سنّة لبنان بميزان القوة والضعف والعتب على السعودية
بقلم جنى الدهيبي
لم يختبر أهل السنّة في لبنان “حساسيّةً”، كتلك التي يعيشها على امتداد أكثر من عقد. جمهور مصاب بنوع من الازدواجية والمشاعر المتضاربة. فحساسيّته تجاه خصومه، لا تقلّ ضراوتها عن حساسيّته تجاه قياداته ورموزه السياسية، المحليّة والإقليميّة. يعبّر الشارع السّني في لبنان عن “مظلوميّة”، يعتقد بوجودها بشتّى الأشكال. لكنّه في المقابل، يصرُّ على قوّته المؤثرة والوازنة في التركيبة اللبنانية، كمًّا ونوعًا. يشعرُ بتمايزٍ لامتلاكه عُرفاً دستوريًا برئاسة السلطة التنفيذيّة، ثمّ ما يلبثُ أن يتحسس الخيبة، وهو يجد في هذه السلطة الحكومية مساحةً مخروقةً لتقديم التنازلات على حسابه، واحدًا تلو الآخر.
واقعُ سنّة لبنان، لا ينفصل عن مسارٍ طويلٍ من الأحداث التاريخيّة والمفصليّة. في التاريخ الحديث، ثمّة منعطفات بالغة الأثر في مصير الطائفة، اختبرتها صعودًا وهبوطاً. بدءًا من العام 1990، بعد أن انتهت الحرب الأهليّة باتفاق الطائف، الذي تم التوصل إليه برعاية المملكة العربية السعودية، وتمتعت على إثره الطائفة السنية بنفوذ كبير، من خلال سلطة رئيس الوزراء السابق رفيق الحريري.. مرورًا بالعام 2005، لحظة اغتيال الحريري، الذي تسبب بفجوة فراغٍ في قيادة الطائفة وأفقدها زعيماً وسنداً قويّاً.. وصولاً إلى العام 2011، لحظة اندلاع الحرب في سوريا، التي انعكست تداعياتها على واقع الطائفة في لبنان بمختلف المستويات، وأدخلتها في نفقٍ طويلٍ من الهواجس، لم تخرج منه حتّى اليوم، ليبقى السؤال: هل يخشى سنّة لبنان من محاولات تقليص دورهم وإقصائهم تدريجيّاً من السلطة السياسية؟
في الآونة الأخيرة، بدا واضحًا أنّه في كلِّ قضيّةٍ داخلية أو خارجيّة تمسُّ الطائفة، يندلع سجالٌ سنيّ – سنيّ، يتخلله تصادم حاد في الآراء والمواقف. قد يُسجل هذا لصالحها، لما تشهده هذه الجماعة من حيويّةٍ في النقد والنقاش الداخلي، بمنأى عن التساؤلات المطروحة حول مسارها ومصيرها، الذي لا ينفصل داخلياً عن واقعها الإقليمي.
أربع شخصياتٍ حاورتها “المدن”. أربع شخصيات، قدّمت قراءات مختلفة في مشهد الطائفة السنيّة وأحوالها بلبنان، وتأثيرات ارتباطها بالواقع الإقليمي، من زوايا متباينة.
راشد فايد: شعور الأكثريّة
ينطلق الكاتب والمحلل السياسي راشد فايد، من شعور الطائفة السنيّة بأنّها الأكثريّة، وبالتالي، فإنّ حظوظها لا بدّ أن تكون محفوظة انطلاقاً من هذا المبدأ. إلّا أنّ الانقسام المذهبي، بين السنّة والشيعة، أحدث شرخاً حاداً. في السابق، “لم يختبر لبنان انقسامًا سياسيًا بهذه الحدّة على القاعدة السنيّة – الشيعية”، إلّا أنّ جملةً من التطورات شهدتها الحياة الاجتماعية والسياسية بين الطائفتين، لا سيما في بيروت، أدّت إلى هذا الانقسام. أمّا المنعطف الأهم، فـ “هو بالدور السيء الذي لعبه النظام السوري، الذي كان له مصلحةً بحلف الأقليات، والذي لم ترعَ به الوصاية السورية أيّ اتفاق يتمثّل فيه المسلمون السنّة. بل على العكس، طُردت القوى السنيّة من هذه المعادلة”. وإبعاد القيادات السنيّة، وفق فايد، كان عمليةً ممنهجة، أرست مبادئ النظام السوري، وهو نظام أقلوي، يحكم باسم سوريا رغم أكثريتها السنيّة.
يرفض فايد وصف وضع الطائفة السنيّة بالتشتت والضياع. ثمّة حالة ديمقراطية طبيعية في داخلها، وغنى بالتوجهات الفكريّة، لأنها لا تقوم على منطق القائد الواحد. فـ “السنة هم طائفة مدينيّة. وكل مدن الساحل اللبناني، من رأس الناقورة حتى النهر الكبير، كانت تاريخياً مدن سنيّة، وأهلها أهل تجارة، وبالتالي، هم أهل انفتاح لا أهل انطواء، ما جعلهم أكثر قابليّة للتعددية”.
شعور “المظلومية” الذي يشعر به السنّة في لبنان، لا بدّ من وضعه في الإطار الأوسع لظهور رفيق الحريري. مجيء الحريري، حسب فايد، أعطى ثقلاً ووزناً للطائفة، داخلياً وإقليمياً. ولحظة اغتياله في الـ 2005، كسرت هذا الوزن، فشعر السنة بتراجع كبير.
يربط فايد واقع الطائفة بتراجعات وتنازلات قوى 14 آذار مجتمعةً ومتفرقة، التي تركتْ أثراً مباشراً على هذا الواقع. وعلى الرغم من انشداد الطائفة نحو بعضها، “ظلّت أقلّ طائفيّةً من كلّ القوى الأخرى، التي كانت تدفع من أجل تطييف الطائفة السنيّة حتّى تبرر طائفيّتها، ما أدى إلى تراجع حضور الطائفة السنيّة في المشهد السياسي اللبناني”.
مقابل هذا الواقع، يرفض فايد منطق “الطائفة القوية والطائفة الضعيفة”، باعتبارها حالات عابرة لا تعدّ بالسنوات، ولأنّ العجز عن الابتداع، دفع إلى عملية إجهاض سياسي كبير على حساب الانتماء الوطني.
ماذا قدّمت السعودية للبنان؟ يعتبر فايد أنّ أهمّ ما قدّمته السعودية للبنان، هو رفيق الحريري الذي كان جسر عبور للبوابة الملكية نحو لبنان. واغتياله جاء اغتيالاً للدور السّني الكبير الذي يقوم به الحريري، “لكن السعودية أخطأت بحقّ نفسها حين أهملت لبنان”.
سالم الرافعي: سوريا وسنّة لبنان
عمليّاً، أحدثت الثورة السورية للطائفة السنيّة في لبنان صدمتين. صدمة إيجابيّة حين اندلعت، وأدخلت فرحاً داخليّاً لنيل سنّة سوريا حقوقهم، كما وجدت كلّ القوى المتجذرة من 14 آذار في الثورة لحظة تاريخية. أما الصدمة السلبية، وفق فايد، فـ “كانت حين اكتشفنا للمرة الألف، أنّ هذا الجمهور العربي والسّني خصوصاً، يحسنون المعارضة ولا يحسنون إدارة العملية السياسية، فضحوا بأعظم ثورة في تاريخ المنطقة”.
من زاويةٍ إسلامية مختلفة، يقرأ الشيخ الدكتور سالم الرافعي وَقْع الحروب الإقليمية على الطائفة السنيّة في لبنان، التي لم تكن وفقه مهتمة بالمحاصصة السياسية قبل الحروب الإقليمية. فـ “لما وقعت هذه الحروب، بدا كأنها تحولت إلى حرب إقليمية ودولية على أهل السنة، مرادها تهميشهم في الشرق، بأداة إيران وأميركا واسرائيل وروسيا وأوروبا، لتصبح كلّ قوى العالم مجتمعة ضدّ هذه الطائفة”.
عندما وقعت الثورة السورية، حسب الرافعي، ضربت أميركا ضرباً موجعاً ساهمت فيه إيران، ليصبح المشهد كالآتي: “إيران اجتاحت أهل السنة، فوجد ذلك قبولاً عند اميركا، التي يثير قلقها الإسلام السياسي السنّي، كما وجد قبولاً عند الروس، الذين لا يريدون أن يكون للسنة كيان في الشرق الأوسط”.
أمام هذه الضربات الإقليمية، يعتبر الرافعي أنّ أهل السنة في لبنان شعروا أنهم يتامى، ولا يوجد من يدافع عنهم. من جهة، انشغلت السعودية بحرب اليمن، ومن جهة أخرى، تبدو تركيا مهددة بحرب استنزاف. أمّا المرجعية السنيّة في لبنان، فهي ضعيفة، لأنها لا تحظى بالغطاء والدعم اللازمين من الخارج.
لكنّ العامل الأكبر بإضعاف الطائفة السنيّة، يحمّله الرافعي للدور المسيحي الذي آمن بحلف الأقليات، “وكان بمثابة خيانة لأهل السنة”، لا سيما بالدور الذي لعبه التيار الوطني الحرّ. هذا العهد، “خان الطائفة السنية، والرئيس سعد الحريري غامر بتسويته على حساب الطائفة، بعد أن أصبحت اللعبة السياسية نوع من الاتفاق على مصالحها بين مسيحي التيار العوني وشيعة حزب الله وبعض الدروز للانفراد بالبلد”.
ما هو الثمن الذي دفعه السلفيون في لبنان؟ يرفض الرافعي إلصاق السلفيين بالتنظيمات المتطرفة مثل داعش، لمجرد دعمهم الثورة السورية، التي أدت بكثير من شباب الطائفة إلى السجن. “لقد تلقت الحركة الإسلامية ضربة قوية من (جماعتنا) فيما كانت هي الأداة”. يرى الرافعي أنّ السعودية، هي الحائط الأخير والسدّ المنيع في مواجهة تمدد المشروع الإيراني، إلّا أنّها ارتكبت خطأ كبيراً حين ظنّت أنّ انشغالها باليمن ينهي المشكلة، بعد أن دعمت الثورة ثمّ تخلّت عن نصرتها في سوريا.
خلدون الشريف: فائض القوّة الشيعية
في سياقٍ آخر، يعتبر السياسي خلدون الشريف، أنّ إشكالية الطائفة السنيّة سياسيّاً، هي مسألة حديثة، لا سيما أنّ سنة لبنان كانوا يعتبرون أنفسهم امتدادًا للأمة العربية. فمنهم من مال لمصر ومنهم من مال للعراق، وآخرون مالوا للسعودية أو لسوريا. لكن، بعد التحولات الكبرى التي اخرجت مصر من المعادلة مع توقيع كمب دايفيد، وسقوط العراق عام 2003، ثم الثورة في سوريا عام 2011، وجد سنة لبنان أنفسهم خارج المشهد الكبير في الوقت الذي يتمدد فيه النفوذ الإيراني الذي يعزز قوة وحضور “الشيعية السياسية” في لبنان وخارجه، من فلسطين إلى سوريا والعراق والخليج العربي.
كذلك، يرى الشريف أنّ ثمّة نفوذًا تركيًا في المنطقة بدأ يلوح من الموصل إلى أدلب، كما من الواضح أيضاً أن بعضاً من سنة لبنان، يعبرون عن إعجابهم بالتجربة التركية. لكن إلى الآن، “لم تتضح صورة التأثير التركي، في الوقت الذي تحاول المملكة العربية السعودية الحفاظ على حضورها ونفوذها في الداخل اللبناني”. غير أنّ التأثير الإقليمي، وفق الشريف، لا يطال السنة في لبنان وحسب، بل يطال كل اللبنانيين. لذا، على اللبنانيين أن يعوا أن مصلحتهم واحدة، وأنّ وحدتهم ضرورية، من خلال تمسكهم بدستورهم، الذي يقيهم شرور النزاعات، وعلاقاتهم الأقليمية لا بدّ أن تكون جيدة مع الجميع. يسأل: “ألسنا نحن من استنبط سياسة النأي بالنفس؟”.
بسام حمود: تماسك الجماعة
في المقابل، يعتبر نائب رئيس المكتب السياسي في الجماعة الإسلامية بسام حمود، أنّه لا بدّ من الدعوة للقاء سياسي تشاوري يجمع الأقطاب والأحزاب السنية الفاعلة، لمزيد من تماسك الصف والتمسك بالدولة العادلة والفاعلة، حتّى تحافظ من خلال التوازن الداخلي مع كل الأفرقاء على ما تبقى من وطن. فـ “في خضم هذه الأهوال التي تعصف بالإقليم، يجد سنة لبنان أنهم ليسوا على أفضل حال، حيال فائض القوة التي تشعر به بعض القوى المحلية وتحاول صرفه في الداخل اللبناني، والذي يأتي على حساب صلاحيات ومواقع الطائفة السنية السياسية، التي لا بدّ لقياداتها السياسية والدينية أن تحرص بالدعوة إلى هكذا لقاء”.
إقليمياً، يشير حمود إلى أنّ الطائفة السنيّة عموماً والجماعة خصوصاً، لطالما دعت إلى بناء أفضل العلاقات مع المحيط العربي والإسلامي. لكن، بما أنّ كل الطوائف والأحزاب والقوى في لبنان، لها ارتباطات خارجية، وطالما هذا هو واقع الحال، “ندعو لأن تكون هذه العلاقات لتحقيق مصلحة لبنان على حساب الخارج وليس العكس”.
(المصدر: صحيفة “المدن” الالكترونية)