احذروا “التّعاطف القاتل” مع العلماء المهدّدين بالإعدام
بقلم الشيخ محمد خير موسى
ما إن انتشرت التسريبات التي تفيد بنيّة سلطة محمّد بن سلمان إعدام ثلّة من العلماء المعتقلين حتّى شهدت مواقع التّواصل الاجتماعيّ والفضاء الافتراضيّ تعاطفًا واسعًا مع هؤلاء العلماء وحملاتٍ رافضة لهذه الجريمة المتوقّعة.
غيرَ أنَّ كثيرًا من هذه الكتابات حملت نوعًا من التّعاطف الصّادق لكنّه يصبّ في النّهاية في خدمة القاتل من حيث لم يقصد أو يتنبّه أصحابها.
وقد تجلّى هذا التّعاطف الصّادق ببعض العبارات والاقتباسات التي تُعلي قيمة الشّهادة في سبيل الله تعالى وتغبط هؤلاء العلماء على هذه الخاتمة المتوقّعة.
ومن هذه العبارات “وما عليهم ألّا يموتوا شهداء؟”، “كم نغبطكم على هذه الخاتمة” والشهادة تليق بكم”، “وما عليهم أن يقتلوا لنعيشَ أحرارًا”، و”إنَّ الشّهادة اصطفاء واتّخاذ واختيار، وغير ذلك من العبارات في هذه السياقات.
وكثر استحضار قول شيخ الإسلام ابن تيمية “ما يفعلُ أعدائي بي؟ حبسي خلوة، ونفيي سياحة، وقتلي شهادة”.
هذا الخطاب التّعاطفيّ خطابٌ صحيحٌ في مضمونه وأفكاره من حيثُ الأصل، لكنّ الإشكال يكمن في توقيته، فخطورتُه في الاتّكاء على صحّة الفكرة دون الالتفات إلى توقيتها إن كان مناسبًا أم غير مناسب، نافعًا أم ضارًّا.
ومن التّقريرات المنطقيّة أنّ القولَ والحكمَ قبلَ الفعل يختلف عن القول والحكم بعد الفعل من حيث طبيعته وأثره ومآلاتُه.
ومن الأمثلة الواضحة على هذا المعنى ما نقل عن ابن عبّاس رضي الله عنه أنه كان إذا جاء إليه رجلٌ لم يقتل فسأله: هل للقاتل توبة؟ فيقول له: لا توبة له، تخويفًا وتحذيرًا، فإذا جاءه من قتل فسأله: هل للقاتل توبة؟ قال: له توبة تيسيراً وتأليفًا.
ومثل هذا نقل عن الحسن البصري إذ جاءه رجل سأله: هل لقاتلٍ توبة؟ قال: نعم، ثمَّ جاءه آخر فقال: هل للقاتلِ توبة قال: لا، فقيل له في ذلك، فقال: توسّمت ُفي الأوّل أنّه قد قتل فقلت: نعم، وتوسّمت في الثاني أنه يريد أن يفعل فقلت: لا.
فالحديثُ عن الشّهادة والاصطفاء وغبطة الشّهداء على مآلِهم قد يصلح بعد أن يقع الفعل ـ لا سمح الله ـ لكنّه لا يصلح قبلَه مطلقًا.
وتكريسُ هذا النّوع من الخطاب في هذه المرحلة ينطوي على مخاطر جمّة من أهمّها:
أولًا: الانشغال عن الواجب الأصلي وهو منع حدوث الجريمة بالإغراق في الحديث عن مكانةِ العلماء واصطفائهم واتّخاذهم شهداء ممّا يصرف النّظر عن الجهة والقضيّة التي يجب تركيز النّظر والخطاب والجهد عليها.
ثانيًا: هذا الخطاب يتعامل مع التّهديدات وكأنّها وقعت فعلًا، وأنَّ هؤلاء العلماء قد استشهدوا مما يعني المساهمة في تهيئة الرّأي العام لتقبّل الجريمةِ تحت عنوان الخاتمة العظيمة التي نالها هؤلاء العلماء وأنَّهم هم الفائزون بنيلِهم الشّهادة، فهل هناك خدمة للمجرم أكثرَ من هذا التقبُّل والتَّمرير؟!
ما دمنا في مرحلة توقّع الجريمة فالواجب أن يكون الخطاب والجهد منصبًّا على حشد الطّاقات كلّها للحيلولة دون وقوعها.
وذلك من خلال تركيز الخطاب على فداحة الجريمة، وعلى المجرم وخطورة إقدامه على فعله، وتحريك الشّارع مشاعريًّا وسلوكيًّا لرفض تقبُّل الجريمة والعمل الجادّ على منع حدوثها.
وقد رسم لنا القرآن الكريم منهجيّةً واضحة في التّعامل والخطاب مع التّطاول الفرعونيّ وعزمه على قتل المصلحين، ففي سورة غافر يبيّن الله تعالى أنَّ فرعون قد أعلن عزمه على قتل موسى عليه الصّلاة والسّلام بتهمة الإفساد في الأرض وهي التّهمة ذاتها التي يُعتقل تحت ذريعتها العلماء والدّعاة في السّعوديّة ” وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَىٰ وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ”.
وهنا يرسمُ القرآن الكريم منهجيّة التّعامل مع هذا التّهديد من خلال مؤمن آل فرعون، حيث يقول تعالى: ” وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَن يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُم بِالْبَيِّنَاتِ مِن رَّبِّكُمْ وَإِن يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِن يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُم بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ * يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَن يَنصُرُنَا مِن بَأْسِ اللَّهِ إِن جَاءَنَا”
أولًا: المبادرة والخروج عن الصّمت مهما كلّف الثّمن؛ فمؤمن آل فرعون كان يكتم إيمانه لكنَّه في هذا الموقف لم يسعه الصّمت والسّكوت، بل أعلن عن نفسه وأفصح عن إيمانه وحدّد موقفه الرّافض بكلّ وضوح، وفي هذا رسالةٌ واضحةٌ إلى الذين ما زالوا متلفّعين بالصّمت والخذلان للعلماء خشيةً على فوات فرصة الحجّ والعمرة!!
ثانيًا: أعلن مؤمن آل فرعون بكلّ وضوح موقفه الرّافض لقتل موسى عليه الصّلاة والسّلام واستنكاره على فرعون وجنوده تهديدهم وعزمهم على هذه الجريمة، وركّز خطابه على الجريمة وفداحتها وتعرية المجرم وإسرافه وكذبه، ولم يتعرّض بالقول والخطاب إلى غبطة موسى عليه السّلام لنيلِه الشّهادة والخاتمة العظيمة!!
ثالثًا: توجيه الخطاب بشكلٍ واضحٍ للمجرم وقومه وأركانه تحذيرًا من مآلات الإقدام على الجريمة وأنَّ ملكهم وسلطتهم لن تنفعهم إن أقدموا على جريمتهم وتحذيرهم من بأس الله تعالى.
وكذلك وقع في السّيرة النبويّة ما يرسمُ منهجيّةً للتّعامل والخطاب مع التّهديدات والتّوقعات بإعدام العلماء والمصلحين، وذلك في بيعة الرّضوان.
فعندما منع المشركون النبيّ صلّى الله عليه وسلّم من دخول مكّة مع أصحابه عندما عزموا على العمرة واستقرّ بهم المقام في الحديبية؛ أرسل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عثمان بن عفّان رضي الله عنه سفيرًا إلى مكّة ليفاوض قريشًا لأجل دخول المسلمين لأداء العمرة.
سرَت شائعةٌ تقول بأنَّ عثمان رضي الله عنه قد قُتل، فدعا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أصحابه وبايعهم تحت الشّجرة على مواجهة قريش ومناجزتهم، وسمّيت بيعة الرّضوان لأنَّ الله تعالى رضي فيها عن المبايعين “لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا”
وبعدَ انتهاء هذه البيعة العظيمة وإذا عثمان رضي الله عنه يصل إليهم سالمًا يبشّرهم بأنَّ قريشًا عزمت على الصّلح وأنَّها سترسل وفدها المفاوض للاتفاق عليه.
وفي هذا المشهد منهجيّة مهمّةٌ في التّعامل تتجلّى فيي نقطتين أيضًا:
الأولى: التّعامل مع التسريبات التي تفيد بتهديد حياة المصلحين في أيدي المجرمين بجديّةٍ تامّة، وعدم تسفيهها أو التّقليل من شأنها، لاسيما إن كان للمجرمين سجلٌّ حافلٌ في القتل والإجرام، فقد تعامل النبيّ صلّى الله عليه وسلّم مع شائعة مقتل عثمان بجديّةٍ متناهية.
ثانيًا: استنفارُ الجهود والتّركيز على الخطاب والمواقف والإجراءات العمليّة الواجبة تجاه هذه التسريبات، فالنبيّ صلّى الله عليه وسلّم ركّزَ في الواجب تجاه الجريمة ولم يتحدّث عن اتّخاذ عثمان شهيدًا وحسن خاتمته وفوزه بالشّهادة!
وهذا يستدعي منّا مراجعة خطابنا التّعاطفيّ ومنهجيّة تعاملنا مع التّسريبات والتوقّعات بإعدام العلماء والمصلحين، وتجاه القضايا من هذا النّوع كي لا يكون تعاطفنا سهمًا قاتلًا في كنانة المجرم من حيثُ لا ندري.
(المصدر: الجزيرة)