مقالاتمقالات مختارة

القُبيسيَّات بين دار الأرقم وجبل الصّفا (4)

القُبيسيَّات بين دار الأرقم وجبل الصّفا (4)

بقلم الشيخ محمد خير موسى

في دار الأرقم

هناك في البيوت المتناثرة في أحياء المدن كانت القبيسيّات يجتمعن بعد أن يصلن إليها بسريّة وهدوء.

يستحضرن نموذج دار الأرقم التي كان يلتقي فيها النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بأصحابه سرًّا في مكّة لتبليغهم الوحي وتعليمهم آي الكتاب المجيد.

وهذا الاستحضار كان يحقّق نتيجتين مهمّتين للجماعة؛ فقد كان عامل جذب لكثير من الفتيات اللّواتي كنّ يشعرن بأنَّ هذه اللقاءات التي تحدث بعيدًا عن أعين “الدّولة” تذكّرهنّ بالجيل الأوّل من الصحابة الكرام فيرين أنفسهنّ على دربهم وطريقتهم.

كما أنه كان يشكّل سببًا قويًّا لتثبيت الطّالبات وتعزيز انتمائهنّ للجماعة وهنّ يستشعرن عظيم المسؤوليّة الملقاة على عاتقهنّ في إحياء الدّين وتجديد الدّعوة إليه.

وكانت تُمارَسُ في الحلقات المنزليّة طقوسٌ تعزّز هذه “السريّة” في نفوس الطّالبات، منها منع التّصوير والتّسجيل، وكانت تُبرَّر الحساسية المفرطة من التّصوير والتّسجيل خشية أن تتسرّب فتلحق ضررًا بالجماعة.

وبعد انتشار الهواتف المحمولة غدا إدخال هذه الهواتف إلى غرفة اللقاء من المحظورات، فتوضع الهواتف خارج الغرفة في احترازٍ أمنيّ تمارسه عموم الجماعات والتّنظيمات السريّة في لقاءاتِها.

ويتكرّر التذكيرُ دومًا من الآنسات المشرفات بمفهوم أمانة المجلس وخطر إفشاء ما يجري ويدور في الحلقة من حوارات ونقاشات.

“القَطْعَة” إجراءٌ احترازيّ تفرضُه السّريَّة

والقَطعَة هو المصطلح الذي تستخدمه الجماعة للدّلالة على توقّف سيرِ الحلقات وإلغاء الدّروس.

وكان هذا الإيقاف يحدثُ عندَ وقوع حدثٍ أمنيّ أو سياسيّ يُخشى معه زيادة النّشاط الأمنيّ، وهو إجراءٌ احترازيٌّ كي لا تدخل الجماعة في دائرة الاستهداف المباشر أو الملاحقة.

فعلى سبيل المثال كانت تحدُثُ القَطعة كثيرًا في الثّمانينات من القرن الماضي إبّان المواجهة بين نظام حافظ الأسد والإخوان المسلمين، وقد تستمرّ القَطعَة شهورًا وقد تجاوز السّنة كما حدث عند وفاة حافظ الأسد إذ استمرّ التوقّف عن الحلقات ما يزيد على سنة.

والمُخوَّل باتّخاذ قرار القَطعَة هو الآنسة منيرة ومعها مجلس الآنسات الكبيرات فقط، ولا يحقّ لأيّة حلقةٍ في دمشق أو غيرها اتّخاذ قرار القطعة، وفي خارج سوريا فالآنسة الكبيرة في تلكم الدولة هي صاحبة القرار.

ويتمّ إبلاغ قرار القَطعَة غالبًا بطريق المشافهة حيث تكلّف إحدى الطّالبات بالمرور على بيوت طالبات الحلقة وإبلاغهنّ أنّ هناك “قَطعَة” دون إبداء الأسباب، ويمنع استخدام الهواتف الأرضيّة والمحمولة في التبليغ، ويترافق التّبليغ عن القَطعَة مع طلب الدّعاء للجماعة بتفريج الكرب وطلب الالتزام بوِردٍ من الاستغفار على نية التفريج.

هل هي “سريّة” حقًّا؟!

إنَّ الحديث عن “سريّة” القبيسيّات في ظلّ نظامٍ أمنيّ بامتياز كنظام الأسد هو من النّكات المضحكة، فعدا عن كون السّمت العام والهويّة البصريّة المُعلنةِ والمعروفة للجميع فإنَّ هذا النّظام الأخطبوطيّ أمنيًّا لا يمكن أن يقبل بنموّ جماعةٍ أو نشاطها بعيدًا عن أنظاره.

وهنا لا بدّ من التّأكيد على أنَّ السّماح من النّظام السوريّ أو غيره لأيّة جماعة دعويّة بالنّشاط والعمل لا يعني بالضّرورة رضاه عنها أو تحكّمه في مفاصِلها، بل يمكن أن تكون هناك حسابات أخرى تدفع لهذا منها الموازنات الدّاخليّة بين الجماعات المختلفة والموثوقيّة من عدم تشكيل خطر حقيقيّ على وجود النّظام.

وينبغي هنا ملاحظة أنّ دعم الجماعة من قبل العلماء والدّعاة الذين يمثّلون موضع ثقة عند النّظام كان له دور بالغ الأثر في السّماح لهذه الجماعة بالعمل في المنازل بطريقةٍ “سريّة”.

وهنا يمكننا التّأكيد على أنَّ هذه السريّة هي سريّة تعيشُها الطّالبات والآنسات في مخيلتهنّ وسلوكهنّ، كما أنّها سريّة تُمارَسُ على المجتمع المحيط، لكنّها لم تكن على الإطلاق جماعةً سريّة على أجهزة النّظام المختلفة فهي في مدى نظرِه وتحت رقابته الصّامتة.

ولذا فإنَّ وصف القبيسيّات بأنّهنّ “جماعة سريّة” هو وصف يجافي الحقيقة ويخالف الواقع والمنطق، والأدقّ وصفًا لهنَّ أنّهنّ “جماعة مغلقة” أي تمارس صورة السريّة بهدف تحقيق الانغلاق على الذّات يما يحفظ وجودها وكيانها لا بما يضمن سريّتها.

إلى مساجد دمشق

استمرّت الدّروس في المنازل حتّى عام 2005م، وبعد حراكٍ على مستوى مؤسسات النّظام قاده كلّ من د. محمّد سعيد رمضان البوطي لدى الأجهزة الأمنيّة ود. محمّد حبش في مجلس الشّعب الذي كان عضوًا فيه يمكن القول بأنّ مرحلة الدّعوة العلنيّة قد بدأت فعلًا.

فقد أكّد د. البوطي أنّه وبرفقة عدد من العلماء أبلغوا الأجهزة الأمنيّة بأنّ هذه الجماعة عملها مستقيم ووطنيّ ليسَ فيه أيّة شائبة، وأكّدَ أنّهنّ لا علاقة لهنّ بالسياسة على الإطلاق، وهذا يقتضي منحهنّ موافقات للتدريس في المساجد والعمل في العلن وفي هذا أصلًا مصلحة النّظام نفسه قبل مصلحة الجماعة.

أمّا د. محمّد حبش فيقول في إحدى مقالاته الدّفاعيّة عن الجماعة: “وخلال خدمتي في مجلس الشّعب تبّنيتُ مبدأ إخراج القُبيسيّات من الغموض إلى العلانية، وكان موقفي يستند إلى قناعتي بأنّ المجموعة هي في الواقع مجموعة تعليميّة ناجحة لا تمتلك أيّ برنامج سياسيّ، وأنّ ممارسة إرعابها ومحاصرتها قد يدفع كثيرًا من أبناء الجماعة للتطرّف، وبالفعل فقد تمكّنت من الحصول على عددٍ من الرُّخص لشيخات قبيسيّات لممارسة العمل العلنيّ في المساجد في سوريا، وكان ذلك بداية خروجهن إلى العلانية منذ عام 2005”

الملفت في تصريحات الشّيخين البوطي وحبش أنّه يوحي بأنَّ الانتقال من المنازل إلى المساجد كان مطلب الجماعة، وهذا مخالفٌ للحقيقة التي تؤكّد بأنَّ الجماعة كانت ترغب بالبقاء في النّشاط المنزلي غير أنَّ جهودًا بذلت من المشايخ أنفسهم مع الآنسة منيرة والآنسات الكبيرات لإقناعهنّ بالانتقال إلى العمل العلنيّ في المساجد.

وقد كانت الآنسات يطمحن إلى الجمع بين العمل المسجديّ والحلقات المنزليّة لكنّ تلك الرّغبة كانت بعيدة المنال، حيث ضعفت اللّقاءات والحلقات المنزليّة إلى حدِّ كبير غير أنّها لم تتوقّف على الإطلاق.

التزاماتٌ مسجديّة جديدة

وفعلًا شرعت القبيسيّات بالحلقات والدّروس المسجديّة في دمشق وغيرها من المحافظات السوريّة بينما بقي النّشاط المنزليّ هو الأصل في بقيّة البلدان.

وهذا الانتقال إلى المساجد ترتّبت عليه تبعات جديدةٌ على الجماعة أهمّها وأوّلها هو الدّعاء للرّئيس بشّار الأسد في نهاية كلّ درس باسمه الصّريح، وهذا أمرٌ مفروض على جميع الخطباء والمدرّسين في مساجد سوريّا وعدم فعله يؤدّي إلى المنع من الخطابة أو التّدريس، وكانت القبيسيّات يفعلنه في نطاقات مختلفة فكان يغيب في الحلقات الخاصة ويحضر في الحلقات المفتوحة.

كما ترتّب عليه الالتزام بتعميمات وتعليمات وزارة الأوقاف، وقد حُرمت من العمل المسجديّ بعض الآنسات اللّواتي ينتمي لأسرهنّ شخصيّات إخوانيّة إذ كان ذلك سببًا في رفض منحهنّ الموافقة الأمنيّة اللازمة.

كما فرض هذا الانتقال إلى المساجد جوًّا جديدًا من انفتاح الجماعة على شرائح جديدة من الطالبات تخالف الضّوابط الصّارمة التي وضعتها الجماعة في مرحلتها السّابقة ممّا فرض عليها التّخفيف من شروط الالتحاق بالجماعة، والتخفّف من الضّوابط الموضوعة للسّلوك أو المظهر العام.

ولكن ما هي المرتكزات الفكريّة والدّعويّة والشّرعيّة التي تقوم عليها جماعة القبيسيّات؟ وما هي مناهج الحلقات؟

الإجابة عن هذه الأسئلة بإذن الله تعالى في المقال القادم.

(المصدر: الجزيرة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى