المعركة الأخيرة لمهاتير محمد.. الحرب على تجار الدين
بقلم محمد بوالروايح
مهاتير محمد قامة إسلامية كبيرة وشخصية وطنية مؤثرة، فقد أعاد ماليزيا إلى الدوران مع عقارب الساعة بعد أن ظلت لسنوات قابعة كغيرها من دول العالم الثالث في دياجير الجهل الذي ضرب بجيرانه في البلاد وطوقها من أركانها الأربعة ومن الغريب-كما يذهب إلى ذلك مهاتير محمد- أن جزءا من مأساة ماليزيا يتحمله بعض المشايخ والفقهاء الذين اتخذوا من الدين تجارة مربحة، يسترزقون بها ويدلسون بها على الأمة ويباركون تخلفها وكأن التخلف فريضة ماضية أو سنة مؤكدة.
مهاتير محمد قامة إسلامية كبيرة وشخصية وطنية مؤثرة، فقد أعاد ماليزيا إلى الدوران مع عقارب الساعة بعد أن ظلت لسنوات قابعة كغيرها من دول العالم الثالث في دياجير الجهل الذي ضرب بجيرانه في البلاد وطوقها من أركانها الأربعة ومن الغريب-كما يذهب إلى ذلك مهاتير محمد- أن جزءا من مأساة ماليزيا يتحمله بعض المشايخ والفقهاء الذين اتخذوا من الدين تجارة مربحة، يسترزقون بها ويدلسون بها على الأمة ويباركون تخلفها وكأن التخلف فريضة ماضية أو سنة مؤكدة.
لقد انتقلت عدوى المتاجرة بالدين من رهبان الدير إلى كل دور في العالم المعمور، فرأينا في البلاد الإسلامية لفيفا من مشايخنا وفقهائنا لا يرى الدين إلا عملا للآخرة وعمى عن الدنيا، وهذه قمة العبادة والاستقامة في نظرهم وهو محض الافتراء على الكتاب والسنة، يقول الله تعالى: “وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا”، وفي حديث أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “إن قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة فإن استطاع أن لا تقوم حتى يغرسها فليغرسها”.
إنَّ الإسلام دين حياة ولكن بعض الدجالين جعلوا منه دينا مواتا فالله تعالى يقول: “لتنذر من كان حيا ويحق القول على الكافرين”. ومن مظاهر إماتة الإسلام الغفلة عن النصوص الداعية إلى إعمال العقل والنظر في الملكوت والتي تختتم عادة بقوله تعالى: “إن في ذلك لآيات لأولي الألباب” وبقوله تعالى: “إن في ذلك لآيات للموقنين” وبقوله تعالى: “إن في ذلك لآيات للمتوسمين”. هذا ما تدلنا عليه نصوص الوحي المعصومة بشأن نعمة العقل ولكن بعض الجهلة أبوا أن يكونوا من أولي الألباب ومن الموقنين ومن المتوسمين فمعاداة العقل عندهم جهالة مقدسة وربما هي مما يقربهم إلى الله زلفى ويورثهم جنة المأوى!
إن التطوّر لا دين له، فهو لا يجافي الهداية ولا ينافي الاستقامة، والإسلام الذي مجّد العقل ووقر العلم ينبغي أن لا يُتهم بمعاداة التطور لأن التطور في المنظور الإسلامي لا يخرج عن النواميس الإلهية التي أودعها الله في هذا الكون، وقد أحسن عباس محمود العقاد حين جعل التفكير فريضة إسلامية في كتابه الذي يحمل هذا العنوان والذي يجدر بكل باحث عن العلاقة بين الإسلام والعلم أن يقرأه من جلدته إلى جلدته.
لم يحد مهاتير عما قاله العقاد في كتابه “التفكير فريضة إسلامية”، حين كتب في رسالته “المعركة الأخيرة”، عمن سماهم “تجار الدين” من المشايخ والفقهاء الذين آن الأوان-كما قال- لطردهم من الحياة اليومية للمسلمين لأن فتاواهم كانت سببا من أسباب الجمود والقعود الذي جعل الأمة الإسلامية متأخرة لعقود. يقول مهاتير محمد: “لابد من ضرورة توجيه الجهود والطاقات إلى الملفات الحقيقية وهي: الفقر والبطالة والجوع والجهل لأن الانشغال بالإيديولوجيا ومحاولة الهيمنة على المجتمع وفرض أجندات ووصايا ثقافية وفكرية عليه لن يقود إلا إلى مزيد من الاحتقان والتنازع فالناس مع الجوع والفقر لا يمكنك أن تطلب منهم بناء الوعي ونشر الثقافة”. ويقول أيضا: “نحن المسلمين صرفنا أوقات وجهودا كبيرة في مصارعة طواحين الهواء عبر الدخول في معارك تاريخية مثل الصراع بين السنة والشيعة وغيرها من المعارك القديمة”.
إن اشتغال كثير من المسلمين الزائد عن اللزوم -اقتداءً ببعض المشايخ والفقهاء- بفقه الخلاف والمخالفين وصرف كل الجهد في ذلك قد أذكى الصراع المذهبي في العالم الإسلامي، وليس لبعث هذا الخلاف في اعتقادي ما يبرره، ففي كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم القول الفصل فيمن هو على الطريقة ومن حاد عن الجادة. إن ما يجمعنا سنة وشيعة هو الميثاق الإسلامي والنطاق الجغرافي اللذين جعلنا منذ قرون عالما إسلاميا يجب أن نعمل سويا على النهوض به وإلحاقه بركب الحضارة فنحن تكتل إسلامي واحد شئنا أم أبينا في مواجهة التكتلات الأخرى وعلى عاتقنا تقع مسؤولية تطوير العالم الذي نعيش فيه.
لو أن بعض المشايخ والفقهاء أبدع في التفكير كما أبدع في التكفير لعدنا كما كنا أمة سائدة قوية ذات بأس تسوس ولا تساس وتملي ولا يملى عليها. إن حديثي عن الاجتماع التاريخي بين السنة والشيعة ينبغي أن لا يُفهم على أنه مباركة لصنيع من يلعن السنة ويسب الصحابة رضوان الله عليهم، فهذا جرم لا يسقط بالتقادم. إن ما أقصده من الاجتماع التاريخي بين السنة والشيعة هو المصير المشترك والتحديات المشتركة التي تنتظرهم في معركة الحياة ولا علاقة لذلك بسنة اعتقادية ولا بنحلة مذهبية، فقد كانت المدينة المنورة فضاء عاما رحبا اجتمعت فيها الطوائف اليهودية والنصرانية وغيرها وكان لزاما على هذا المجتمع المديني الاجتماع والتحالف ضد من يتربص بهم وبمدينتهم، ويمكن أن نقيس على ذلك اجتماعنا -سنة و شيعة- داخل عالم واحد هو العالم الإسلامي وما يفرضه هذا الاجتماع من واجب تطويره ورقيه مع احتفاظ كل منا بعقيدته ومذهبه فالتخلف الذي نعانيه لا ينسب إلى سنة ولا إلى شيعة بل ينسب إلى المسلمين عامة.
من حق مهاتير محمد أن يشدد على ضرورة جعل المواطنة القاسم المشترك بين الماليزيين لأن ماليزيا بلد متعدد الأديان والأعراق وقد كانت ضحية صراع ديني وعرقي وقفت فيه عجلة التطور في مراحلها الدنيا لأن الناس كان أكبر همهم الانتصار لمذهبهم واحتقار المذاهب الأخرى فكانوا يقيمون الدنيا ولا يقعدونها على خلاف في طريقة الاحتفال بالأعياد، بين مسلم لا يرى فضلا إلا لعيدي الفطر والأضحى وهندوسي لا يرى فضلا إلا لعيد إله الخصوبة والحرب، ومسيحي لا يرى فضلا إلا لعيد رأس السنة الميلادية، وبوذي لا يرى فضلا إلا لعيد ميلاد بوذا ويوم النيرفانا، وقلة من غير المتدينين الذين لا يرون فضلا لدين ولا لأعياد دينية. إن ما يجمع هذا الشتات الطائفي المذهبي هو المواطنة وهو ما أكد عليه مهاتير محمد في رسالته”المعركة الأخيرة” بقوله: “نحن، في ماليزيا، بلد متعدد الأعراق والأديان والثقافات، وقعنا في حرب أهلية، ضربت بعمق أمن واستقرار المجتمع فخلال هذه الاضطرابات والقلاقل لم نستطع أن نضع لبنة فوق أختها، فالتنمية في المجتمعات لا تتم إلا إذا حل الأمن والسلام، فكان لزاما علينا الدخول في حوار مفتوح مع كل المكوّنات الوطنية، دون استثناء لأحد، والاتفاق على تقديم تنازلات متبادلة من قبل الجميع لكي نتمكن من توطين الاستقرار والتنمية في البلد”.
يشدد مهاتير محمد –وأقره على ذلك- على ضرورة تحرير الدين من سلطة بعض المشايخ والفقهاء الذين لم يدركوا المقاصد الكلية للإسلام وطفقوا يسوقون صورة مشوهة عن الإسلام فيقول: “إن قيادة المجتمعات المسلمة، والحركة بها للأمام، ينبغي أن لا يخضع لهيمنة فتاوى الفقهاء والوعاظ فالمجتمعات المسلمة، عندما رضخت لبعض الفتاوى والتصورات الفقهية، التي لا تتناسب مع حركة تقدم التاريخ، أصيبت بالتخلف والجهل، فالعديد من الفقهاء حرّموا على الناس استخدام التليفزيون والمذياع، وركوب الدراجات، وشرب القهوة، وجرّموا تجارب عباس بن فرناس للطيران”.
وأضم رأيي إلى رأي مهاتير بضرورة تحرير الدين من سلطة وسفسطة بعض المشايخ والفقهاء، ولكن أقول إن هؤلاء شرذمة قليلون وقد طواهم الزمن ونملك في العالم الإسلامي المعاصر طبقة من المشايخ والفقهاء العالمين الذين جمعوا بين فقه الدين وفقه الحياة، يطبقون أحكام الدين ولا يسبحون ضد حركة التاريخ، وهذا خلافا لما يعتقده بعض المتعالمين ومنهم عويلم مراكش “رشيد أيلال” الذي أضاع المداد وضلل العباد من خلال سلسلته “انتحار الفقيه” الذي خلط فيه غثا بسمين وجعل الفقهاء كلهم من تجار الدين.
(المصدر: صحيفة الشروق الالكترونية)