مقالاتمقالات مختارة

العنف الشرعي.. كيف تحتكر السلطة العنف وتستمد منه وجودها؟

العنف الشرعي.. كيف تحتكر السلطة العنف وتستمد منه وجودها؟

بقلم أيوب واوجا

ارتبط اسم أدولف إيخمان في مخيلة اليهود بالهولوكوست والإبادة التي شنتها ألمانيا النازية في حقهم، فهذا الضابط النازي كان مسؤولا عن عمليات نقل اليهود بالقطارات وقتلهم في غرف الغاز، وبعد خسارة ألمانيا الحرب أمام الحلفاء وتفكك الحزب النازي، نجح الموساد الإسرائيلي في اعتقال أدولف ايخمان سنة 1960 الذي كان مختبأ في العاصمة الأرجنتينية بوينس أريس، وثم تهجيره للقدس في نفس السنة والحكم عليه بالإعدام.

وغير بعيد عن القاضي الذي أعلن الحكم بالإعدام في حق إيخمان، كانت الفيلسوفة الأمريكية ذات الأصول الألمانية حنا آرنت من بين الحشد الذي حضر لأطوار المحاكمة، وقد أصدرت حنا فيما بعد كتابا استلهمته من محاكمة إيخمان “إيخمان في القدس.. تقرير حول تفاهة الشر” وصفت فيه المحاكمة بكونها مسرحية مضحكة.

وقد عالجت حنا ارندت في كتابها إيخمان بكونه إنسانا آلة وسط نظام البيروقراطية التوتاليتارية، خضع لسحر اللاتفكير وإتباع الأوامر والانصياع لها، كما انها اعتبرت الحكم بالإعدام في حقه غير مبرر لأنه ظل طيلة المحاكمة يرفض الإقرار بذنبه بدعوى أنه لم تكن له أذنى نية شر اتجاه اليهود وكل ما فعله هو تنفيذ الأوامر، فقد ظل إيخمان يرى أن فعله مشروع ومبرر وعلى حد قول حنا ارندت فإنه لا يمكن أن يعاقب شخص واحد بما قام به نظام بأكمله فقد كان إيخمان ضحية ايضا للسلطة النازية.

شرعنة العنف عند حنا أرندت:

لا يمكن تخيل السلطة كسلطة دون عنف، وتقول حنا أرندت في كتابها “في العنف”: إن كانت السلطة لا تحتاج إلى تبرير فإن العنف هو ما يبررها ويجعلها مسيطرة. فلا يمكن تصور سلطة دون استحضار عتادها العسكري والأمني الذي تطبق به عنفها المشروع، ولهذا تشير حنا أرندت لكون كل من نظّر في السياسية لحد الان يتفق على هاته النقطة، ويقول ويرث ميلز: كل السياسات صراع حول السلطة، والعنف هو الشكل الأخير للسلطة” كما أكد ماكس فيبر بأن الدولة هي هيمنة الإنسان على الإنسان باستعمال العنف المشروع.

كما تشدد حنا ارندت على أن العالم ينتقل من حضارة القول إلى حضارة الفعل، فقد انتقل العالم من المحادثة والحوار إلى العنف والصراع، فالسياسة في فترة أفلاطون كانت مرتبطة بمفهوم الحكم بالعقل، وصارت مع فيبر وماركس مرتبطة بالحكم بالعنف وتطورت مع بورديو لتصير جهازا للتدجين يجرم الاختلاف في الرأي. وتفسر حنا هذا التغير في مفهوم السياسة بسبب اختراق التصور المراكسي للدولة لبعض الافهام، حيت صارت الدولة ترى نفسها كجهاز دوره حماية الطبقة المهيمنة فقط مما بلور نوعا جديدا من الدولة هو الدولة التسلطية والتي صار العنف داخلها يقوم بدور السلطة أي اخضاع الناس مما جعل السلطة مرادفا للعنف.

حين يتقادم العنف المادي يظهر الرمزي:

ينقسم العنف لصنفين: عنف مادي وهو ما يشكل ضررا فيزيائيا وعنف رمزي لا يظهر تأثيره على الجسد لكنه قادر على تغيير المفاهيم واستعمار الدول استعمارا ناعما، ويُعرف  الباحث الفرنسي بيير بورديو العنف الرمزي بكونه  عنفا لطيفا وعذبا وغير محسوس لا يمكن لضحاياه رؤيته يمارس عبر التواصل وتلقين المعارف. ويرى بيير بورديو أن العنف الرمزي اكثر خطورة من باقي انواع العنف لكونه عنفا بسيطا لا شعوريا وينكره ضحاياه لأنهم تعودوا عليه وترسخ في ذهنهم على أنه مصير محتوم ولذلك فهم لا يبدون أي نوع من المقاومة  ويتلقون هذا العنف عبر المدرسة والإعلام.

وإن كان الجمهور يعتبر الإعلام عموما والتلفزيون بشكل خاص أداة تثقيفية فبيير بورديو يعتبر التلفزيون يهدد الإنتاج الثقافي، فالتلفاز والصحافة حسب بيير بورديو تعمل بمنطق اللهات وراء الإقبال الجماهيري وبذلك تفرض نمطا ثقافيا محددا عبر آليات التزاوج بين رأس المال والتكنلوجيا  فقوة المنظومة الاعلامية تتضاعف عند اقترانها بسلطة رمزية لكونها تعمل بأسلوب الاختفاء الذي لا يؤثر إلا من خلال التعاون الذي تلقاه من طرف أغلبية الناس المعنيين بها والذين ينكرونها، وبتعبير بورديو فهي سلطة لا مرئية ولا تمارس إلا بتواطؤ منهم وهذا ما يطلق عليه العنف الرمزي.

أما عن موقفه اتجاه النظام التعليمي فقد كان بيير بورديو دائما معارضا للتعليم القائم على تلقيين المعلومات وانتقد المدارس ومناهجها، فالمدارس وريثة للنظام التعليمي التقليدي المُطعّمة من الاستعمار والبرجوازية لخدمتهما وهكذا فالمدرسة حاليا وسيلة لإعادة خلق العلاقات الاجتماعية السائدة في المجتمع وتحقق هيمنة الدولة وسيادتها بواسطة الاقناع والترويض حسب تعبير الطيب صالح “لقد انشؤوا المدارس ليعلمونا كيف نقول نعم بلغتهم”.

إن النظام التعليمي في المجتمعات الغارقة في التفاوت الطبقي يعتبر ألية من أليات ترسيخ النمط الاجتماعي السائد وهذا ما يظهر من خلال الفرص المتاحة لأبناء الطبقات المختلفة لولوج المعاهد والمدارس، كما أن المظهر الثاني للعنف الرمزي هو تنوع المدارس في المجتمع الواحد والمرتبطة بالأصول الطبقية للمتمدرسين فيها، فهذا التفاوت يعكس ويكرس التفاوت الطبقي ويطبع مع العنف الثقافي. ويقول المفكر الامريكي نعوم تشومسكي حول استراتيجية إلهاء الشعوب “يجب أن تكون جودة التعليم المقدم للطبقات الدنيا رديئة بشكل يعمق الفجوة بين تلك الطبقات والطبقات الراقية التي تشكل صفوة المجتمع وبذلك يصبح المجتمع عاجزا عن فهم التقنيات المستخدمة للسيطرة عليه واستعباده”.

أكثر المشاهد تأثيرا في رواية جورج أورويل هي مشاهد الاختزال الممنهج للغة التي يقوم بها النظام عبر محو كلمات وأفكار معينة حتى لا يستطيع الشعب ترجمة أحاسيسه ومعاناته بكلمات مناسبة

اثنان زائد اثنان يساوي خمسة:

لفهم الأسباب التي جعلت أدولف ايخمان يقوم بجرائمه في الحرب النازية، أجرى عالم النفس الاجتماعي ستانلي ميلجرام تجربة نفسية ليوضح على خلاصاتها سيكولوجيا الانصياع والطاعة، في هاته التجربة والتي تحتاج مقالا مفصلا فيها أثبت ميليجرام المدى الكبير والمرعب لقابلية الناس على الانصياع والطاعة للأوامر السلطوية ولو على حساب مبادئهم وضمائرهم، فالإنسان ينصاع ويغير سلوكه لكي يحظى بالقبول وسط المجموعة التي ينتمي لها.

من هذا المنطلق ترتكز رواية “1984” لجورج أرويل، حيت تدور الاحداث في عالم مستقبلي الكل فيه مراقب ويخضع لسلطة الأخ الاكبر، كما صور لنا جورج أورويل في روايته حاجة الأنظمة القمعية باستمرار لخلق اعداء، وبين لنا في الرواية كيف يخلق النظام هؤلاء الاعداء بأي طريقة عبر تهييج الرأي العام  وترويضه، ويقول المفكر الامريكي نعوم تشومسكي في هذا الصدد “تستخدم هاته الاستراتيجية عندما يريد من هم في السلطة أن يمرروا قرارات معينة قد لا توافق عليها الشعوب إلا في حضور الأزمة التي قد تجعل الناس أنفسهم يطالبون باتخاذ تلك القرارات وتعرف هاته الاستراتيجية بطريقة “المشكلة.. رد الفعل.. الحل” وتقوم عبر اختلاق مشكل يستدعي رد فعل الجمهور كترك العنف ينتشر مما يجعل الجمهور يخرج للمطالبة باتخاذ إجراءات وسياسات أمنية تحد من حريتهم”.

وأكثر المشاهد تأثيرا في رواية جورج أورويل هي مشاهد الاختزال الممنهج للغة التي يقوم بها النظام عبر محو كلمات وأفكار معينة حتى لا يستطيع الشعب ترجمة أحاسيسه ومعاناته بكلمات مناسبة، وفي ظل تنامي العنف الرمزي يقاوم بطل الرواية وينستون سميت هذا العنف عبر الكتابة والتواري بعيدا عن الأنظار مدركا أن الكتابة والوصف جريمة تعاقب بالإعدام، وتحت وطأة التعذيب في الأخير يعترف البطل  بأن اثنين زائد اثنين يساوي خمسة.. فقد اكتشف أن النظام قادر على “الدخول إلى داخلك وأن شيئا في أحشاءك قد مات واحترق”.

(المصدر: مدونات الجزيرة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى