم الشاي والحلوى، وحتى أحيانا وجبات الطعام في الأوقات المخصصة. يدرّس طلابه على قواعد فردية، من خلال وتيرة وطريقة التدريس الأنسب لاستعدادات ومعوقات كل طالب. بالرغم من أن من عادته الصوم متى أمكن، إلا أنه يخرج عن العادة لاستيعاب الضيوف الغير صائمين من أجل وضعهم في راحة تامة أسهل في منشأته. هذا الإكرام بعيدا عن كونه مجرد مثال للأخلاق في جيله، إلا أنه يحيي سنة الأنبياء جميعا. وهذا مهم جدا للناس في منشأته أن لا يكونوا مهملين. إنه من الممكن معرفة الكثير عن السلوك المثالي من الكتب، وحتى إلى حد ما الى تقليد ما يقرأه الانسان. ولكن ليس كل شئ نريد معرفته عن هذا الأمر مكتوب، ولا يمكن لهذا أن يكون. بل إنه عن طريق الحفاظ على المنشأة للعارفين أننا نكتسب أساسيات السلوك المثالي من كلا الجانبين، المكتوبة والغير مكتوبة. سلوك الشيخ أمين يجسد ما نقل إليه من معلميه، من معلميهم إليهم، وهكذا دواليك على طول السلسلة الممتدة إلى المثال والمعلم الأكبر النبي محمد صلى الله عليه وسلم. كل هذا يعطينا شعور أعظم لما يمكن أن يضيع منا للأبد إذا ما كسرت سلسلة النقل لهذا التراث.
(المصدر: موقع “رجال المجد الضائع”)