فورين بوليسي: كيف أصبح تطرف القوميين البيض عابرا للحدود ومعاديا للمسلمين
نشر فلوريان بايبر أستاذ تاريخ وسياسة جنوب شرق أوروبا بجامعة جراز بالنمسا والمتخصص في الدراسات الإثنية والقومية مقالا في مجلة فورين بوليسي ناقش فيه التحولات في مشهد التوجهات القومية بأوروبا، مستعرضا صعود هذه الأفكار في القارة العجوز بموازاة ظهور الدولة القومية وصولا إلى يومنا هذا، الذي يركز فيه القوميون على محاولة بناء أوروبا البيضاء النقية عنصريا، وهو ما يستبعد المهاجرين الأجانب من دائرتهم ولاسيما المسلمين.
ويستهل الكاتب مقاله بقوله إن “العديد من الأحزاب اليمينية المتطرفة الأوروبية صنعت بصمتها بالتنديد بالاتحاد الأوروبي. ولكنهم الآن يسعون إلى صياغة هوية موحدة في عموم أوروبا لتعزيز هدفهم بإقامة قارة مسيحية بيضاء تتسم بالنقاء العنصري”.
تهيمن السلطوية والشعبوية والقومية على العناوين الرئيسية في الصحف في السنوات الأخيرة. من الهند إلى الولايات المتحدة مرورا بالقارة الأوروبية، يهدد هذا الثلاثي (السلطوية والشعبوية والقومية) النظام الديمقراطي الليبرالي السائد، على الصعيدين المحلي والدولي.
والثلاثة متشابكون بشكل وثيق. إذ يدعي كل من القوميين والشعوبيين ملكية الإرادة الحقيقية للشعوب، ويستخدمونها لتأطير حملاتهم حول روايات مفرطة في التبسيط تضع “الشعب” (عادةً المواطنون الأصليون المحددون عرقيا) في مواجهة نخبة معولمة ومنقطعة الصلة بالواقع.
ولكن استخدامهم لاستعارات مثل مصطلح “إرادة الشعب” تميل إلى أن تكون محددة وضيقة بشكل أكبر مما تشير إليه التسمية، حيث تتصادم مع منظور عام أوسع بكثير ويجبر السياسيين الشعبويين والقوميين على تبني أساليب سلطوية للاستيلاء على السلطة والحفاظ عليها.
وعادة ما كانت الأحزاب اليمينية المتطرفة ومعظم الشعوبيين متشككين في أوروبا، حيث يرفضون الاتحاد الأوروبي ويعارضون المزيد من التكامل داخل مؤسساته.
المسلمون هدف رئيسي للمتطرفين البيض
يقول الكاتب إن القومية والشعبوية والسلطوية ليست ظواهر جديدة، لكن مؤيديهم المعاصرين حققوا نجاحا في جميع أنحاء أوروبا، ويعود السبب في ذلك جزئيا إلى أنهم تبنوا نظرة حضارية أوسع نطاقا، ومن المفارقات أن هذه النظرة تركز أهمية الثقافة الأوروبية.
ووجد الشعبويون القوميون الإثنيون الجدد هدفين لهما؛ الأول يتمثل في النخب العالمية التي يفترض أنها لا جذور (أيديولوجية) لها والتي يمثلها بشكل رمزي الملياردير الهنجاري المولد ورجل الخير جورج سوروس، أما الهدف الثاني فيتمثل في المهاجرين المسلمين، سواء كان ذلك حقيقيا أم متخيلا.
وغالبا ما يدمج الهدفان معا، كما كان الحال عندما زعم رئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان أن سوروس خطط لتوطين المهاجرين المسلمين في أوروبا وتشجيع ما أسماه “الإحلال العظيم”، وهي نظرية المؤامرة اليمين المتطرف التي أشاعها الكاتب الفرنسي رينو كامو التي تزعم أنه يجرى إحلال غير الأوروبيين بشكل منهجي (المسلمين بصفة رئيسية) محل السكان المسيحيين البيض.
وتتناسب هذه الرواية مع ما يسميه عالم الاجتماع الأمريكي روجرز بروبكر “النزعة الحضارية Civilizationism: فالصراع بين الذات والآخر لا يقع على خلفية وطنية بل حضارية. وبالتالي، لم تعد فرنسا مقابل ألمانيا فحسب بل الغرب (العالم اليهودي المسيحي) ضد الحضارة الإسلامية.
ويتابع الكاتب أن هناك نوعان من وجهات النظر الليبرالية السائدة في أوروبا. حيث يرغب المعتدلون في ضم الدول الأوروبية القومية المستقلة في اتحاد كونفدرالي قوي تجرى السيطرة عليه بشكل مشترك، في حين يسعى الاندماجيون الأكثر تشددا إلى تقوية الاتحاد الأوروبي إلى درجة يتصرف فيها كدولة واحدة وموحدة. ومع ذلك، يشترك كلاهما جوهريا في إيمانهما بالتكامل الأوروبي باعتباره أعلى مثال لهما.
القيم عند القوميين محددة بالعرق والإثنية والدين
يشترك الليبراليون الأوروبيون أيضا في مجموعة من القيم الجوهرية، المحددة في المادة 2 من معاهدة الاتحاد الأوروبي: “كرامة الإنسان والحرية والديمقراطية والمساواة وسيادة القانون واحترام حقوق الإنسان، بما في ذلك حقوق الأشخاص المنتمين إلى أقليات”. القوميون المؤمنون بـ”الأوروبانية” يتوجهون إلى فكرة أوروبا القائمة على القيم، ولكن بدلا من التركيز على الحقوق العالمية، يرون أنها مدعومة بمفاهيم مميزة للحضارة، والتي عادة ما يحددها العرق والإثنية والدين.
ويلفت المقال إلى أن هناك عنصر استراتيجي لانعطافة القوميين الأوروبية؛ إذ يساعد التركيز على العامل الأوروبي في جعل المطالب المتطرفة أكثر مقبولية كما تبدو أقل إقصائية.
سوء تعامل بريطانيا مع البريكست سلط الضوء على مخاطر الخروج من أوروبا
هذا صحيح بشكل خاص في ألمانيا، حيث كان التأييد العلني لمواقف القوميين مثيرا للجدل بسبب ارتباطهم بالنازية. بيد أن التحديات التي ظهرت مع خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي قدمت حجة براجماتية أخرى.
وعلى الرغم من أن نتيجة الاستفتاء كانت انتصارا كبيرا للشعوبية الرافضة للاتحاد الأوروبي على الطابع الدولي للتكتل الأوروبي، فإن سوء تعامل الحكومة البريطانية مع المفاوضات في عملية الانسحاب التي تلت ذلك يسلط الضوء على مخاطر اتخاذ تلك الخطوة.
نتيجة لذلك، فقد خروج فرنسا من الاتحاد الأوروبي (فريكست) وخروج ألمانيا (جريكست) وغيرهما من أشكال الانسحاب من الاتحاد الأوروبي شعبيتها.
في استطلاع يوروباروميتر في يونيو (حزيران) 2019، لم يبلغ أي بلد باستثناء بولندا عن عدد وافر من المواطنين الذين شعروا بأن بلدهم سيكون أفضل حالا خارج الاتحاد الأوروبي، وعلى مستوى الاتحاد الأوروبي، فضل 32 في المئة فقط من السكان الانسحاب على استمرار عضوية الاتحاد الأوروبي.
من التنديد بالاتحاد الأوروبي للدعوة إلى الهوية
ويتابع الكاتب أنه بسبب هذه التحديات، فإن معظم اليمين المتطرف في أوروبا حوّل بثبات خطابه بعيدا عن التنديد بوجود الاتحاد الأوروبي وبدلا من ذلك توجهوا إلى الجدل بضرورة إحداث تحول من الداخل.
وكما هو موضح أعلاه، فإن أحد أسباب هذا التحول هو رد فعل براجماتي على الحقائق السياسية المتغيرة. لكن العديد من القوميين ما زالوا يطالبون بترك الاتحاد الأوروبي. وهذه الدعوات، في جوهرها، تعود إلى الشعور بالهوية القومية لعموم أوروبا (التي غالبا ما تتجلى في صورة القومية البيضاء) التي يجري تعبئتها ضد السكان المهاجرين المتزايدين.
ويشير الكاتب إلى أنه في عامي 2016 و2017، عقدت الأحزاب اليمينية المتطرفة الكبرى في أوروبا – ومن بينها حزب الحرية في النمسا، والجبهة الوطنية الفرنسية (أعيد تسميته بالتجمع الوطني في 2018)، وحزب البديل لألمانيا، وأحزاب أخرى منتشرة في جميع أنحاء الاتحاد الأوروبي – اجتماعين في فيينا ومدينة كوبلينز الألمانية للاحتفال بما كانوا يأملون أن يكون بداية لما يسمى بالربيع الأوروبي. وفي ظل التصويت لخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي وفوز دونالد ترامب في الانتخابات الرئاسية الأمريكية لعام 2016، وفرت الأحداث المتلاحقة منصة جديدة لليمين المتطرف في عموم أوروبا. ففي حين أبقوا على معارضتهم للاتحاد الأوروبي، سعوا لكي يصبحوا ليس فحسب قوميين معارضين للاتحاد الأوروبي بل معارضين أوروبيين له.
ويقول الكاتب إن هذه الاجتماعات نجحت في الجمع بين الأحزاب التي كانت تتشاجر فيما بينها في السابق وتخشى أن يلوثهم ارتباطهم ببعضهم البعض في عيون ناخبيهم. بعد انتخابات البرلمان الأوروبي في عام 2019، حلت المجموعة البرلمانية الجديدة “الهوية والديمقراطية” محل مجموعة “أوروبا للأمم والحرية” ENF السابقة وحصلت على 73 عضوا من أعضاء البرلمان، مما ضاعف عددها.
وتملي البراجماتية السياسية إيلاء أهمية ثقافية شاملة لأوروبا. وتضم النواة الأيديولوجية “للأوروبانية” الهويات الوطنية، وهي متجذرة بقوة في الفهم الحضاري لأوروبا كقارة للمسيحيين البيض.
هوية تاريخية وثقافية تستبعد غير الأوروبيين
ومع التاريخ المشترك والقيم الثقافية، يستثني هذا الفهم بالضرورة أولئك الذين ليسوا من ذوي الأرومة الأوروبية، وعلى الرغم من وجود تباين في جميع أنحاء القارة وأن المفهوم نفسه لا يركز فقط على الهجرة، إلا أن المهاجرين المسلمين يجرى تحديدهم في أغلب الأحيان على أنهم “الآخر” لأنهم غير أوروبيين بشكل واضح.
ليست هذه هي المرة الأولى التي تعبر فيها نظرة القوميين خارج الحدود. فلطالما حلموا بأوروبا الموحدة. وقاتل القوميون الأوائل ضد الإمبراطوريات المحافظة متعددة الجنسيات وتصوروا أوروبا المكونة من دول قومية متمايزة. وأثناء ظهور القومية في ثلاثينيات القرن التاسع عشر، أسس الناشط الإيطالي جوزيبي مازيني “أوروبا الشابة” لإنشاء منظمة شاملة تنضوي تحتها الحركات القومية وتقديم جبهة منسقة ضد النظام المحافظ الذي أنشئ في مؤتمر فيينا (1814). وسعى مازيني إلى تكوين رابطة من الدول القومية الأوروبية المستقلة لتحل محل الإمبراطوريات والممالك في ذلك الوقت.
التوجه القومي لسياسات الدول يؤدي للصراع والحروب
وأردف الكاتب أن تحقيق هذه التطلعات السامية أصبح أمرا صعبا على الحركات الوطنية التي وجدت نفسها في بعض الأحيان تتنافس على المنطقة ذاتها في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين.
فعندما انهارت الإمبراطوريات التي قاتلوا ضدها وحلت محلها دول قومية جديدة (أو تبنت الدول الإمبريالية القومية كأيديولوجية محددة لها)، أصبح الأعداء هم الأقليات العرقية التي بقيت داخل الأراضي القومية.
ولكن على الرغم من ازدهار المشاعر القومية لعموم أوروبا في منتصف القرن، فإن استخدام القومية لتوجيه سياسات الدول القومية أدى حتما إلى صراعها مع بعضها البعض. وأنتج هذا الصراع المناخ الدولي المشحون للغاية الذي اتسم به أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، مما أدى مباشرة إلى نشوب الحرب العالمية الأولى.
ثم كانت ثلاثينيات وأربعينيات القرن العشرين تتويجا لهذا التغيير عندما حاول أدولف هتلر إعادة رسم خريطة أوروبا. وعلى الرغم من أنه وجد بعض الحلفاء عبر القارة، إلا أن ادعائه بالتفوق الألماني والاستغلال الاقتصادي جعل من الصعب على القوميين تبرير التعاون مع النازيين.
ويشير الكاتب هنا إلى أن مشروع الكونت ريتشارد فون كودينهوف-كاليرجي المعروف باسم “رابطة عموم أوروبا” Paneuropa والذي طرح بين الحربين العالميتين، كان هو المحاولة المحافظة الواقعية الوحيدة للتكامل الأوروبي. وأيد المشروع الاستعمار الأوروبي في إفريقيا ورأى أن التكامل الأوروبي وسيلة للحفاظ على الرخاء الاقتصادي للدول الأوروبية ضد المنافسة العالمية من الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي.
بعد الحرب العالمية الثانية، لحق الخزي بالفاشية على نطاق واسع في أوروبا (إلى جانب الأيديولوجيات القريبة منها)، ومع ذلك استمرت محاولات إحيائها عبر القارة.
ثم بدأت الفاشية واليمين المتطرف في أوروبا الترويج لمفهوم الأمة الأوروبية، وبلغت هذه الحملة ذروتها بتأسيس الحزب الوطني لأوروبا في البندقية في عام 1962. سمحت “الأوروبانية” لهذه الحركات بالاتحاد حول ثقافة وتاريخ مشتركين حيث كانت تعمل على تغيير اضمحلال القارة البطيء أثناء الحرب الباردة. كانت المواضيع المناهضة للبلاشفة سمة أساسية في خطابهم، مما يشير إلى أن معاداة الشيوعية (التي كان يمثلها في ذلك الحين الشرق العالمي) لعبت أيضا دورا بارزا في التحول القومي لأوروبا.
ويقول الكاتب إن الجماعات والأفراد الذين دافعوا عن هذه النسخة من “الأمة الأوروبية” رفضت السوق الأوروبية المشتركة الوليدة لأنها ستؤدي فقط إلى تعزيز النفوذ الأمريكي وتقسيم القارة في الحرب الباردة. لقد طالبوا بتكوين هياكل مختلفة تلبي بشكل أكثر فعالية مطالبهم بالتجانس العنصري والديني والحضاري.
وشملت هذه الجهود أبرز السياسيين الفاشيين في بريطانيا والذي كان يوما ما معجبا بهتلر، وحزب الرايخ الألماني الذي حل نفسه في عام 1965، والحركة الاجتماعية الإيطالية (MSI)، وحركة العمل المدني البلجيكي، ألا وهو السير أوزوالد موسلي.
الاندماجيون الليبراليون يرفضون القوميين
على الرغم من بعض التداخل في أهدافهم النهائية، رفض الاندماجيون الليبراليون إيجاد قضية مشتركة مع القوميين، وظلت تلك الأحزاب على الهامش. لم تصبح الحركة القومية الأوروبية أبدا قوة جذب بين الجمهور، ولم يحقق أي من الأحزاب (باستثناء الحركة الاجتماعية الإيطالية) تمثيلا برلمانيا. لكن جهودهم ما زالت تقطع خطوات كبيرة نحو تصور أمة أوروبية ذات مؤسسات قارية. ومن خلال إعلان البندقية (فينيسيا)، رفضوا الاستعمار على أساس أنه سيؤدي إلى “حكومة متعددة الأعراق”. وخلال الحرب الباردة، تصور القوميون أن الدعوة إلى دولة أوروبية تأتي في إطار التصدي لهيمنة القوتين العظميين، ويسعون في النهاية إلى ترسيخ الهيمنة الأوروبية.
من الناحية الفكرية، تواصلت هذه الجهود في الوقت الحاضر عبر “اليمين الجديد” في فرنسا. وطوّر هذا اليمين الجديد الذي نظّر له آلان دو بينويست، من مركز “مجموعة أبحاث ودراسات للحضارة الأوروبية”، برنامجا أيديولوجيا يروج للهوية الأوروبية والقومية، ويرفض الديمقراطية الليبرالية والتنوع العرقي. ولا تزال أفكار اليمين الجديد تلهم المفكرين المعاصرين في أقصى اليمين.
بيجيدا ومقاومة أسلمة أوروبا
ويتابع الكاتب أنه منذ ذلك الحين انتشرت فكرة قومية عموم أوروبا إلى ما يتجاوز كادر السياسة الهامشية. وفي أواخر عام 2014، ظهرت حركة احتجاجية في البلدات والمدن في أنحاء شرق ألمانيا، وتضخمت في نهاية المطاف حتى شارك فيها عشرات الآلاف بحلول عام 2015. وأطلقت الحركة على نفسها اسم “الأوروبيين الوطنيين ضد أسلمة الغرب” (بيجيدا). وكما هو واضح من اسمها، كان الموضوع الرئيسي للحركة هو رفض هجرة المسلمين والإسلام بشكل عام، وهو رفض يؤكده شعور قوي بمعاداة النخبوية وتطبعه نبرة سلطوية.
وعلى نحو معبر، لم تحتجّ الحركة بألمانيا، لكنها استخدمت أوروبا، والتهديد الذي بدا أن الإسلام يشكله على بقائها؛ باعتبارهما المصدر الرئيسي لجاذبيتها. وسمح هذا لحركة بيجيدا بالتوسع خارج ألمانيا، على الرغم من نجاحها المحدود في أماكن أخرى. وعلى الرغم من أنه يمكن للمرء أن يدعي أن الإشارة إلى أوروبا كانت مجرد محاولة من جانب القوميين الألمان لتبديد الانتقاد، إلا أن بيجيدا وفرت إطارا أيديولوجيا مكّن القوميين اليمينيين المتطرفين في وقت لاحق من الاستفادة منه لتعزيز أهدافهم القومية.
في الوقت ذاته، وجد الدفاع عن أوروبا أصداء خاصة في النمسا وجنوب شرق أوروبا، حيث يجرى إعادة تفسير الحروب التاريخية ضد الإمبراطورية العثمانية على أنها صراع مستمر ضد تهديد إسلامي.
العودة بالتاريخ للعثمانيين لإثارة المشاعر
اختار اليمين المتطرف النمساوي مؤخرا أن يلجأ إلى فكرة الدفاع ضد الحكم العثماني باعتباره رواية تاريخية مثيرة للمشاعر، لكنه كان أكثر بروزا في أماكن أخرى. وتحديدا في كرواتيا، حيث دأب الرئيس القومي السابق فرانيو تودمان وحزبه الاتحاد الديمقراطي الكرواتي (عند عودته مرة أخرى إلى السلطة) على استحضار دفاعهما المفترض عن أوروبا وكرواتيا كجدار لحماية المسيحية.
وبالمثل، صوّر القوميون الصرب السعي لإقامة دولة قومية صربية كبرى والتطهير العرقي المرتبط بهذا المسعى خلال التسعينيات من القرن الماضي كدفاع عن أوروبا ضد مسلمي البوسنة والألبان. وغالبا ما كان القادة شبه العسكريين والجنرالات والسياسيين يصفون مسلمي البوسنة بأنهم “أتراك” للتأكيد على أنهم غرباء.
ولكن على الرغم من استخدام الخطاب المعادي للمسلمين والادعاء بالدفاع عن أوروبا المسيحية من الإسلام، وقع القوميين الكروات والصرب في قتال عرقي قومي وحشي ضد بعضهم البعض. وهذا يسلط الضوء على المخاطر التي تفرضها الأوروبانية القومية، لأنه عندما تصطدم مصالح الأمة بمصالح الحضارة، سيضع القوميون بالضرورة مصالحهم في المقدمة.
ويتابع الكاتب أن الأحزاب القومية اليمينية المتطرفة برزت كذلك في البلقان. وفي النمسا، كان حزب الحرية النمساوي في طليعة الرافضين لاستقلال كوسوفو والدعوة إلى حل البوسنة والهرسك. كما أقام علاقات وثيقة مع الأحزاب القومية المتطرفة في صربيا والبوسنة. وكما كشف تحقيق أجرته مؤخرا شبكة البلقان للصحافة الاستقصائية Balkan Insight، قامت أحزاب اليمين المتطرف الألماني (ومن بينها حزب البديل من أجل ألمانيا) أيضا ببناء علاقات مع اليمين المتطرف الكرواتي والصربي.
الإسلاموفوبيا وتبرير العنف
هذا هو الشعور برهاب الإسلام (الإسلاموفوبيا) الذي استخدمه الإرهابيون القوميون البيض لتبرير أعمال العنف التي يقومون بها. في اثنين من أكثر الهجمات الإرهابية القومية دموية للبيض في الذاكرة الحديثة (إطلاق النار على مسجد كرايستشيرش الذي أسفر عن مقتل 51 مسلما في مارس (آذار)، وحادث أوسلو وجزيرة أوتويا عام 2011 الذي خلف 77 قتيلا)، وأشار الجناة صراحة إلى أن القادة الوطنيين الصرب بمن فيهم رادوفان كارادزيتش وراتكو ميلاديتش كانوا مصدر إلهام لهم بالقيام بهذه الجريمة. وبذلك عبر الإرهابيون القوميون البيض الحدود الوطنية التقليدية لتعزيز أهدافهم الحضارية الأوسع.
بالطبع، لا يعني أي من هذا أن الهدف المشترك لهذه الأحزاب المتطرفة يتجاوز الأهمية الأعظم لقومياتهم الخاصة. عندما وقعت فرنسا وألمانيا “معاهدة آخن” في يناير (كانون الثاني)، على سبيل المثال، اتهمت مارين لوبان، زعيمة التجمع الوطني، الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بتسليم الألزاس واللورين إلى ألمانيا. وعلى سبيل المصادفة، لم يكن للمعاهدة أي علاقة بهذه القضية، ولم تعد السيطرة الفرنسية على تلك المناطق التي كانت موضع نزاع ساخن يوما ما مصدر نزاع ثنائي. ومع ذلك، فإن استعداد لوبان لإحياء الروايات القومية القديمة لتحقيق أهداف سياسية فورية يشير إلى أن قومية عموم أوروبا قد تصل في نهاية المطاف إلى نهايتها.
طالما استمرت التهديدات الخارجية (حقيقية أو متصورة) في الهيمنة على رؤيتهم للعالم، فإن الإحساس المشترك بـ”الأوروبية” سيكون له جاذبية بين القوميين والشعبويين في أقصى اليمين. غير أن الاختلافات حول الأراضي والهوية وغيرها من قضايا السياسة ستكون عوائق كبيرة أمام الاندماج الكامل، ومن المرجح أن تتسبب هذه الخلافات في نزاعات بين الدول القومية حتى داخل إطار أوروبي.
ويختم الكاتب مقاله بقوله إن الأوروبانية باتت سمة أساسية لأيديولوجية اليمين المتطرف. ومن الهامش، وضعت أجندة أكثر تماسكا وخلقت مساحة لمزيد من التعاون لعموم أوروبا. وفي حين أن القومية الأوروبية تقدم تناقضا مثيرا للاهتمام مع المفهوم الدولي الليبرالي للتكامل الأوروبي، فإن فكرتها عن الحضارة هي مجرد طلاء رقيق لأوروبا بيضاء متجانسة عرقيا، وبالتالي فهي في جوهرها مزيج من العنصرية والقومية؛ وهي أيديولوجية ستقود أوروبا مرة أخرى إلى طريق مسدود.
(المصدر: موقع تبيان)