مقالاتمقالات مختارة

أثر علمنة المناهج التدريسية على وعي الأجيال

أثر علمنة المناهج التدريسية على وعي الأجيال

بقلم مؤمن سحنون

من مميزات المخزون البشري لأمّة الإسلام أنها تزخر بنسبة كبيرة من الشباب، والشباب هم عماد كل حضارة وقوام كل تغيير، هم شعلة الحماسة وهمة المبادرة وروح التحرر.

وإن قيمة تربية الأجيال على مؤهلات فهم الواقع وإدراكه وإنشاء الشخصية الرسالية في الفرد المسلم لهي مسؤولية كبيرة ملقاة على عاتق الأولياء والعلماء والمربيين والشباب، الذين يزاولون دراساتهم في مختلف المؤسسات في البلاد العربية لانتشال المجتمعات من ربقة الاستعباد المعاصر عبر تصحيح ما هدمته المناهج الدخيلة الاستعمارية وما قيدت به الطاقة الشبابية الإسلامية عن البناء والتطلع لمستقبل متحرر من كل قيود التبعية والعودة بالأمة لركب الصدارة، هناك حيث مكانها الطبيعي الذي افتقدها حين غفت، وإن بعد الغفو لصحوة.

المنهج العلمي في التفكير وتحرير الإنسان

حين هلت أنوار النبوة على ظلام الجاهلية، كان من أولويات الرسالة تقرير المنهج العلمي للتفكير في الإسلام لينضبط به التلقي والإدراك والتعلم، الأمر الذي بدا غريبا على واقعٍ بشري طُمست فيه آثار الرسالات السابقة، فعُبد الحجر وتفاخر الإنسان بما دونه وانقاد لبهيمية الشهوة معطلًا لمداركه العقلية ليستبدلها بتقديس ميراث الآباء والتعصب له والخضوع للجبابرة واعتقاد الألوهية فيهم دون تفكيرٍ أو نقد. فكان تقرير المنهج العلمي للتفكير مقدمة لبناء الدين في نفوس المسلمين على الرشاد الذي لا يقصي العقل ويعتمد البراهين الجلية التي مثّلت إشارات لامست الفكر الجاهلي المعتم فبعثت فيه أنوار المعارف وأيقظت فيه التأمل والنظر والتصور حتى تؤمن البشرية بهذه العقيدة على هدى من أمرها وجلاء.

علاقة الأفكار بالسلوك

تتحول مجموعة أفكار الفرد التي تتكون عبر تلقيه للمعلومات مما حوله في المحيط العائلي والاجتماعي والتربوي التعليمي إلى سلوك، ثم تتحول مجموع هذه السلوكيات إلى عادات لتتحول هذه العادات إلى نمط للشخصية، فإن صحّ ما سبق يصبح عالم الأفكار المكتسبة أساسيًا في توجيه السلوك.

وبتغييره يمكن أن يتغير السلوك سلبًا أو إيجابًا بحسب مقاييس ومآلات الأفكار، لذلك يمكن القول أن الوعي، وهو المعرفة التي يصاحبها إرادة التغيير، يُعتبر أساسًا لتلمّس طريق الانعتاق من أسر الجاهلية المعاصرة.

نقطة البداية في عملية التعلم والبحث بين المسلم وغيره

ينطلق المفكّر المسلم في بحثه ودراسته لشتّى العلوم من يقينيات جلية وإجابات واضحة عن التساؤلات الكبرى فيما يخص الخلق والخالق والبعث والحس والروح والمادة والكائنات وعلاقته بها في هذه الحياة، والروابط المنطقية التي تربط كل هذه الكائنات بإرادة الخالق الواحد وامتداد هذا الكون من ساعة خلقه إلى الساعة التي يعلم الخالق زواله فيها، وبالتالي تكون رسالة الإنسان على هذا الكوكب وهذه المجرة وهذا الكون الشاسع معلومةً لدى المسلم، بل من بديهيات معلوماته، على اعتباره هنا في هذا الوجود لأداء رسالة عظيمة تتمثل في خلافة الخالق على أرضه، وعمارة هذه الأرض وفق المنهج الرباني و رعاية القيم السامية التي لا يصلح شأن المخلوقات ولا تستوي حياتهم إلا برعايتها وعليه يكون مُحققًا لقوله تعالى:

وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون

وتحت هدف العبادة تنضوي كل نشاطات هذا المخلوق في المدة المحدودة التي أمهله خالقه إيّاها ليؤدي رسالته ومهمته منقسمةً على مختلف النشاطات التي تعترضه والتي يراعي فيها كلها مقتضى العبودية لله، لتتحول الحياة بهذا التصور إلى ميدان سعي وفق التوجيه الرباني.

بينما ينطلق الفكر الغربي صاحب السطوة العلمية المعاصرة من فرضيات مُخالفة عن تصور الحياة والمادة، وهي تصورات غير مسلّم بها، لأن مصدرها في الغالب تخمين إنساني قابل للنقد. وفيه تعارضات كبيرة مع المنطق والفطرة، مما أنتج تصور عن عبثية الكون ووجود المخلوقات بدون خالق، أو اعتبار الطبيعة هي الخالق للمادة المكوّنة لمختلف الموجودات مع الوقوف عند هذا المستوى دون التساؤل عمّن خلق المادة ومن أوجد الطبيعة.

وهو الأمر الذي جعل المنطق العلمي العلماني يضرب في التيه ليصل إلى إلغاء نصف الحقيقة والاكتفاء بدراسة نصفها الأول وهو وجود المادة، دون التطرق إلى عظمة خالقها وجلاله وإحاطته وعلمه وقدرته.

ما أهمية المنطلق الأساسي في مسار رحلة التعلم؟

عندما ينطلق المسلم من بديهيات مسلّمة استقاها من إيمانه بربّه وتصديقه برسالة نبيه فإنّه لا يدخل لمشوار الدراسة والبحث ليفتش بين ثنايا العلوم عن إجابات للتساؤلات الكبرى التي يجد إجابتها في كتاب الله وسنة رسوله والتصور الإسلامي.

تلك الحقائق التي أقرّتها آيات الكتاب الكريم ووافقتها آيات الكون المحسوس، فيسعى للاكتشاف والمعرفة والدراسة بغيّة نفع الناس والبشرية بمعلومةٍ جديدة أو اختراع جديد أو علاج طبي، لتتحول الدراسة وطلب العلم لعبادة يتقرّب المسلم بها إلى ربه، وبهذا ينسجم فكره وقلمه وجوارحه ووجدانه في تلك الغاية السامية.

وقد يعجب من يرى الإبداع العلمي الذي تركه علماء الإسلام الذين خطّوا من مداد العلوم الأسفارَ الضخمة في مدةٍ وجيزةٍ من حياتهم، وطرقوا أبوابًا مختلفة المعارف، لتجد العَالِم الواحد منهم يتميّز في أكثر من علمٍ ويثري بجهوده مكتبةَ البشرية بالجديد النافع ويضيف بعمره أعمارًا لمن يليه في مجالات عدة ليتصل بهم عبر سير الزمان وسبحات العقول والأفهام. وهو ما أثار دهشة من تلاهم من الأمم التي أنشأت ثورتها العلمية انطلاقًا من الموروث العلمي الذي خلّفته الحضارة الإسلامية.

مناهج التعليم المعاصرة المفروضة على المسلمين نتاج لصراع مع الكنيسة

وبينما تقوم المناهج التعليمية الحالية على فرضيات مبهمة عن التساؤلات الكبرى، منطلقةً من رواسب الأحداث التي شكّلت العقلية الغربية في مختلف حقبها من العصور الوسطى إلى الصراع مع الكنيسة إلى فصل الدين عن السياسة مرورًا بفصله كله عن كل مناحي الحياة بما فيها العلم، باعتبار الكنيسة كانت حاجزًا أمام العلم وحاربت العلماء وتدخلت في اكتشافاتهم سلبا، فأعدمت في تاريخ تجبّر رهبانها وقساوستها الباحثين والدارسين والمكتشفين وأرهبت الحس النقدي لتكممه بغطرستها، وتبنت تفسير للوجود والعلوم فرضتهم فرضا على العلماء والعوام، وقامت بعملية تحجير وتجميد للتفكير والإبداع الإنساني.

وبالتالي من الطبيعي أن يثور العقل البشري عليها علميًا، فانتصرت المعرفة على خرافات الكنيسة، لكن ما حدث أنهم ثاروا على الكنيسة وأتبعوا ذلك بثورة على الدين، الأمر الذي كوّن الفكر الإلحادي والعلماني المُنكر للخالق، الذي ألقى بضلاله على مناهج العلم والبحث والدراسة، مما أنتج تفسيرًا ماديًا للتاريخ والكون والظواهر الطبيعية ثم انتقل هذا التفسير ليُعمم على العلوم والمناهج الحديثة التي تسرّب غثها وسمينها في الحملات الاستعمارية الأخيرة لديار أمة اقرأ.

للأسف أبناؤنا يتلقون علومهم من نقول واقتباسات مما أنتجه هذا المخاض، المخاض الغربي مع الكنيسة، بينما منزلة العلماء وطلاب العلم في الأمة الإسلامية منزلة مشرفة لا حجر فيها على العقول و الإبداع، فحين تلقي نظرة على البلدان المترامية التي نوّر الإسلام عقول البشرية منها، تدرك أن هذا الدين كان إذا دخل لبلدٍ عمل عامل الدافع والموقظ للقدرات الإنسانية المُحارب للخرافة و تسلط أي قوى مانعة للاختيار الحر، بما يفسر تلك الطفرة العلمية التي شهدتها العصور التي سادها هذا الدين، ورُقي الفكر الإنساني بسير العلم كعامل بناء وتطوير لحفض الحياة البشرية وتسهيل نشاط الإنسان في مختلف مجالاته ومراعاة فطرته واستعداداته وقيمته كمخلوق شرفه الله, بالتالي تصبح كل العلوم المادية خادمة له في مساره التاريخي، لا أن يكون هذا الإنسان عبدًا للآلة أو أسيرًا لمنظومة عمالية تستنزف وقته وجهده ومواهبه وتدخله في دورة كدح يومي تفنى فيها الجماعات ليجني رأس المال على حسابهم الأرباح، فمنذ أن أفُل المنهج الإسلامي في التعليم حتى أصبحت المعرفة جزء من العلاقة النفعية بين المؤسسة العلمية والسوق والمستهلك والعمال، تجني من ورائها كبار الشركات ثمار الرحلة التعليمية للفرد، وتستغل العلوم كوسيلة للتسويق والتلاعب النفسي بالجماهير وكأساليب لإخضاع و ترهيب الشعوب.

تأثير المناهج الغربية في تكوين وعي مجتمعاتنا

من أكبر العوامل التي تساعد على تشكيل وعي جيلٍ: التحكم في مناهج تدريسه، بحيث تقع عملية تلقين وصياغة جملة التصورات من أبجديات المعارف التي يساعد تبلورها على تحديد القيم وعلاقة الفرد بما حوله في عالم الأشخاص والأشياء وتفاعله معها وانطباعه حول مسار الأحداث ورموز التاريخ، لتتشكل الأساسيات والبديهيات التي تكون مرتكز ينطلق منه الفكر في إنتاج الأحكام والمشاعر والقرارات والمواقف.

كما يظهر الخطر في فصل الدين من المناهج التربوية بصفته مرتكزًا أساسيًا في تكوين النُشّء المسلم عقديًا وأخلاقيًا وعلميًا، ليتم صياغة أجيال هشّة فاقدة للقدرة على صد العدوان ومقاومة الإغراءات، وهو ما يهدد باضمحلال الحضارة الإسلامية وانحلالها في وجه الحضارات الغازية الأمر الذي يجعل المناهج الغربية من أخطر أدوات الهيمنة لاستهدافها لتوجيه إرادة المجتمعات.

أثر تعليم اللغات الأجنبية منذ التعليم الابتدائي

languages

مثل ما يتم الجناية على البلدان والشعوب عسكريًا، يتم غزو اللغات لأهداف مشابهة للغزو العسكري، بل يكون غزو اللغة أكثر خطورة، وهذا ما أدركته القوى الاستعمارية التي سعت إلى تغييب اللغات المحلية لتغيير مستوى التفاعل مع القضايا المصيرية، لهذا تخوض اللغة تحديًا في صراع الحضارة، فإن استطاع طرفٌ ما هزيمة طرفٍ ووجد فيه استجابةً وقابلية لتغيير اللغة فسيكون ذلك بابًا لتغيير الهوية والثقافة، ينجر عنه هزيمةٌ عقدية عبر التهوين من التفاعل مع قضايا العقيدة، ثم يكون هذا بابًا للتبعية الاقتصادية والسياسية والعسكرية بعد التركيع التام.

بالتالي تصبح اللغة الأجنبية التي يدرسها الأطفال منذ انفتاح مداركهم على المعرفة في مقابل تدني مستوى تعليم اللغة العربية، هو سرقة لانتمائهم وهويتهم بل ولرسوخهم في دينهم وفهمهم لشريعتهم، فإفحام اللغات الأجنبية في مراحل أولى من التدريس على حساب اللغة العربية، وهي لغة القرآن والسنة التي كل ما كان التعلق بها أمتن كان التعلق بالدين وفهمه أمتن، له أثاره المدمرة في بناء الأجيال وحريتها.

حرب الأفكار

يتعرض عالمنا الإسلامي، إلى غزوٍ فكري حاد، في هذه اللحظات يتم تزييف التصورات في عالم أفكار المسلمين عبر كل ما حولهم من وسائل التعليم الرسمي ووسائل الإعلام لصياغة أجيال جديدة مفصولة تماما ومنقطعة عن عقيدتها ولغتها وجذورها ومنهجها وعن مثلها وقدواتها.

يشترك في هذا أجهزة ومؤسسات تربوية محلية تنفّذ وصايا وتعاليم الاتجاه العالمي الذي قرره الغزاة المعاصرون، باعتبارهم لهذا الدين عدوهم الذي كرّسوا لمحاربته كل جهودهم وجهود أتباعهم فيما سمّوه صراع الحضارات. ينزلُ الغزاة اليوم لميدان الصراع مدججين بمنظماتهم الدولية وبإعلامهم وتعليمهم وإملاءات سفاراتهم وتوجيههم للنخب الثقافية من عملائهم والمتربيين على ثقافاتهم الغربية والمنهزمين أمامها والمنتمين لصفوف أعدائهم، ينزلُ الغزاة مسلحين بأفلام هوليوود وبرامج تطوير المجتمع وحوار الأديان وحقوق المثلية الجنسية ومخططات النسوية وبرامج وزارات الثقافة والتعليم والإعلام التي تعمل على تنفيذ ما تقرره أوكار البحث والقرار الأمريكي و الغربي.. في معركة تستهدف العقول والقلوب.

الأمة التي صنعها الإسلام

أخرج الدين الإسلامي العرب، وهم أمة كانت تعبد الصنم الذي ينحته النحات وتقدس الحجر وتعلوا هبل والعزة واللات، أخرجها الإسلام من تيه الركام ومستنقعات الجاهلية ومن الظلام إلى أنوار العلوم، حملها فوثب بها تلك الوثبة الفريدة في التاريخ البشري بعد أن حررها من الوهم كل الوهم ومن الخرافة كل الخرافة ومن الطغيان كل الطغيان.

حررها من قيودها المثبطة ليؤسس على هذه الأرواح الحرّة منهجًا متكاملًا لكل الحياة، وانتشلها من الشتات بين الأرباب المتفرّقين إلى توحيد رب العالمين، فكان منهج التعلّم في هذه الأمة منهجًا يحمل في طياته نور هذه الرسالة، وكمال هذا الدين، فبلغت به، لا الأمة الإسلامية وحدها بل البشرية جمعاء، بلغت ذلك المستوى الرفيع من رقييها.

فكيف وقد استُبدل هذا المنهج بمنهجٍ مخالفٍ، منهجٍ يرتكز على إنكار الخالق، بل كيف وقد استبدل بمناهج تهدف لهدم التصور الإسلامي في وجدان وضمير المسلمين، فإذا كان الغرب قد استبان فساد المناهج التي تسوده علميًا وتربويًا، تلك التي تقوده إلى التفكك الاجتماعي والتصحّر الروحي والنفعية الطاغية والشقاء النفسي.. لابد لأجيالنا من صحوة يعود تعليمها عنصر دفع لها لا خادمًا لعدوها ومحتلها، لتتربّى الأمّة على نور من رسالتها، وإنها لأمانة في عاتق كل عالم وطالب علم، كل أب وأم، كل مربي ومدرس ولن يعيد هذه البشرية إلى رشدها إلى المنهج الرباني الذي كلف المسلمون بحمله، ليخرجها اليوم كما أخرجها أول مرة من الظلمات إلى النور.

Did you find apk for android? You can find new Free Android Games and apps.

(المصدر: موقع “تبيان”)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى