تقتل أو تُقتل.. كيف يصنع الحكام جنودا بلا ضمير؟!
بقلم غاوي أسامة
سأفتتح هذه المقالة بمقولة من مذكرات العقيد (برودانسيو غارسيا) الذي خُصص لدراسة سلوك قوات الجيش الأرجنتيني، في ظل ديكتاتورية الجنرال (خورخي رافائيل فيديلا)، أعتبرها المدخل الوافي الذي سيسلط الضوء على فهم هذه الظاهرة عن قرب، يقول: كيف يمكننا استيعاب هذا الدرك البوليسي المجنون لحالة التعفّن العام والفوضى العارمة، التي تجعل بعض الضباط يفقدون رشدهم تدريجيًا، في تدهورٍ أخلاقي ومهني، من جرّاء اللجوء الآلي والتعذيب والقتل، وينحطون إلى هذا المستوى اللامعقول من القسوة؟
وكلما غاص هؤلاء في الهوّة الوحشية والخسة، كلما تدهورت قدراتهم العسكرية الحقيقية، وتدنت إمكانياتهم في المواجهة الفعلية مع عدوٍ واحد على أرض معركة حقيقية وأمام جنود منظمين محكمي القيادة ويطلقون نيراناً حقيقية. لكن السؤال هنا ما هو الأسلوب الذي يعتمد عليه الحكام وزمرتهم في إنشاء جيوش لا تتورع عن الخطف والتشويه والاغتصاب والقتل وما إلى ذلك من الأساليب الرهيبة؟
إنهم يعتمدون على أساليب بسيطة تأتي عبر مراحل أولاً: وهي أن يعمدوا على توريط الجنود إلى أقصى مدى ممكن من التجاوزات والخروقات إلى درجة يصبحون معها غير قادرين على التراجع أو الخروج من دوامة العنف، أو إفسادهم إلى درجة يصبح فيها الدفاع عن النظام يساوي الدفاع عن مصالحهم الخاصة، إنها حلقة مفرغة تحكم على كل المتورطين بالتضامن مع رؤسائهم المجرمين، أما المرحلة الثانية تعتمد على العامل النفسي وتتم بالتصفية والتنقية اي أن كل من لم يستجيب للأوامر ستتم تصفيته وبهذه الطريقة ستترسخ في أذهان جنودهم فكرة وهي إما أن (تقتل أو تُقتل) وسيسمع الكثير من الجنود والضباط أن البعض من زملائهم قد تمت تصفيتهم لأنهم لم يستجيبوا للأوامر مما يخلف في نفوسهم الرعب وبهذه القاعدة ستفضل الأغلبية الساحقة القتل والمشاركة في الجرائم وهذا قرار طبيعي لكل إنسان لأنهم في صراع من أجل البقاء.
وبهذا الأسلوب لا يكونون جنود بل آلات قتل بحيث ينتزع منهم إنسانيتهم وتُدمر نفسيتهم، سيصبح الإنسان الذي كانت تتجلى فيه كل مكملات البراءة والذي كان يخشى من قتل فأر، يرتكب أشد الجرائم غرابة وهولاً، حتى تلك التي ما كانت لتخطر بباله في يوم من الأيام، ويرويها لأصحابه الذين لم يشهدوها ضاحكاً ضحكاً يشبه أن يكون ضحك طفل، ولا يكاد يحاول أن يكظم ضحكه، ولا تلاحظ من خلاله أية علامة من علامات الندامة، ولا أيسر أثر من آثار الأسف للجريمة المرتكبة، ولا عجب في انتشار الرذيلة والانغماس في الشهوات لدرجة أنهم يتناوبون عن اغتصاب امرأة ويقتلوها بعد أن يشبعوا رغباتهم، إن هذه النوعية وصلت لمرحلة قابلية للقيام بأي شيء فلو يقنعهم رؤسائهم بحرق وتشويه طفل انطلاقا من بعض الحجج والأعذار، لأطاعوا الأمر ونفّدوا ذلك دون تردد.
أشعر أنني تجاوزت قليلاً في الولوج إلى هذا الجانب النفسي وانحزت قليلا عن مسار الموضوع، نأتي الآن للمرحلة الثالثة وهي اعتماد المرؤوسين على الامتيازات والترقية في الرتب، من يرتكب أكبر الأعمال فظاعة لا يُرقى فقط بل سيكون من المقربين ومن هنا تبدأ المنافسة والطاعة العمياء التي تجعلهم يتصرفون ضد ما يمليه عليه حسّهم السليم وقناعتهم الخاصة، قد يتباذر لأذهان البعض أني أتكلم على الجيوش فقط وسيسأل ماذا عن المرؤوسين أنفسهم كيف ينعدم الضمير فيهم ليصلوا إلى هذه الدرجة؟
لا شكّ أنكم لا تعلمون ما تعنيه (نشوة الحكم) بالتطبيق العملي، وأي نوع من الأشياء هو، أنتم تعلمون أن الناس في مجتمعاتنا، باختصار لو تم توظيف شخص تافه عديم الأهلية، لبيع بعض التذاكر السخيفة في محطة للقطارات، فسترون بأن هذا التافه قد أعطى لنفسه الحق بأن ينظر إلى الناس من الأعلى إلى الأسفل، متعمدًا إظهار سلطته هو لا يرى نفسه مسؤول على بيع التذاكر بل على المحطة بأكملها هذا هو تصوره وهذا ما نعنيه ضمنياً بنشوة الحكم، هنا أنا أتكلم عن سلطة تافهة فقط، ماذا عن السلطة الدموية التي تعني بسلب الأرواح، إن السلطة والدم يُسكران، إنهم على استعداد لفعل أي شيء للحفاظ على سلطتهم والدفاع عنها، وأستطيع أن أسوق عشرات الأمثلة لهذا الصنف، لكني سأكتفي عند هذا الحد آملاً أن أكون قد وضحت ولو بشكل جزئي طبيعة هؤلاء الوحوش التي حيرت أفعالهم الكثير من الناس.
(المصدر: مدونات الجزيرة)