مقالاتمقالات مختارة

صناعة الاستبداد وحقيقة الاستعباد.. الجذور وموارد الثبور

صناعة الاستبداد وحقيقة الاستعباد.. الجذور وموارد الثبور

بقلم حرزالله محمد لخضر

إن الحديث عن ظاهرة الاستبداد هو حديث عن مأساة بشرية أرّقَتِ الأمم الغابرة والحاضرة، هو حديث عن جاهلية سياسية قائمة على أركان التخلف والفقر والظلم والجهل، فالاستبداد السياسي هو أصل شقاء الأمم وتعطل حركية حياتها الفكرية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية، يقول المفكر عبد الرحمان الكواكبي رحمه الله في كتابه (طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد): “الاستبداد أعظم بلاء يتعجل الله به الانتقام من عباده الخاملين ولا يرفعه عنهم حتى يتوبوا توبة الأَنَفَةِ، نعم؛ الاستبداد أعظم بلاء لأنه وباء دائم بالفتن، وجدب مستمر بتعطيل الأعمال، وحريق متواصل بالسلب والغصب، وسيل جارف للعمران، وخوف يقطع القلوب، وظلام يعمي الأبصار، وألمٌ لا يفتر وصائل لا يرحم، وقصة سوء لا تنتهي”.

ولتشريح معضلة الاستبداد في التاريخ البشري يجب البحث في جذور هذا الوباء واستخلاص مكمن الداء، فهو قبل أن يكون نزوة في خصال المستبِد، هو طبع غالب في سجايا المستبَد المستعبد، الذي لا تبرح عنه شيمةُ التَّوْقِ إلى الاستعباد حتى لو رحل المستبِد. ولو تأملنا جيدا قصة بني إسرائيل في القرآن الكريم أمكننا استخلاص سبب بقاء الاستبداد في الشعوب حتى بعد رحيل أربابه، فقد ذكر القرآن ما عاناه بنو إسرائيل من بطش فرعون وجنوده وما سامهم به من العذاب المهين: “وَإِذْ نَجَّيْنَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوَءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءكُمْ وَفِي ذَلِكُم بَلاءٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ”(البقرة 49).

إلا أن الله دفع عنهم هذا البلاء من دون جهد منهم أو عناء، فأغرق فرعون وهامان وخسف الأرض بقارون، وابتعث أمة بني إسرائيل من جديد وأكرمهم بالمن والسلوى، لكن هل انتهت قصة الاستعباد في بني إسرائيل؟ هل تحرر الإسرائيليون من خسيسة الاستعباد بعد أن حررهم الله من مُستعبِدهم؟ الجواب هو في قوله تعالى: “ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِن بَعْدِهِ وَأَنتُمْ ظَالِمُونَ” (البقرة 92) أفيعقل هذا؟ انتقلوا من عبادة البشر إلى عبادة العجل؟ وأيُّ عجل؟

إن التحرر من الطاغية المستَعبِد لا يعني أبدا التحرر من خسيسة الاستعباد المستحكِمة في النفوس الذليلة، فبعض النفوس التي ألفت الضَّعَةَ والقهر؛ إذا لم تجد من يستعبدها صنعت لنفسها معبودا جديدا وطاغية مَرِيدًا لإشباع حاجتها من الاستعباد والدونية المتمكنة من نفسيتها، فتحرير الأنفس والعقول أصعب من تحرير الأوطان، وإرساء قيم الحرية والإباء هو لازم ضروري لوضع أسس الحكم الرشيد والتحول الاجتماعي الواعد، فالنفوس الأصيلة الحرة لا تتحرر بل هي من يحرر الآخرين.

وأولى سُبُلُ تحرير الأنفس هي تحرير العقول والأفكار من القناعات المرَضِيّة التي تورث الإستكانة والمهانة، لأنه كما قال العلامة البشير الابراهيمي: “محال أن يتحرر بدن يحمل عقلا عبدا!” ومفتاح التحرير هو بالوعي والتعلم والقراءة، ولهذا لما أراد الله أن يحرر العرب من براثن الجاهلية ابتدأهم بقوله “اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ” و“وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا” وثمت تكمن الحكمة البالغة في أولويات الإصلاح. لا تسقيني ماءَ الحياة ِ بذلة.. بل فاسقني بالعزَّ كاس الحنظل. ولتفصيل موضوع الاستبداد والاستعباد واستجلاء خلفياتهما النفسية، سنحاول تحديد طبائع كل من المستبِد والمستبَد.

أولا: طبائع المستبَد (المُسْتَعْبَدُ)

1- الحرص على تمجيد المستبِد وتجميل مساوئه وتحسين خطاياه.
2- النفاق هو الأسلوب المفضل في العلاقات العامة.
3- قلة المروءة والقابلية للتنازل عن المبادئ بحسب أهواء المستبدين.
4- الاستِئْسَادُ مع أخطاء الرعية والاستغفال مع خطايا المستبدين.
5- تقبل الفساد واستمراء الظلم والرضا بأحقر المكاسب.
6- القابلية لبيع الذمم والهوان والميوعة.
7- تفضيل المنطق التبريري لممارسات المستبِد وتحاشي المساءلة.
8- عدم التمييز بين الحقوق والطموحات بالنسبة للأفراد، والواجبات والإنجازات بالنسبة للمسؤول.
9- ربط بقاء الدولة والأمن ببقاء الزعيم؛ فبذهابه تعم الفوضى!
10- التمجيد المفرط للأشخاص عند قيامهم بواجباتهم!
11- تتبع القشور والهوامش على حساب الأصل والمركز.
12- الانشغال بالجدل العقيم والأجوف ونشر الفرقة على حساب الإصلاح والوعي المجتمعي.
13- السعي وراء المطامح الفردية والفئوية ولو بتضييع المصلحة الجماعية والوطنية.
14- الدوران حول شخص الزعيم وصفاته لا فكره وبرنامجه.

ثانيا: طبائع المُستبِد

1- الغرور والكبرياء وجنون العظمة.
2- حب الإمتداح والتملق وطلبه والاستكثار منه ولو كان زورا.
3- تقريب بطانة السوء وتوليتهم لتثبيت أركان حكمة واستبعاد أهل الكفاءة.
4- الاستئثار بالرأي والسلطة وأحادية الحكم والقرار.
5- التمتع بإذلال الشعوب وقهر إرادتها.
6- تفضيل التعامل خارج الأطر القانونية والتحلل من القيود الرقابية.
7- تزييف الحقائق ومحاربة قيم الحرية والوعي وربطها بالفتنة والمؤامرة.
8- التمكين للجهل وتسيِيد أهله واحتقار العلم وتهميش ذويه.
9- تجريم فعل النقد وربطه بالخيانة والمؤامرة.
10- الطغيان والغدر حتى بأهل الولاء والخوف الدائم من الانقلاب والثورة لكثرة مظالمه.
11- الحرص على تفريق الناس وبث الشكوك والخلاف.

هذه هي البيئة المثلى التي تنمو فيها بذور الاستبداد وسط تربة القهر والانكسار والاستعباد. كما أن منظومة الاستبداد لا يمكن لها أن تستقوي إلا بسواعد خمسة فئات من الناس وهم:
1- المستبدون: وهم الظلمة المتسلطون المستأثرون بالرأي والحكم: “إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا”. (القصص 04) “قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَىٰ وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ”. (غافر29).
2- المُمَوّلُون: وهم أصحاب المال الفاسد الذين يمكّنون للاستبداد بالمدد والعدة فيثبّتون أركان حكمه. “إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَىٰ فَبَغَىٰ عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ”(القصص 76).
3- المنتفعون: وهم كل من اعتاش على منائح ومطامع نظام الاستبداد، كعلماء الدين والنخب والأحزاب والتنظيمات وأهل الدَّلَفِ والزَّلَفِ: “فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالُوا لِفِرْعَوْنَ أَئِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِن كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ، قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذًا لَّمِنَ الْمُقَرَّبِينَ”. (الشعراء 41-42).
4- الإعلاميون: وهم المروجون لسياسات المستبد والمقدسون له الذين يعلون من شأنه ويسترون أخطاءه ويهاجمون منتقديه من المصلحين ويشوهونهم: “إِنَّ هَٰؤُلَاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ، وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ، وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ”(الشعراء 54-55-56) “وَقَالَ الْمَلَأُ مِن قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَىٰ وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ” (الأعراف 127).
5- الأشياع والأتباع: وهم السذج من الأتباع المؤيدون من دون علم ولا بصيرة، الذين يستخفهم المستبد بأقاويله وأباطيله: “فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ، إِنَّ هَٰؤُلَاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ، وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ” (الشعراء53-54-55) “وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَىٰ وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ”. (غافر26) “وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَّعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ، أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَىٰ إِلَٰهِ مُوسَىٰ وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا”. (غافر36-37). تلكم هي ركائز الاستبداد وجذور الاستعباد والنتيجة الحتمية هي: ألا وجود لمستبد من دون قوم فاسدين: “فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ”.(الزخرف 54).

(المصدر: مدونات الجزيرة)

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى