كتاب الثورة 11| بنية الثورة المضادة ـ البعد العالمي
تأليف محمد القدوسي
يقول د. جمال حمدان: “ولربما كانت الجغرافيا أحيانا صماء، ولكن ما أكثر ما كان التاريخ لسانها. ولقد قيل بحق إن التاريخ ظل الإنسان على الأرض، بمثل ما إن الجغرافيا ظل الأرض على الزمان، بينما يضيف قول آخر أن معظم التاريخ إن لم يكن “جغرافيا متحركة” فإن بعضه على الأقل “جغرافيا متنكرة””(1 ). وحسب الجغرافيا فإن السمت المميز لعالم اليوم هو أنه عالم الحد الأقصى من التوسع الإمبريالي، لأكبر إمبراطورية عرفها التاريخ، يقع مركزها “الولايات المتحدة” في أقصى غرب الكرة الأرضية، وتصل هيمنتها حتى أقصى شرق الكوكب في شرق آسيا، محكمة قبضة نفوذ صارم حول الأرض كلها، لدرجة أنها تسمي الدول التي لم تستسلم بعد، أو لم تستسلم تماما “الدول المارقة” في تأكيد لاعتبارها أن الاستسلام هو الأصل وما عداه مروق، ومانحة “خط التاريخ الدولي”(2 ) وظيفة جديدة، فهو الخط الوهمي الفاصل بين مركز الإمبراطورية الأمريكية ومنطقة هيمنتها في الحد الآخر من العالم، تلك المنطقة الأقرب بحساب الجوار، والأبعد بحساب أقصى الغرب وأقصى الشرق.
هكذا نكون، وللمرة الأولى، بصدد إمبراطورية بلغت أقصى توسع أفقي ممكن، إمبراطورية لو كان للأرض حافة لسقطت منها، ولم يعد أمامها ـ عدا استكمال إخضاع التفاصيل المارقة ـ إلا التوسع رأسيا بتعميق نفوذها حتى تستمر في النمو، الذي يعني التوقف عنه التفسخ والانهيار.
امبراطورية تهيمن على العالم كله، بكل معاني الهيمنة، فمركزها “الولايات المتحدة” يملك موارد تمثل نحو ربع الاقتصاد العالمي (حسب إحصاء وزارة الزراعة الأمريكية للناتج المحلي الإجمالي العالمي الحقيقي، حققت الولايات المتحدة أعلى حصة لها وكانت 28.69% من الاقتصاد العالمي في العام 1960، بينما كانت أقل حصة 21.42% في العام 2011) لكن الإمبراطورية تدير نحو ثلثي موارد العالم (أي أنها، وبفضل نفوذها، تدير وتهيمن على أكثر من ضعفي ما تملك) وهي تسيطر على سوق الطاقة، وعلى الشركات متعددة الجنسيات.
وعلى الصعيد العسكري، فإن العالم بالنسبة للإمبراطورية الأمريكية ليس أكثر من كرة مقسمة إلى 6 مناطق لنفوذها، هي: أمريكا الشمالية، أمريكا الجنوبية، أوربا، المحيط الهادي، المنطقة المركزية (الشرق الأوسط)، أفريقيا. وهي تملك قواعد ومطارات وأساطيل وبوارج في كل هذه المناطق على النحو الذي تراه كافيا لتحقيق ما تسميه “أمنها القومي”(3 )، مؤمنة بأن “الجنرال” يبقى صاحب الدور المحوري الذي لا يمكن أن يقوم به غيره، وهو ما عبر عنه “ريتشارد نيكسون” في كتابه “الفرصة السانحة”، ردا على من يقولون إن الاقتصاد سلاح المستقبل، إذ كتب يقول: “لا يمكن إنكار القوة الاقتصادية، ولكن الأمن القومي لا يتحقق من خلالها”(4 ).
ولعل الشعور بهذه القوة المطلقة هو ما دفع “فرانسيس فوكوياما” إلى أن يطلق في كتابه ” نهاية التاريخ والإنسان الأخير” دعوة للاستسلام (المطلق أيضا) أمامها، مرددا الحجة الأساسية ـ التي لا تخلو من وقاحة ـ للثورة المضادة، وهي الدعوة إلى الالتزام بالطاعة العمياء، مع تحمل الآلام والإحباطات، حيث يصرح بأن هذا العالم لن يقدم مستقبلا أفضل، ومع ذلك فلا بديل له، ولا حل لهذه المعضلة لأن التاريخ انتهى، قائلا: “إذا كنا وصلنا الآن إلى نقطة حيث لا يمكننا أن نتخيل عالما بديلا يختلف عن عالمنا، الذي لا يقدم لنا طريقا واضحا للحصول على مستقبل أفضل، لذا يجب أن نأخذ في الاعتبار إمكانية أن يكون التاريخ نفسه بالمثل قد انتهى”(5 ). وهكذا فإن طرحه لفكرة “نهاية التاريخ” بمعنى بقاء الحال على ما هي عليه من الآن وإلى الأبد، ليس إلا تجليا من تجليات الثورة المضادة باعتبارها “منع الاستجابة لعوامل الثورة على الرغم من وجود هذه العوامل”.
والواقع أن “فوكوياما” ليس أكثر من متحدث بلسان الثورة المضادة على الصعيد العالمي، حتى وهو ينفي ـ بضربة واحدة ـ في آخر فقرات كتابه حتمية ما طرحه عن “نهاية للتاريخ” بمعنى انتهاء الأيديولوجيا إلى الإجماع الإنساني على “النموذج الأمريكي” وهي الفقرة التي يقول فيها: “لقد كان ألكسندر كوجيف يعتقد أن التاريخ نفسه سوف ينتهي باستعادة عقلانيته الخاصة: فعدد العربات التي انجذبت إلى المدينة كاف كي يقر كل شخص عاقل، بعد تفحصه الوضع، بأنه لا توجد إلا رحلة واحدة ووجهة وحيدة. من المشكوك فيه أن نكون ـ على الرغم من الثورة الليبرالية التي هزت العالم ـ قد بلغنا هذه النقطة الآن، فالشهادات التي بوسعنا جمعها حول اتجاه هجرة العربات لا تسمح لنا بالاستنتاج، وليس بمقدورنا، في التحليل الأخير، وما إن يصل أغلب العربات إلى المدينة نفسها، أن نعرف إذا ما كان ركابها، وبعد أن يكونوا قد ألقوا نظرة استطلاعية حولهم، سوف يجدون الأمكنة غير ملائمة، ومن ثم يزمعون السفر في سبيل رحلة جديدة طويلة”( 6).
وإذا فإن الانتصار النهائي للديمقراطية الليبرالية، كما طرحه “فوكوياما”، وكما نفهم من فقرة الختام، هو “الاحتمال الأرجح” لكنه ليس “المصير المحتوم”، وهو أمر يبدو ـ على الأقل ـ الأكثر تواضعا بين ما يطرحه الكتاب، لكننا إذ نغض النظر عن التواضع والتفاخر، نجد الفقرة أشبه بـ”الطلب الاحتياطي” في ختام مرافعات المحامين. المحامي يطلب ـ أصليا ـ البراءة، واحتياطيا يطلب استعمال الرأفة، و”فوكوياما” ينفي ـ أصليا ـ احتمال التغيير، مشيرا إلى أن التاريخ قد توقف عند النموذج الأمريكي ولن يتجاوزه لأنه النظام الأفضل، واحتياطيا يقول: لا يمكن الحكم على النموذج قبل أن يسود العالم ويخضع له الجميع، يعني: اخضعوا للنظام أولا ثم قيموه! وهي الصيغة نفسها التي يعتمدها دعاة كل مستبد “أعطوه الفرصة أولا ثم احكموا عليه”، والتي تنطوي على منطق يتنكر للديمقراطية نفسها، إذ يفترض أنها ممارسة واعية تعتمد على التقييم المسبق، والتقديرات المبنية على حقائق ومعلومات تتاح بشفافية، وليست مجرد اختيار عشوائي، ولا هي استكشاف لمجهول.
واستطرادا فإن “فوكوياما” في كتابه “بناء الدولة ـ النظام العالمي ومشكلة الحكم والإدارة في القرن الحادي والعشرين” يردد ما يقوله أي “دولجي” لا يقيم للإنسان وزنا، ويضع الدولة فوق الوطن نفسه، حيث يقول “قوة مؤسسات الدولة أكثر أهمية من مدى وظائف الدولة”!( 7) أي أن السطوة أهم من الدور، وهل يمكن لأي موال للاستبداد أن يجد عبارة أوضح من هذه يعبر بها عن عبوديته؟
وهكذا فإن أمريكا إمبراطورية لا يمكن تغييرها بآلياتها الخاصة من الداخل، فهي لا تعد بالتطور، بل تصرح بتوقف التاريخ وإغلاق بوابات المستقبل. ولا من الخارج، فسلطانها الذي يغطي كرة الأرض بتمامها لا يتيح أدنى فرصة لنمو قوة دولية أخرى قادرة على أن تزيحها ولو بعد حين، وليس أمام المتطلعين إلى التغيير إلا سبيل الثورة، التي يجب إدراك أنها ـ أنى كانت وأين كانت ـ ثورة تستهدف تغيير بنية المجتمع العالمي تغييرا جذريا لإسقاط هذه الإمبراطورية وفتح أبواب الحرية والعدل أمام البشر كلهم. ومن غير إدراك طبيعة هذه الثورة وأنها “واحدة ذات ساحات متعددة” كما كتبتُ معبرا عنها منذ انطلاق حراكها الأول في مستهل العام 2011(8 ) فإنها تظل، حتى وإن اندلعت، مجرد “هبة” محلية، قد تؤثر في بعض “المظهر” لبعض الوقت، لكنها لا تغير “البنية” وهو ما عبر عنه “ريتشارد نيكسون” في “الفرصة السانحة” حيث يقول: “التحولات الثورية قد تغير صورة العالم، وكيف يبدو، لكنها نادراً ما تغير الطريقة التي يعمل بها العالم”.
من هنا نفهم لماذا يستنجد المستبدون، عبر العالم، بالإمبراطورية الأمريكية حين يشعرون بأنشوطة الثورة تضيق حول أعناقهم، كما نفهم سر تخليها عن هوامش منتهية الصلاحية ـ كالقذافي ومبارك وبن علي ـ مقابل تمسكها الصارم بنظام الأسد رغم ارتفاع التكلفة، لأنها تحتاجه حتى هذه اللحظة ترسا في “الطريقة التي يعمل بها عالمها”. فالإمبراطورية الأمريكية ليست أكثر من “حكم عسكر” يحمل طرزين من طرز هذا الحكم، الأول خارج المركز والآخر داخل المركز.
خارج المركز يقوم حكم الإمبراطورية على “الجنرال” أي القوة العسكرية الأمريكية في القلب (وهو ما تشير إليه عبارة نيكسون التي أوردناها من قبل) ومن حوله الأقليات التي تهيمن بها الإمبراطورية على الدول الخاضعة والتابعة، والركن الثالث استبعاد الأغلبية، متمثلة في الشعوب المحكومة بالقوى الخاضعة والتابعة.
وداخل المركز “الولايات المتحدة” نجد الأغلبية المستبعدة، ونجد أيضا الجنرال في القلب، لكنه جنرال يمثل ويحمي “الأقلية المتسيدة” التي تحتكر صناعة وتوجيه السلطة والثروة، مهما (تنازلت) عن قسم من (وظائفهما) لغيرها من المنتمين لأقليات أخرى (حيث يتكون المجتمع الأمريكي من طيف من الأقليات) ممن تختارهم حسب مصلحتها وولائهم لها، فهم “موظفوها” في نهاية الأمر. ولا أشير بالأقلية المتسيدة إلى (WASP) أي (البيض الأنغلوساكسون البروتستانت) وهي الفئة التي ينتمي إليها كل رؤساء الولايات المتحدة عدا باراك أوباما (أسود) وجون كنيدي (كاثوليك) بل إلى أصحاب المال والسلطة من هؤلاء، فحتى داخل (WASP) هناك مستبعدون، هم هؤلاء الذين ينتمون إلى شريحة تتسع رقعتها يوما بعد يوم، وتعرف بـ”الزنوج البيض” أو البيض الذين يعنون لما يعنو له السود من اضطهاد وتمييز، والذين يعيشون على قروض يموتون وهم يلهثون لسدادها.
أما السود أنفسهم وذوو الأصول الإسبانية والبرتغالية والآسيوية والمهاجرون الجدد، فحدث عن العنصرية ولا حرج، وحسب استطلاع للرأي شاركت في إجرائه شبكة “ABC ” الأمريكية الإخبارية مع صحيفة ذا واشنطن بوست، في بداية العقد الثاني من القرن الحالي، حول مستقبل التعايش المشترك بين السود والبيض، قال 60% من السود إن العلاقات مع البيض هزيلة أو ليست على ما يرام، ووصف أكثر من نصف البيض اختيار رئيس أسود للبلاد بأنه أمر خطير. واقتصاديا يعاني السود سوء الأحوال الاقتصادية أكثر مما كان الأمر عليه قبل 20 عاما، فهم مهمشون في جميع مجالات الحياة، وتتضاعف نسبة البطالة بينهم عن نسبتها بين البيض، كما أن متوسط دخلهم أقل بنسبة الثلث من المتوسط العام لدخل الفرد في الولايات المتحدة، ونسبة السود الفقراء أكثر بثلاث مرات من البيض، والمجال الوحيد الذي يتفوق فيه السود هو السجون، فهم أكثر من 80% من السجناء في أمريكا!
ويقول الكاتب الأمريكي أفريقي الأصل “مايكل دايسون” في مقال نشرته “ذا نيويورك تايمز” في يوليو 2016: “إن السود مختلفون في حبهم وحياتهم ومماتهم، لكنهم يتفقون على شيء واحد يتمثل في أنهم لا يريدون أن يتم قتلهم على يد الشرطة، من دون أن تخاف الشرطة المثول أمام المحكمة ولا دخول السجن، بينما العالم يشاهد موتهم في مقاطع فيديو مسجلة”. ويمثل غير البيض أكثر من 40% من سكان الولايات المتحدة، ويزداد عددهم بنسبة 2.5% سنويا، مقابل 0.3% للبيض، لكنهم ـ حسب إحصاء العام 2002 ـ لا يمتلكون إلا 18 في المئة فقط من الشركات الأمريكية البالغ عددها 23 مليون شركة آنذاك، أي أنهم يمتلكون أقل من نصف حصتهم العادلة. وفي المقابل ارتفع متوسط دخل الأسر ذات الدخل المرتفع، في العقود الثلاثة بين العامين 1983 و2013، إلى الضعفين (من 318000 دولار إلى 639400 دولار سنويا) ليصبح مساويا لـ6.6 ضعف دخل الأسر ذات الدخل المتوسط، التي لم يزد دخلها إلا بنسبة لا تذكر، التهمها التضخم الذي شهدته الفترة نفسها، حيث زاد متوسط الدخل السنوي لمتوسطي الدخل خلال 30 سنة بنسبة إجمالية 2.3% مرتفعا من 94300 إلى 96500 دولار.
وتساند الأقلية المتسيدة في مركز الإمبراطورية الأقليات الحاكمة للدول الخاضعة والتابعة في أطرافها، سواء أكانت هذه الأقليات تحكم في صيغة الأقليات المتساندة، كما في مصر، أو كانت تحكم في صيغة الأقلية المتسيدة ـ كما في الكيان الصهيوني وسوريا، وهو المستهدف بالنسبة لمصر أيضا، وما نتناوله تفصيلا إن شاء الله عند الحديث عن الحسم الثوري.
وهكذا نقف بوضوح أمام وجهي العملة معا على صعيد العالم كله. نقف أمام الثورة والثورة المضادة، حيث الثورة هي الخيار الوحيد للتغيير والخلاص من هيمنة الإمبراطورية الأكبر في التاريخ، التي تقود الثورة المضادة، عبر عملاء محليين وإقليميين، ومباشرة إن لزم الأمر، باعتبارها السبيل الوحيدة للإبقاء على هيمنتها. وهو ما رأيناه ـ وما زلنا نراه ـ في الدعم الأمريكي لدولة الجنرال حيث كانت، وتجسد سوريا حالة نموذجية لمراحل القيادة الأمريكية للثورة المضادة، إذ دعمت في البداية الجنرال وأقليته المتسيدة من وراء ستار، ثم قدمت الدعم العسكري والاستخباراتي والاقتصادي، عبر دول الإقليم التابعة والخاضعة، ثم عبر روسيا، وعلى الصعيدين الإعلامي والسياسي أيضا استخدم “الحاوي/لاعب الخفة” الأمريكي كل أدواته متحاشيا الظهور المباشر، إلى أن أصبح مضطرا إليه.
ومن أدوات الإمبراطورية الأمريكية في هذا السياق استخدام الفيتو الروسي في مجلس الأمن بمعدل قياسي، 5 مرات خلال 5 سنوات، للحيلولة دون صدور قرار من مجلس الأمن ضد السلطة في سوريا، وللتذكرة فإن روسيا لم ترفع شكوى لمجلس الأمن مرة واحدة ضد الدرع الصاروخية الأمريكية التي تستهدف رؤوسها موسكو مباشرة، وتتواجد بطارياتها في بولندا ورومانيا اللتين كانتا فناءً خلفيا لروسيا الشيوعية، بل إن هذه الدرع تنطلق من “وارسو” العاصمة التي كانت مقر قيادة حلف موسكو الأحمر في مواجهة حلف الناتو الغربي، ومع ذلك لم نسمع بشكوى ولا فيتو ولا أي إجراء روسي بشأنها، واكتفت موسكو، من آن لآخر، بتصريحات تدل على “قلة الحيلة” من عينة: سنواجه الدرع الصاروخية الأمريكية! ما يعني أن روسيا لم تكن لتجسر على استخدام الفيتو، دفاعا عن سلطة الأقلية المتسيدة في سوريا، وبهذا المعدل القياسي، إلا بترتيبات أمريكية.
وفي السياق نفسه يمكن أن نقرأ قرارات جامعة الدول العربية، التي جاءت كلها مساندة للسلطة الحاكمة في سوريا، كما نفهم سر تراجع الخارجية السعودية وانتقالها من النقيض إلى النقيض، فبعد المباركة الأمريكية لتغيير خطة وراثة العرش بتكلفة نصف التريليون دولار، أقرت الرياض بقاء الأسد، بعد أن كانت تؤكد في كل المناسبات أنه لا يملك إلا الرحيل سواء ضمن عملية سياسية أو بالقوة العسكرية، ومع هذا الإقرار راحت تتهم جمعيات خيرية ومنظمات سياسية بالإرهاب لأنها “كانت تشترك معها في تقديم الدعم لثوار سوريا في مواجهة الأسد” فهل رأيتم “دليل اتهام” أعجب من هذا؟
وبعد أن أوشك دعم سلطة الأسد على الانهيار، لم تتوان أمريكا عن التدخل العسكري المباشر للإبقاء على هذه السلطة، غير مبالية بانكشاف وجود 10 قواعد أمريكية في الأراضي السورية، تتخذ مما يعرف بـ”قوات سوريا الديمقراطية” غطاء لها، منها قاعدتان جويتان، الأولى في منطقة رميلان بمحافظة الحسكة، وهي كبيرة بما يكفي لاستقبال طائرات شحن، والأخرى في بلدة خراب عشق بمحافظة حلب، وهي لا تستخدم إلا لهبوط المروحيات العسكرية. كما أقامت القوات الأمريكية موقعا عسكريا كبيرا في مدينة صرين بمحافظة حلب ويجري استخدامه لاستقبال طائرات الشحن العسكرية.
وتضم القواعد الأخرى بطاريات مدفعية ذات قدرات عالية على المناورة، ومنظومات راجمات صواريخ، ومعدات متنقلة لتنفيذ عمليات الاستطلاع ومدرعات للقيام بدوريات، ويتواجد فيها قوات أمريكية وفرنسية. ولضمان أمن قواعدها العسكرية، فإن أمريكا تعلن محيطها ضمن ما يسمى “الأراضي المحظورة”.
هذا “الارتباط المصيري” المعلن الذي يضع “الثورة” في مواجهة “الإمبراطورية” نقيضين لا يمكن أن يجتمعا معا، لا يتجلى فقط في قيادة الإمبراطورية للثورة المضادة، لكننا رأيناه واضحا أيضا في وجه العملة الآخر، أي في الثورة نفسها، ممثلا في حركة “احتلوا وول ستريت” إرهاصة الثورة العالمية التي واكبت الربيع العربي، معلنة رفض الاحتكارات والتلاعبات التي أدت إلى انهيار أسعار الأسهم وتضرر مئات الآلاف من صغار المستثمرين والبسطاء، وبدأت بمسيرة داخل وول ستريت، تضم نحو 100 شخص، انطلقت في 17 من سبتمبر/أيلول 2011، واستمرت أسبوعا تزايد خلاله عدد المتظاهرين، ثم اعتقلت الشرطة 80 متظاهرا بذريعة “عرقلة المرور” ـ الذريعة نفسها التي استخدمها “السيسي” وغيره من العسكر الحكام في بلاد العرب، فترك المحتجون وول ستريت واتجهوا إلى “حديقة زوكوتي” التي ابتعدت عنها الشرطة باعتبارها مكانا عاما مفتوحا طوال اليوم.
وفي 29 من سبتمبر/أيلول قدمت الحركة شكوى ضد عنف الشرطة ومعاملتها العنصرية لأبناء لأقليات العرقية والدينية كالمسلمين المشاركين في الاحتجاجات. وتخطت الحركة للمرة الأولى حدود نيويورك، بمظاهرات في سان فرانسيسكو حاول فيها المحتجون اقتحام بنك المدينة المركزي ومعهد تشارلز شواب المالي، واعتقلت الشرطة اعتقال 6 منهم.
وفي اليوم التالي قطعت الشركة المالكة لحديقة زوكوتي الكهرباء عنها تضييقا على المحتجين، الذين قاموا بمسيرة ضمت نحو ألف شخص إلى مقر شرطة نيويورك، تطالب بالإفراج عن المعتقلين وإيقاف الاعتقالات، كما حاولت في الأول من أكتوبر/تشرين الأول القيام بمسيرة أخرى عبر جسر بروكلين، بمشاركة ألفين، اعتقلت الشرطة 700 منهم بالذريعة نفسها “عرقلة المرور”.
وفي 5 من أكتوبر/تشرين الأول انطلقت أكبر مسيرة منذ بداية الاحتجاجات في وول ستريت، بمشاركة تراوحت بين 5 إلى 12 ألف متظاهر، كما خرج متظاهرون في لوس أنجلوس وبوسطن وشيكاغو.
وبعد 3 أيام احتشد آلاف المتظاهرين في حديقة ميدان واشنطن بنيويورك، فقالت الشرطة إنها لن تسمح بتحويل الحديقة إلى “زوكوتي أخرى” وهو ما اعتبره المتظاهرون تصريحات مثيرة للاشمئزاز، وفي اليوم نفسه خرجت أول مظاهرة تدعم الحركة خارج الولايات المتحدة، وكانت في الصين.
شهدت الأيام التالية العديد من التظاهرات، وتهديدات السلطة للمحتجين، وإعلان الشركة المالكة لحديقة زوكوتي أنها ستجلي المحتجين بالقوة، ما أدى إلى تدفق الآلاف إليها دعما للمحتجين وتراجع الشركة، الذي اعتبره المحتجون نصرا واحتفلوا به (ألا يذكرك هذا باحتفالات إعلان تنحي مبارك في ميدان التحرير بالقاهرة؟) وفي 15 من أكتوبر/تشرين الأول أصبحت احتجاجات “احتلوا وول ستريت” حدثا عالميا، وغطت التظاهرات نحو 1500 مدينة في 25 دولة تضم عددا من الاقتصادات الكبرى في العالم، منها 100 مدينة في الولايات المتحدة، وذلك استجابة لبيان الحركة الذي طالب الشعوب بالانتفاض ضد الاحتكارات لأنها تستغلهم والحكومات لأنها لا تمثلهم، وتحولت الاحتجاجات إلى اشتباكات عنيفة في العاصمة روما، وأقل عنفا في مدن أخرى، واستمرت الاعتصامات في بعض المدن الأمريكية، ومنها نيويورك وواشنطن طوال الأسبوع التالي، لكن الشرطة هاجمت الاعتصامات في 16 من أكتوبر/تشرين الأول واعتقلت أكثر من 300 متظاهر في أمريكا.
واستمرت الاعتقالات والمحاكمات في الولايات المتحدة ولندن وروما وغيرها، للمتظاهرين الذين راحت أعدادهم تتراجع، ومع دخول الشتاء قارس البرودة دخلت الحركة بياتا شتويا، لم يخل من احتجاج هنا وآخر هناك، يؤكد أن الثورة التي خرجت الحركة تعبيرا عن جوهرها لم تمت، وهو المعنى الذي أشارت إليه استطلاعات الرأي، فوفقا لما نشرته مجلة تايم الأمريكية يؤيد 54% من الأمريكيين الحركة من حيث المبدأ، بينما يقول استطلاع لصحيفة وول ستريت إن نسبة التأييد 37% مقابل 18% من المعارضين لها، و45% لم يبدوا رأيا. وفي استطلاع لجامعة كويبينياك الأمريكية أبدى 87% تأييدهم لحق الحركة في تنظيم مظاهرات تعبر عن رأيها، وأبدى 67% موافقتهم على رؤية الحركة بينما عارضها 23%. وبين سكان نيويورك تجاوز مؤيدو الحركة 70%.
والخلاصة أن حركة “احتلوا وول ستريت” كتبت فصلا ثريا من فصول الحراك الثوري، ضمن الثورة الإنسانية الواحدة ذات الساحات المتعددة، فصلا تميز بأنه كان في مركز الإمبراطورية ونقاطها القوية، وعابه ضعف الحشد وغياب الدعم الحقيقي عنه الذي كان يجب أن يأتيه من مركز الثورة في بلادنا، إذ لم يدرك ثوار الربيع العربي، وهم حتى الآن لا يدركون بكل أسف، ضرورة التواصل مع إخوتهم ورفاقهم، والعجيب أن المنتسبين للربيع العربي، الذين يمارسون نشاطا سياسيا، أو يقيمون في مدن “احتلوا وول ستريت” أو يذهبون إليها زوارا، لم يعملوا بجد حتى الآن على التنسيق مع نشطاء هذه الحركة، التي تعرض حراكها لنفس ما تعرض له الربيع العربي من ثورة مضادة، باستخدام الأدوات نفسها، ومنها إثارة الصراعات العنصرية لتفتيت الصف الثوري وحرف البيئة عن موالاته، وعلى سبيل المثال فإن جمهورية التشيك، التي سجلت احتجاجا طويل النفس، حيث اعتصم فيها 3 آلاف من متظاهري الحركة أمام مقر إقامة رئيس الوزراء في العاصمة براغ، في 22 من أكتوبر/ تشرين الأول 2011، أي بعد أسبوع من تراجع الحراك في مركز الإمبراطورية، هي أيضا جمهورية التشيك التي برر رئيسها بعد هذا التاريخ بأربع سنوات، وفي 29 من أكتوبر/تشرين الأول 2015 اعتقال وطرد اللاجئين السوريين بأن نسائهم المحجبات سيحرمنه من جمال النساء!
هكذا إذا: حراك واحد، يتعرض لثورة مضادة واحدة، وحسم لا يمكن أن يتم إلا إذا أصبح الحشد واحدا ليكون قادرا على تغيير الطريقة التي يعمل بها العالم، ويتجاوز قدر الهبات والانتفاضات، فيا ثوار العالم: اتحدوا(9 ).
الهامش
1 شخصية مصر: دراسة في عبقرية المكان ـ د. جمال حمدان ـ دار الهلال ـ القاهرة ـ الجزء الأول ـ ص 13.
2 خط التاريخ الدولي (International Date Line ) أو خط التاريخ (Date Line ) خط وهمي يمتد بين القطب الجنوبي والقطب الشمالي، لتعيين الحدود الزمنية؛ إذ يفصل تاريخ كل يوم عن تاريخ اليوم الذي يليه، لذلك سمي خط التاريخ، حيث يمرّ من خط طول 180، ثم يتجه إلى الشرق عبر مضيق بيرينج؛ وذلك لتفادي تقسيم سيبيريا، ثم ينحرف هذا الخط غرباً ليشتمل على جزر أليوتيان مع ألاسكا، كما يسمح الانحراف الشرقي في جنوب خط الاستواء لبعض مجموعات الجزر أن تكون في اليوم نفسه مع نيوزيلندا.
3 في 25/9/2018 نشر موقع مجلة بوليتيكو الأمريكية خبرا عن مذكرة كتبها وزير الخارجية الأمريكي “مايك بومبيو” إلى الكونغرس تحت عنوان “بومبيو يبرر إرسال أموال لمصر في مذكرة تفصّل انتهاكات حقوق الإنسان” جاء فيه “في الشهر الماضي، كتب وزير الخارجية مايك بومبيو إلى الكونغرس ليشرح لماذا أفرج عن 195 مليون دولار من المساعدات العسكرية الأمريكية لمصر، والتي كانت إدارة ترمب قد حجبتها في وقت سابق بسبب مخاوف تتعلق بحقوق الإنسان. وترقى “مذكرة التبرير” التي تحدد القرار إلى إدانة قاسية لكيفية معاملة الحكومة المصرية لمواطنيها، ووصف عمليات القتل خارج نطاق القضاء والمحاكمات الجائرة والرقابة والأجواء القمعية بشكل عام. وفي إحدى نقاطها، تذكر مذكرة 21 من أغسطس/آب بصراحة: “أن المناخ العام لحقوق الإنسان في مصر مستمر في التدهور”. وتقدم الوثيقة، التي حصل عليها موقع بوليتيكو هذا الأسبوع، نظرة ثاقبة على واحدة من حالتين أخيرتين قرر فيها بومبيو أن مصالح الأمن القومي للولايات المتحدة يجب أن تتجاوز مخاوف حقوق الإنسان عندما يتعلق الأمر بتقديم الدعم العسكري للحلفاء الأجانب”.
4 الفرصة السانحة ـ ريتشارد نيكسون ـ دار الهلال ـ القاهرة ـ 1992م
5 نهاية التاريخ ـ فرانسيس فوكوياما ـ مراجعة وتقديم مطاع صفدي ـ ترجمة د.فؤاد شاهين ود.جميل قاسم ورضا الشايبي ـ طبعة مركز الإنماء القومي ـ بيروت ـ 1993م ـ
6 المصدر السابق، ص 311.
7 المصدر السابق
8 فرانسيس فوكوياما، بناء الدولة: النظام العالمي ومشكلة الحكم والإدارة في القرن الحادي والعشرين، ترجمة وتحقيق: مجاب الإمام ـ مكتبة العبيكان ـ 2009 ـ ص65
9 الآراء الواردة تعبر عن كتابها، ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر المعهد المصري للدراسات