لماذا تقدم الصحابة وتأخرنا؟!
بقلم محمد سعيد بكر
المحاور:
يرى البعض أن الفرق الوحيد بيننا وبين الصحابة هو أنهم أدركوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وآمنوا به وماتوا على الإسلام .. وهذا وإن كان من الفروقات بيننا وبينهم إلا أنه ليس الفرق الوحيد .. لأننا مهما عملنا لن ندرك شرفهم ولا منزلتهم بهذه الحالة .. باعتبار أن شرف الصحبة تاريخياً قد تجاوزنا.
ويرى آخرون أن الصحابة رجال ونحن رجال، فلا ميزة لهم علينا، وبالتالي لا ينبغي أن نجعلهم نموذجاً يُحتذي ويُقتفى أثره، ثم يُشغل أصحاب هذا الرأي أنفسهم كثيراً بالبحث عن عيوب ومثالب الصحابة التي تثبت بشريتهم، ولا يتورع البعض عن ذكر أسماء الصحابة بلا دعاء لهم بالرضوان، أو قد يذكر بعضهم بسوء، نعوذ بالله من الخذلان!!
والصحيح أن جيل الصحابة جيل مختار من الله تعالى، مصنوع على عينه سبحانه، ليكون كالقرص الصلب وكالسوار من الجواهر حول أطهر معصم؛ رفيقاً لخاتم الأنبياء والمرسلين، في الوقت الذي لم يخرجوا فيه عن بشريتهم، فقد ظهرت بعض أخطائهم على الرغم من شدة عناية النبي صلى الله عليه وسلم بهم واقترابه منهم وتربيته لهم.
إن ثمة فروقاً جوهرية بيننا وبين الصحابة الكرام، جعلتهم يتقدمون ويتفوقون وجعلتنا نتأخر، وهذه الفروق ينبغي الاعتراف بها على طريق إصلاح أنفسنا ونهضة مجتمعاتنا وأوطاننا وأمتنا، وإلا فإن المكابرة عن تشخيص المرض، ورفض العلاج والدواء هي التي تهلك المريض وهو لا يدري، فمن الفروقات الجوهرية بيننا وبين الصحابة ما يأتي:
١. حجم اليقين على عالم الغيب بلغ ذروته عند الصحابة، لدرجة أن مشهد اليوم الآخر لديهم صار أوضح من مشهد اليوم الذي يعيشون فيه ويلمسون أثره في حياتهم، فعالم الغيب الذي حدثهم عنه القرآن وسمعوا عنه من النبي صلى الله عليه وسلم كان في عيونهم أوضح وأثبت وأقرب من عالم الشهادة، بينما نحن نعاني غبشاً وتدنياً في الرؤية لعالم الغيب، في حين نحرص كل الحرص على رؤية واقعنا المعاش بمختلف أنواع الشاشات ومكبرات الصوت والصورة.
٢. القدرة العجيبة والاستعداد النفسي لدى الصحابة الكرام على تحويل العلم إلى عمل، والتنظير إلى تطبيق، والتدريب الجامد إلى تجريب متحرك، والأمل إلى عمل، فهم كتلة متحركة لا تقبل الجمود، بينما نحن كتلة جامدة تأنف من الحركة، وتعشق الكلام والنقاش، والجدال الذي لا طائل من ورائه.
٣. كانت مصلحة الجماعة والمجتمع مقدمة في حياة الصحابة على مصلحة الفرد، لأجل ذلك رأينا في حياتهم الإيثار، بينما تقدمت مصلحة الفرد في زماننا على مصلحة الجماعة والمجتمع فوجنا في حياتنا الأثرة وحب الذات دون الإيثار .. وذلك على مستوى الحاكم والمحكوم.
٤. كانت غيرة الصحابة الكرام على دينهم ومقدساتهم ودعوتهم ودماء إخوانهم وأعراض أخواتهم مقدمة محترمة، فخرجوا في سبيل الله تعالى دعاة إلى الله تعالى ومجاهدين، في حين صارت غيرتنا على سفاسف الأمور وتركنا لمعاليها مما جعلنا أمة مستباحة تراق دماؤها وتنتهك أعراضها ومقدساتها وتسلب مقدراتها ولا تحرك ساكناً.
٥. كان الصحابة رجالاً عند المواقف الصعبة، فقد اختبر الله تعالى إيمانهم وثباتهم وصدقهم في مواطن عديدة، لا ليعلم تحقق تلك الصفات الكريمة فيهم، بل ليُعلمنا نحن عن سر اختياره لهم، وإلا فلا قيمة لدروس (العقيدة الصحيحة) إذا كنا عند الأزمات والمحكات أصحاب (مواقف فاسدة).
٦. كانت همة الصحابة الكرام ظاهرة في الاستدراك والتوبة والتعويض، والحرص على عدم الوقوع في جُحر واحد مرتين؛
– فنحن لا نعلم مثلاً أن أحداً منهم نطق بالكفر وجامل كفار مكة على الاضطرار بعد عمار.
– ولا نعلم أنهم تنازعوا على الغنيمة بعد نزول سورة الأنفال تفصل في نزاعهم عليها يوم بدر.
– ولا نعلم أنهم خالفوا أمر قائدهم ونزلوا عن تلة (ثغر) لأجل الغنيمة سوى ما كان يوم أحد.
– ولا نعلم أنهم تنازعوا حدَّ الفشل الذريع الذي أتى عليهم يوم أحد.
– ولا نعلم أن قلوبهم رجفت من شدة هول الموقف بعد غزوة الأحزاب.
– ولم نسمع أن أحدهم جرؤ على الخوض في عرض أحد بعد ما حصل من بعضهم في حادثة الافك.
– ولا ارتفعت أصواتهم في المسجد على بعضهم بعد خطبة النبي صلى الله عليه وسلم التي طلب فيها منهم إسكات كبير المنافقين عن الطعن في عرضه يوم الإفك.
– ولا نعلم أنهم ترددوا عن الاستجابة للأمر بعد صلح الحديبية.
– ولا حاول أحدهم كشف سر النبي صلى الله عليه وسلم بعد ما كان من حاطب رضي الله عنه قبيل فتح مكة.
– ولا أعجبتهم أنفسهم ولا أصابهم غرور العَدد والعِدد بعد حنين.
– ولا حزنوا على فوات الغنيمة بعد حنين وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم للأنصار أما ترضون أن يرجع الناس بالشاة والبعير وترجعون برسول الله صلى الله عليه وسلم.
– وما تخلف أحدهم عن غزوة بلا عذر بعد الثلاثة المخلفين عن تبوك.
– ولا حدَّ أحدهم نظره في النساء بعد أن أشاح النبي صلى الله عليه وسلم وجه الفضل بن العباس عنهن في حجة الوداع.
– ولا زنا أحدهم بعد ماعز والغامدية.
– ولا سرق أحدهم ولا شفع في سارق بعد تلك المرأة المخزومية التي رفض النبي صلى الله عليه وسلم شفاعة أسامة ابن زيد فيها.
– ولا قاتل أحدهم قبل الاستبانة بعد أن تبرأ النبي صلى الله عليه وسلم من فعل خالد رضي الله عنه في بني جذيمة.
– ولا قتل أحدهم من نطق بالشهادتين ولو هروباً من الموت بعد أن قال النبي صلى الله عليه وسلم لأسامة أشققت عن قلبه.
في حين أننا نجامل الكفار وبلا اضطرار.
ونتنازع في الليل والنهار.
وننزل عن تلة الرماة قبل صعودها في اليوم مرات ومرات.
وترجف قلوبنا عند كل صيحة وهيعة.
ونخوض في الأعراض دون تورع.
وترتفع أصواتنا في بيوت الله على أتفه الأسباب.
ونتردد في الطاعة ولا نتأخر عن المعصية.
ونكشف أسرار أهلنا وإخواننا عبر مواقع التواصل أولاً بأول.
وأما تخلفنا عن الغزوات والمعارك وفرارنا من زحف نصرة أسرانا ومسرانا فهي من أكبر كبائرنا اليوم.
وتعجبنا أقوالنا وأفعالنا رغم فساد بعضها.
ونسرق وننهب ونطلب شفاعة الشافعين (واسطات) للخلاص.
ونخوض في الأعراض والدماء بلا استبانة.
فلا تسأل عن الفرق بيننا وبينهم، لأنه ليس فرقاً واحداً بل فروق، فليس في حياتنا خرقٌ واحدٌ بل خروق؛
هم قوم زكاهم رب العزة فلا ينفعهم مدحنا ولا يضرهم قدحنا، قال تعالى: “
وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ۚ ذَٰلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ” (التوبة: 100).
هم قوم سبقوا وصدقوا، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:” لا تَسُبُّوا أَصحَابِي ؛ فَوَالَّذِي نَفسِي بِيَدِهِ لَو أَنَّ أَحَدَكُم أَنفَقَ مِثلَ أُحُدٍ ذَهَبًا مَا أَدرَكَ مُدَّ أَحَدِهِم وَلا نَصِيفَهُ” رواه البخاري ومسلم.
هم قوم رفعوا قدر زمانهم ولم يكتفوا برفع قدر أنفسهم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:” خَيرُ النَّاسِ قَرنِي ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُم ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُم” رواه البخاري ومسلم.
وختاماً
ليس المطلوب منا أن نعرف الفرق بيننا وبين سلفنا الصالح فحسب، بل الواجب أن نحذوا حذوهم وأن نبحث عن أسباب تفوقهم وأسرار قوتهم؛ لننهض كما نهضوا فنسعد كما سعدوا.
وإن شئت أن تعرف شرف الصحابة ومنزلتهم فانظر ماذا قال أحدهم فيهم، يقول ابن مسعود رضي الله عنه: “إن الله نظر في قلوب العباد، فوجد قلب محمد صلى الله عليه وسلم خير قلوب العباد، فاصطفاه لنفسه، فابتعثه برسالته، ثم نظر في قلوب العباد بعد قلب محمد، فوجد قلوب أصحابه خير قلوب العباد، فجعلهم وزراء نبيه، يقاتلون على دينه، فما رأى المسلمون حسنا فهو عند الله حسن، وما رأوا سيئا فهو عند الله سيئ” رواه أحمد وقال المحققون: إسناده حسن.
(المصدر: رابطة العلماء السوريين)