الشيوعية العربية والإلحاد.. كيف نظر ماركس إلى مسألة “التدين والإلحاد”؟!
بقلم جميل فتحي الهمامي
بعد مرور 100 سنة على الثورة البلشفية، تكوّنت لدى عموم المجتمعات العربية صورة نمطية للشيوعيين العرب ألا وهي: الإلحاد. فالدارس للفلسفة الشيوعية في بعديها الجغرافي والتاريخي يلحظ انقسام الناس إلى فريقين: فريق أوّل يعقد لواء الإلحاد على شرفة الشيوعية باعتباره سمة مبدئية. وفريق ثان يدحض هذه المسألة ويراها تهمة مفتعلة يقف وراها معسكر الرأسمالية.
الرأي الأوّل الذي تبنّاه فريق كون الشيوعية سمتها الإلحاد، برّر ذلك بكون الشيوعية تحارب الأديان، إذ كان لا بد أن تضع كتابًا بديلاً له، وهذا ما حدث؛ حيث وضعت الشيوعية كتاب سفر الإلحاد، ودعته سفرًا على مثال الأسفار المقدّسة، ويتكون هذا السفر من سبعمائة صفحة، وشارك في تأليفه لفيف من الكُتّاب المُلحدين في أكاديمية موسكو للعلوم سنة، وألبست الشيوعية هذا الكتاب ثوبًا مزيفًا من الأخلاق المسيحية السامية، بل أشاد هذا السفر بالمسيحية، فجاء فيه عن المسيحية أنها على خلاف كل الديانات القديمة رفضت كل حدود طبقية في تقديم عقائدها بمعنى أن عظاتها، وتعاليمها، قُدمت لكافة القبائل والشعوب والطبقات، وكذلك حطمت المسيحية في تعاليمها، كل الحواجز الاجتماعية، فالذين نشروا تعاليم يسوع قدموها لكل الناس دون تمييز لأصل أو جنس أو مركز اجتماعي.
كما شهد هذا السفر للاشتراكية المسيحية، فجاء فيه ” أن المسيحية قد كسبت أتباعًا كثيرين من العبيد لأنهم وجدوا بين المسيحية فرصة أعظم للكرامة والحياة”. واعتبر الشيوعيون أن سفر الإلحاد هو إنجيلهم؛ فقاموا بطبعه بعدة لغات، وأصدروا منه طبعات عديدة، وقامت أجهزة الإعلام بالدعاية لهذا الكتاب عبر الراديو والتلفاز والسينما، وتم توزيعه على نطاق واسع حتى في الدول غير الشيوعية، ونادى سفر الإلحاد بأنه لا إله، ولا حياة أخرى، ولا قيامة للأجساد، وركز السفر على أن الحياة لم تأتِ من قِبل الله الخالق، إنما هي وليدة الصدفة، وقد رأينا من قبل أنه من المستحيل أن الصدفة تخلق الحياة، كما هاجم سفر الإلحاد تعاليم السيد المسيح. ودعوته للناس بالتوبة
ماركس لم يحارب الدين واكتفى بتنزيله ضمن ما يسميه بالإيديولوجيا؛ أي منظومة القيم والمعتقدات التي ينتجها مجتمع ما كانعكاس نفسي وقانوني وسياسي للبنى التحتية الاقتصادية والمادية الخاصة به |
الرأي الثاني، يقف على النقيض تماما، حيث برّأ الشيوعية من الإلحاد، بل اعتبر أنّ ذلك من صنع الإمبريالية المعادية للشيوعيين. مضيفين أنّ الشيوعية تنتقد المتاجرة بالدين لا الدين في مجمل مقدّساته وطقوسه؛ فهم يرون أنّ الشيوعية هي النتيجة النهائية لنمو تاريخي للمجتمع الإنساني من العبودية الى الإقطاعية إلى الرأسمالية. وهو تاريخ قائم على التفاوت بين طبقتين: طبقة تملك وسائل الإنتاج، وأخرى لا تملك غير قوة العمل. ويقترح ماركس الشيوعية حلاّ لمشكلة المساواة بين الناس والقضاء على المجتمعات الطبقية، وذلك لا يتم إلا بثورة الطبقة الكادحة التي لا تملك غير جهدها اليومي ضد طبقة البذخ والثراء الفاحش.
فالإلحاد في نظرهم هو عدم اعتقاد المرء في وجود أي قوة خارقة مهما كان نوعها وشكلها: أصنام الوثنيين أو إله التوحيديين، وتعود ولادة اللفظ إلى اللغة اليونانية في القرن الخامس قبل الميلاد، ولا علاقة حينئذ للإلحاد بشيوعية ماركس التي لم تظهر إلاّ في القرن التاسع عشر. ونعلم جيدًا أن الذاكرة العربية زاخرة بتاريخ كامل في الإلحاد العربي الإسلامي من أبي جهل وأبي لهب إلى القرامطة وبعض الفلاسفة الذين نسبت إليهم تهمة الزندقة. أما ماركس فلم ينشغل بالدين من جهة الإلحاد أو الإيمان، ولم تكن مسألة وجود الإله أو عدمه تدخل في خطّته الفكرية أو السياسية مباشرة. ذلك أن مشكلة التصور الشيوعي للعالم هي تحديدًا القضاء على التفاوت الطبقي وتحقيق المساواة بين الناس عن طريق إعادة توزيع الخيرات بينهم توزيعا عادلا.
أما عن مسألة التدين والإلحاد فيعتبرها ماركس مسألة شخصية لا علاقة لها مباشرة بالسياسة الكبرى للبنى الاقتصادية في المجتمع. وأن أهم ما نظفر به من التصور الماركسي للدين هو اعتبار ماركس الدين نتاجًا لبؤس اجتماعي تعيشه الطبقة الكادحة، التي لم تجد من حلّ آخر لوضعيتها المادية البائسة غير الاعتقاد في عالم آخر بوسعه أن يكون أرحم، وأجمل من الدولة الرأسمالية، التي تحولت إلى جهاز قمع للبشر، وسحق لإمكانات العيش العادل والكريم بينهم. وبدلا من الثورة من أجل تغيير العالم يكتفي المتدين بالاعتقاد في آخرة بعد الموت، لكن ماركس لم يحارب الدين واكتفى بتنزيله ضمن ما يسميه بالإيديولوجيا؛ أي منظومة القيم والمعتقدات التي ينتجها مجتمع ما كانعكاس نفسي وقانوني وسياسي للبنى التحتية الاقتصادية والمادية الخاصة به.
وفي الأخير كثيرًا ما يستشهدون بنصّ كتبه لينين بتاريخ 24 نوفمبر 1917 نعثر فيه على موقف طريف وغير مسبوق من الإسلام والمسلمين، حيث يقول: «أيها المسلمون بروسيا وسيبيريا وتركستان، يا من هدم القياصرة مساجدهم وعبث الطغاة بمعتقداتهم، إن معتقداتكم وعاداتكم ومؤسساتكم القومية والثقافية صارت اليوم حرّة مقدسة، نظّموا حياتكم القومية بكامل الحرية، فهي حق لكم، واعلموا أن الثورة العظيمة وسوفيتات العمال والجنود والفلاحين تحمي حقوقكم وحقوق كل شعوب روسيا. ويضيف: لقد أُعيدت الآثار والكتب الإسلامية المقدسة التي نهبتها القيصرية إلى المساجد، وقد تمّ تسليم القرآن الكريم المعروف بقرآن عثمان في احتفال مهيب إلى المجلس الإسلامي في بيتروغراد في 25 ديسمبر 1917، وقد أُعلن يوم الجمعة، يوم الاحتفال الديني بالنسبة للمسلمين، يوم الإجازة الرسمية في كل آسيا الوسطى.
ختامًا، تبقى مسألة الإلحاد ليست حكرا على الشيوعية فحسب، بل هي فلسفة مستقلة بذاتها، وقد تكون وليدة عقل علمي أو حالة مزاجية.
(المصدر: مدونات الجزيرة)