مقالاتمقالات مختارة

أجنحة المكر المناوئة لديننا ومواريثنا الثقافية!!

أجنحة المكر المناوئة لديننا ومواريثنا الثقافية!!

 

بقلم د. إبراهيم نويري

 

هنالك عقدة مكنونة راسخة قارة في صدر الغرب وفي ضميره الجمعي، وهي عقدة يلمّح إليها أحيانا ويصرّح بها أحيانا أخرى؛ هذه العقدة تتمثل في الإسلام وكيفية الخلاص منه ومن حضارته ومنظومته الفكرية .. وهو سواء لمّح أو صرّح، يعمل منذ هزيمته فيما سُمي بالحروب الصليبية ـــ وبالمناسبة هم مَنْ أطلق عليها هذا الاسم الديني، لأن المسلمين حينئذ أسموها حرب الفرنجة (نسبة للفرنسيين)، باعتبار أن أغلبية هؤلاء الفرسان كانوا من الفرنسيين ــ من أجل إزاحة الإسلام من طريقه، أو تهميشه والحيلولة دون أن يهيمن على الأرواح والقلوب والنفوس.

وهذا الهدف أبدعوا وابتكروا له أساليب شتى، ظهرت عبر مختلف مراحل التاريخ، متمثلة في مناشط وأعمال متنوّعة. وهذا المقال يبيّن بعض جوانبها.

صرّح الكاتب الفرنسي (أوغستين برنارد) عشية الاحتلال الفرنسي للجزائر قائلا:” إننا لم نحضر للجزائر لإقرار الأمن، بل لنشر الحضارة واللغة والأفكار الفرنسية، وليست الجزائر مستعمرةً كالهند الصينية، ولا هي ” دومينيون ” مثل كندا. لكنها جزءٌ من فرنسا، كما كانت أيام روما!! إننا نريد أن نجعل هنا جنساً يندمجُ فينا عن طريق اللغة والعادات..وسيتمّ هذا بعد نشر لغة فيكتور هيجو..”!!.. هذا ما أعلنه هذا الكاتب الفرنسي، وهو يتضمّن اعترافاً بأن الغزو العسكري بواسطة استعمال القوة والقتل والتدمير وانتهاج سياسة الأرض المحروقة، قد يكون طريقةً للسطو على الموارد الباطنية والخيرات التي أودعها الله تعالى ركاز الأرض.. لكنه يستحيل أن يكون منهجاً لكسب العقول وإمالة النفوس والضمائر لثقافة وحضارة أصحاب القوة والبطش. ومن أجل ذلك فقد نبّه هذا الكاتب قومه إلى التركيز على الثقافة وعلى جهود وبرامج “التبديل الفكري” فهي الكفيلة بإدامة التبعية والإلحاق الحضاري.

لقد أدرك أعداء هذا الدين السمح الكريم في وقت مبكّر، بأن الهيمنة العسكرية على البلاد الإسلامية لا تكفي، لأنها لا تضمن تأبيد التبعية والإلحاق، أما ما يضمن لهم هذا الهدف، فهو برامج “التغيير الناعم”، أي تغيير العقول والأفكار وإعادة تشكيلها وفق إرادة الغالب أو المهيمن بأنموذجه الحضاري وعطائه العلمي ونحو ذلك، وقد سلكت تلك الدوائرُ عدة مسالك، كي يؤتي الغزو الفكريّ والإلحاقُ الثقافي ثماره المرجوة المرغوبة لديهم، نذكر منها ما يلي:

أ ــ توجيه وسائل الإعلام: لم يكن تأثير وسائل الإعلام ليخفى على تلك الدوائر الحريصة على إضعاف الروح المعنوية للمسلمين، لذلك عملوا على ضرورة أن تكون وسائل الإعلام أداةً فعالة لتشويه صورة الإسلام والمسلمين، والإساءة إلى معتقداتهم وشعائرهم ومناسكهم التعبدية، ونشر الشبهات والأباطيل والمغالطات حول نبيّ الإسلام وحقائق الوحي وتعاليم الشريعة الإسلامية، ولم يسلمْ من ذلك أعلامُ الإسلام وتاريخُ المسلمين ومنجزاتهم العلمية والحضارية.

ولا شكّ أن كلّ متابع لوسائل الإعلام الغربية، يلحظ تلك المواد والبرامج الموجّهة لتشويه صورة الإسلام والمسلمين والإساءة إلى معتقداتنا وشعائرنا وأعلامنا وتاريخنا..وكثيراً ما يتمّ توظيف المسرحيات والمسلسلات والأفلام، التي تدعو إلى الفجور والانحلال، والبعد عن الحياة الفطرية المستقيمة، والتهكّم المباشر بأحكام الإسلام وتعاليمه . لاسيما فيما يتعلق بأحكام المرأة والعلاقة بين الجنسين، والحريات الشخصية.. إلخ ..

وقد عضّدت شبكة المعلومات الدولية (الإنترنت)، وكذلك الفضائيات المفتوحة وغيرها من وسائط الاتصال المعاصرة، هذا التوجّه بشكل ملحوظ، لا يخفى على أيّ أحد من الناس.

ب ــ توجيه الدراسات الاستشراقية: إلى جانب توجيه وسائل الإعلام ووسائط الاتصال الحديثة، تحرص الدوائر والمؤسسات المعنية بإضعاف المسلمين معنويا بواسطة وسائل التغيير الناعم، على الإفادة من الدراسات الاستشراقية، وتوجيهها هي الأخرى، لخدمة هذا الغرض، وهي تُدرك أن دراسات وأبحاث المستشرقين قد تؤثر في النخبة المثقفة، التي قد يكون لها شأن وحضور في صناعة القرار داخل بلدانها وضمن محيطها الاجتماعي والأكاديمي وغيره.

والاستشراق ــ كما هو معلوم ــ هو دراسة بعض المتخصصين الغربيين لعلوم الشرق وتاريخه وأديانه ولغاته والتقاليد السائدة في أقطاره، لاسيما أقطار العالم الإسلامي، لأغراض وأهداف متباينة، قد يأتي في طليعتها تشويهُ صورة الإسلام، والتشكيكُ في عقائده ومبادئه وتعاليمه.

ولخدمة هذا الهدف قدّم المستشرقون آلاف البحوث والدراسات والأطالس والموسوعات ونحوها من الأوعية المعرفية، وكان من أشهر أعمالهم “دائرة المعارف الإسلامية” التي صدرت في البداية بثلاث لغات واسعة الانتشار هي الإنجليزية والفرنسية والألمانية، ثم تُرجمت بعد ذلك إلى لغات أخرى كثيرة منها اللغة العربية، وقد اشترك في تأليفها أكثر من أربعمائة باحث مستشرق، وقد احتوت على أكثر من ثلاثة آلاف مادة، وهي معلومات عن الإسلام وعن شعوب الشرق وحضاراته، مع العلم أنه غلب على مواد هذه الموسوعة الضخمة، الترويجُ للشبهات والمطاعن حول القرآن الكريم والعقيدة الإسلامية، والشريعة الإسلامية، وتاريخ المسلمين وأعلامهم ومنجزاتهم في العلم والحضارة.

جـ ــ التبشير : كانت شبه الجزيرة العربية ــ قبل الإسلام ــ تغلب على قاطنيها عبادةُ الأصنام (الشرك)، التي جلبها إليهم “عمرو بن لُحي الخزاعي”، كما كانت هناك الحنيفية السمحة، وهي بقايا أثر دين أبي الأنبياء إبراهيم الخليل ــ عليه السلام ــ وكان هناك عدد قليل يدين بالنصرانية واليهودية. وقد جمعتْ آية ٌواحدة من كتاب الله تعالى، هذه العقائد الأربع ــ آنفة الذكر ــ في قوله تعالى:{مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلاَ نَصْرَانِيًّا وَلَكِن كَانَ حَنِيفًا مُّسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}(آل عمران: 67)؛ وبعد بزوغ نور الإسلام في ربوع الجزيرة العربية، أحسّ كلٌّ من اليهود والنصارى بغيْضٍ شديد لم يستطيعوا كتمانه بحال من الأحوال. ومنذ تلك اللحظة من التاريخ، ظلّ النصارى يحاولون التبشير بالمسيحية في كلّ أرضٍ كسب فيها الإسلام أنصاراً. ومع مرور الوقت، وتغيّر وسائل التأثير لم يعد التبشير المسيحي لونا واحدا، بل أصبح يتعدد ويتلوّن بحسب نوعِ الجمهور الذي يُرادُ تعديلُ قناعاته وتصوراته العقدية والفكرية، فهناك ما يأخذ صورة النقاش العلمي الجدلي، وهذا النوع من التبشير ليست له نتيجة إيجابية واضحة، لأن الإسلام أصولُهُ ثابتة لا تتزعزع، فهي مؤسسة على المنطق الذي تنسجمُ معه كلُّ فطرة ٍسليمة، كما يتماهى معه كلُّ تفكيرٍ حرٍّ نزيه. وهناك تبشير سوفسطائي يلجأ إلى التشكيك في أصول الإسلام، وقلبِ الحقائقِ، وتحقير الحضارة الإسلامية والفكر الإسلامي، ومحاولةِ البرهنةِ على ردّ القرآن إلى الجذور المسيحية. وهناك أيضا التبشير الذي يتخفى وراء أساليب الرحمة والعمل الخيري، كإقامة المستشفيات وبناء المدارس ورعاية الأيتام وتقديم المعونات العينية في حالات النوازل والجوائح كالجفاف والمجاعات والفيضانات والحروب .. إلخ. وذلك من أجل هدف واضح هو القرصنة بعقائد هؤلاء البسطاء وخطفهم من وسطهم الاجتماعي الطبيعي من منطلق أن النفس البشرية مجبولةٌ على التعلّق بمن أحسنَ إليها (1).

حتى آلام البشر لم تسلمْ من استغلالهم، بل إنهم يعتبرونها مشروعاً مسيحيا ناجعا!! وفي ذلك يقول مؤلفا كتاب “التبشير والاستعمار في البلاد العربية”:” وأنت إذا أردت أن تعرفَ مبلغ اهتمام هؤلاء الأطباء بالتبشير لا بالتطبيب، فاعلم أنّ نَفَراً منهم أنشأوا مستوصفاً في بلدة (الناصر) في السودان، وكانوا لا يعالجون المريض أبداً، إلاّ بعد أن يحملوه على الاعتراف بأنّ الذي يشفيه هو المسيح” !!(2).

ولم ينس المبشرون دور المرأة ومقامها وتأثيرها في الأسرة، فوجّهوا اهتمامهم إلى التأثير عليها، فأخذوا يبشرون في مستشفيات النساء. كما أرسلوا الطبيبات المبشّرات إلى البيوت والقرى النائية بهدفِ الاتصالِ مباشرة بالنساء، واستخدامِ نفوذ المرأة في الوصولِ إلى أهدافهم التي يزعمون بأنها نبيلةٌ، لكنها في واقع الأمر شَرَكٌ لخطف عقائد البسطاء من المسلمين بسبب المرض والجهل والفقر والحاجة.

وهؤلاء المبشرون يعلمون علم اليقين بأن أعدى أعدائهم هم المصلحون المسلمون، لأنهم يدعون إلى الإسلام النقي، والإسلامُ النقي لا مطمعَ للتبشير في طَرْقِ حِماه. يقول المستر بلاس البروتستانتي في كتابه (ملخص تاريخ التبشير):” إن الدين الإسلامي هو العقبة القائمة في طريق التبشير بالمسيحية في إفريقيا. والمسلم هو العدو اللدود لأن انتشار الإنجيل لا يجدُ معارضاً إلا من الإسلام”(3).

فهذه المشكلة تعتبر من التحديات الواضحة أمام مسار الدعوة الإسلامية، خاصة في البيئات الفقيرة، لأن الدعاة يقعُ عليهم واجبُ تعقّبِ هؤلاءِ المبشرين، ومسحُ ما نفثوهُ من الأذهان وما أذاعوهُ من بهتان .

غير أن هذا التحدي لا يُواجه بالأقوال وحدها ــ حسب رأي الشيخ محمد البشير الإبراهيمي ــ فإن الأقوال ” ليست هي السلاحُ الذي يُحاربُ به التبشيرُ مهما كانت حارةً بليغةً متينةَ الحجّة، فالأقوال قصاراها التحذير من الوقوع في أشراكِ (حبائل) المبشرين. وإنما السلاحُ الماضي الفتّاك في هذا الميدان هو المال. ولعمري كيف تستطيعُ أن تقاومَ جمعياتٍ منظمةً من ورائها أممٌ غنيّةٌ تُغدِقُ عليها المالَ، مجهّزة بالجيوش الوفيرة من الرهبان والراهبات والأطباء والممرضات، يوحّدُ الجميعَ أخلاقٌ ممتازةٌ من الصبر والثبات والإيمان الجازم بحسن عاقبة ما وقفوا أنفسَهم عليه”(4).

هذه هي الأجنحة الثلاثة التي يستخدمها دُهاة ودهاقنة الغزو الفكري والثقافي في بلاد العرب والمسلمين، الأمر الذي يتطلّب من حراس الحقيقة المزيد من اليقظة، ونشر الوعي الصحيح، كي يكون الإنسان المسلم المعاصر، محصّناً من الرياح والعواصف الهابّة من عدّة جهات، التي تستهدفه، تبغي استئصاله من جذوره، وسلخه عن أرومته، لكن بوسائل التحويل والتغيير والإلحاق الناعم، الذي لا يؤمن بالضجيج، حتى لو كان ضجيج وأزيز المدافع والراجمات. وهذا يعني أن أدوات المعركة قد تغيّرت. ولا غالب إلاّ الله.

هوامش :

1ــ محمد منير حجاب، الدعوة الإسلامية: التحديات والمواجهة، دار الفجر للنشر والتوزيع، القاهرة، ط1، 2004 م، 74.

2 ــ مصطفى خالدي وعمر فروخ، التبشير والاستعمار في البلاد العربية، المكتبة العصرية، صيدا وبيروت، د. ت . ط، ص 62.

3 ــ محمد علي العويني، الإعلام الإسلامي بين النظرية والتطبيق، دار عالم الكتب، القاهرة، ط 2، 1987 م، ص 47.

4 ــ محمد البشير الإبراهيمي، سجل جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، دار الكتب، الجزائر 1984، ص 73.

 

(المصدر: مجلة البصائر الإسلامية الجزائرية)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى